سرُّ اصطفاء الله تعالى لمريم عليها السلام على العالمين
بقلم د. علي الصلابي
ما زال السياق يواصل الحديث عن نِعم الله عزَّ وجل على آل عمران، وكيف اصطفاهم المولى عز وجل وفضلهم، حيث بدأ السياق بالحديث عن امرأة عمران واستجابة المولى لدعائها، وقبوله سبحانه لنذرها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (آل عمران: 42-43). وانتقل السياق إلى الحديث عن مريم عليها السلام ونشأتها الصالحة في رعاية الله وعنايته، وكفالة زكريا عليه السلام التي كانت توفيقاً من الله لمريم ولزكريا عليه السلام الذي دعا المولى بأن يرزقه الولد بعد أن رأى كرامةً لمريم واستجاب الله دعوته ورزقه بيحيى عليه السلام الذي جمع الله عز وجل له محاسن الصفات ومحامد الأخلاق، ثم يعود السياق مرة ثانية إلى مريم عليها السلام وإلى اصطفاء الله عز وجل لها.
لقد اختارها الله لهذا المقام الأسمى حيث جعلها من بيتٍ صالح، وقبلها قبولاً حسناً، وأنبتها نباتاً حسناً، وجعل زكريا لها كافلاً، وأجرى الكرامة على يديها إكراماً لها وإحساناً إليها، وهذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها أي اختارها؛ لكثرة عبادتها، وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس، وفي حقيقة اصطفائها عدة وجوه:
– منها أنه قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا لغيرها من الإناث.
– منها ما وقع لها من الكرامة حيث كان رزقها يأتيها من عند الله.
– منها أنه فرَّغها لعبادته وخصَّها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة.
– منها أنه أسمعها كلام الملائكة شفاهاً.أ
وفي قوله: (وإذ قالت الملائكة)، أي: اذكر وقت قول الملائكة لمريم، وهذا التذكير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل إنسان في الوجود يريد أن يعرف قصة مريم واصطفائها وتطهيرها وقيامها بعباد الله وشكره، وفي المصدر الأصيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه – القرآن الكريم – بيَّن الله عزَّوجل أنه أرسل ملائكة لتخبر مريم باصطفائها، كما أرسل ملائكة من قبل لزكريا لتبشره بيحيى عليهما السلام ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ (آل عمران: 39).
ولا غرابة في خطاب الملائكة لمريم، مع أنها ليست نبيّة؛ لأن هذا كان بأمر الله، فالله يرسل الملائكة لتخاطب الأنبياء، وهذا معروف وقد يرسل ملائكة لتخاطب صالحين وصالحات كما خاطبت امرأة إبراهيم عليه السلام، وأزالت استغرابها من حملها بإسحاق وهي عجوز عقيم. والمهم أن مريم عليها السلام رأت أمامها ملائكة، ولعلها رأتهم بعد ما تحولوا من صورتهم الملائكية إلى صورة بشرية، وأخبرت الملائكة مريم باصطفاء الله لها وتطهيرها واصطفائها على نساء العالمين.
في قوله: وَطَهَّرَكِ، أي طهرك من الأخلاق الرذيلة، وأعطاك الصفات الجميلة، وطهرك من الأكدار، والأدناس والأقذار والرذائل. وللطهارة مراتب أربع:
– المرتبة الأولى: تطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث والفضلات.
– المرتبة الثانية: تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام.
– المرتبة الثالثة: تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة.
– المرتبة الرابعة: تطهير السرّ عما سوى الله تعالى، وهي طهارة الأنبياء صلوت الله عليهم، والصديقيين.
والمقصود بطهارة مريم هو طهارتها بالإيمان الكبير العظيم العميق بالله عز وجل والطاعة لله سبحانه وتعالى من الكفر والمعصية، وطهارتها بالأخلاق الحميدة والصفات الحسنة من الأخلاق الذميمة والصفات القبيحة، ومن مسيس الرجال بأي حال من الأحوال، ومن تهمة اليهود حيث برأها المولى من افتراءاتهم، وجاءت براءتها على لسان المسيح عليه السلام وهو في المهد.
– الاصطفاء الأول: بمعنى الاجتباء والانتقاء، فالله اجتبى مريم وانتقاها من بين النساء، وأخذها من بينهم وجعلها محلّاً لتحقيق أمره (إن الله اصطفاك).
– والاصطفاء الثاني: (واصطفاك على نساء العالمين) ثمرة للاصطفاء الأول، ونتيجة له، فعندما اجتبى الله مريم واختارها من بين نساء العالمين، فقد فضلها على باقي نساء العالمين.
فلا تكرار في الحقيقة في الآية؛ لأن الاصطفاء في المرّة الثانية ليس بمعنى الاصطفاء في المرة الأولى، بل هو ثمرة له، وقد اصطفى الله تعالى مريم وانتقاها من بين النساء، ونشأها نشأة حسنة وأنبتها نباتاً حسناً وأسبغ عليها نعمه وتوفيقه ورعايته وألهم أمُّها أن تنذرها له وهي في بطنها، ليجعلها خالصة له محررة له وهيَّأ لها الحياة والعيش تحت كنف ورعاية نبيٍّ كريم هو زكريا عليه السلام، وقدَّم لها الرزق المنوَّع الشامل وهي في المحراب تكريماً لها.
ولم تتوفر هذه الأمور لأي امرأة غيرها، مهما بلغت من الصلاح والتقوى وهذا هو الاصطفاء الأول لها، القائم على الانتقاء والاجتباء، وبما أن الله اصطفاها وانتقاها، فقد صفَّاها وخلَّصها من الشوائب، وطهرها من الأدناس والأرجاس (وطهَّرك). واصطفاها الله على نساء العالمين، وفضّلها عليهن جميعاً في إنجابها الولد بدون أب، حيث خصَّها وحدها بهذه الآية الباهرة، والمعجزة الخارقة. ودلالة هذا الاصطفاء العظيم أمران مهمان:
وردت هذه الشهادة لمريم في القرآن الكريم، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخوض معركة فكرية شديدة مع النصارى، دليل أن القرآن كلام الله، ومظهر من مظاهر الإنصاف والعدل في الإسلام، والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى، وذلك لما لابس مولد عيسى عليه السلام من شبهات، لم يتورّع اليهود أن يُلصقوها بمريم الطاهرة، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس، فيزعمون أن وراءه سرَّاً لا يشرف.
وهنا تظهر عظمة هذا الدين، ويتبين مصدره عن يقين، فها هو محمد صلى الله عليه وسلم رسول الإسلام تلقى من أهل الكتاب – ومنهم النصارى – ما تلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات، وها هو ذا يحدّث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة، وتفضيلها على “نساء العالمين”، بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزّون بمريم، ويتخذون من تعظيمها مبرراً لعدم إيمانهم بمحمد، وبالدين الجديد. أيُّ صدق؟ وأيُّ عظمة؟ وأية دلال على مصدر هذا الدين، وصِدق صاحبه الأمين؟ إنه بتلقي (الحق) من ربه عن مريم وعن عيسى عليه السلام، فيعلن هذا الحق، في هذا المجال، ولو لم يكن رسولاً من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال.
إن ظاهر القرآن الكريم والأحاديث النبوية يقتضيان أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، ثم بعدها في الفضيلة فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ثم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ثم آسية بنت مزاحم، وقد بيَّنا الآيات الدالة على اصطفاء الله لها، أما أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمنها:
– قوله صلى الله عليه وسلم: “حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون”.
– وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كمل من الرجال كثر، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وأسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام”.
إن أهل الكمال من الرجال كثير لا يحصى عددهم، ولم يكمل من النساء غير هذه الأربع، ومع ذلك لم يبلغوا مرتبة النبوة. ومعنى الكمال: التناهي في الفضائل، والبرّ والتقوى والإحسان، وغير ذلك من الأخلاق والرفيعة والصفات الحميدة، والكمال في شيءٍ ما يكون حصوله للكمال أولى من غيره، والنبوة ليست أولى للنساء؛ لأن مبناها على الظهور، والدعوة إلى الله مع الاختلاط بجميع طبقات الشعب، على اختلاف عناصرها، وتباين مشاربها، ومناهجها، وحالهن: الاستتار، ولا تكون النبوة في حقهنَّ كمالاً، بل الكمال في حقهنَّ -الصدِّيقيَّة- وهي مرتبة عظيمة قريبة من النبوة. وفي الحديث السابق شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمريم بكمالها ورجاحة عقلها، ومقتضى ما نصَّ القرآن الكريم عليه أنها حازت المرتبة الأولى في الفضل.
—————————————————————————————————————————–
مراجــع البحث:
- د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام الحقيقة الكاملة، 2019م، ص (90 : 94).
- أحمد الشرقاوي، المرأة في القصص القرآني، دار السلام، القاهرة، ط1، 1421هـ، 2001م، 2/641.
- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط32، 2003م، 1/ 395 – 396.
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1419هـ – 1998م، 4/ 189- 192 .
- عمر سليمان الأشقر، قصص التوراة والانجيل في ضوء القرآن والسنة، دار النفائس، بيروت. لبنان، ط1، 1432هـ – 2011م، ص 325.
- الغزالي، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت. لبنان، ط1، د.ت، ص 1/125.
- ابن كثير، قصص الأنبياء، دار المعرفة، بيروت. لبنان، ط1، 2000م، ص 553.
- محمد الحجار، من قصص التنزيل، بيروت: دار البشائر الإسلامية، ط1، 1419هـ، 1999م، ص 514.
(المصدر: مدونات الجزيرة)