مقالاتمقالات مختارة

سر سيد أحمد خان.. هكذا خلده التاريخ وأفنى ناقديه

سر سيد أحمد خان.. هكذا خلده التاريخ وأفنى ناقديه

بقلم صبغة الله الهدوي

سر سيد أحمد خان، شخصية تاريخية قلما بحثت عنه الأقلام وطلبت وراءه الشاشات والنقاشات، إنه رجل صدع للأمة والأقليات التي عاشت ظروفا موجعة أيام الاستعمار البريطاني في الهند بضرورة تشييد صرح تعليمي قيادي ودعاهم إلى الثورة في الفكرة والتحلي بالنشاط والتحرر من كابوس الجمود والخمول والمناهضة لأجل التربية والتعليم، ووجه إليهم رسالة خالدة تدعوهم إلى التسلح والتماسك لمواجهة التحديات العصرية التي تكدست فوق العالمين العربي والإسلامي.

لأن الوقت الذي صادفه كان وقتا قاسيا بالنسبة إلى العالم الإسلامي أجمع، حين يختلج من التفكك والضياع والتشرذم، فأبدى أمامهم المنهج العملي المخطط ومكونات الحياة والوجود والسياسة وأيقظهم من رقاد طال أمده واشتدت وطأته، وكان منهجه يختلف تماما عن المناهج التقليدية التي مارسها مسلمو الهند، منهج من المعارضة العارمة والعنف مع الغرب، لكنه شيد فكرته وفجر ثورته من المداهنة والمساومة في بلاط أوربا ورجالها العمال، واستدعى أثرياءها إلى عناية المسلمين وتلبية طلبهم وعدم التعرض لهم وتخليتهم من الحملات المتركزة والنظرة القاتمة حولهم.

لكن الوقت لم يكن مناسبا للتجديد، ولم تكن الأوضاع سعيدة لمن يهتم بأمور السياسة خاصة بسياسة المسلمين، لأن سياستهم جرت على هامش الحياة وعلى يأس وقنوط قاتل، فوجه السيد فكرته على حياله، فرأى اتجاهات تسري بدون هدف مسدد، اتجاهات متجذرة من العنف والكراهية العمياء تجاه الغرب، التي لا تعترف بالخطاب المفتوح ولا بالنقاش عن حقيقة الأمور، فخرج عن الجادة وولّد نزعته الخاصة به.

عائلته

ولد سر سيد في17 أكتوبر 1857 في الجيل الرابع والثلاثين لسبط الرسول حسين الشهيد، ويحتمل أن والديه قدِما إلى أرياف دهلي أيام الملك أكبر أو شاهجهان، وكان والده السيد المتقي مقبولا ومحاطا بالناس، وكان له اعتراف واسع بين أهالي دهلي لما اتسم به بيته من العلم والدين، وكانت أمه بنت عالم حسابي مشهور هو فريد الدين أحمد، وكان خاله زين الدين أحمد ممن أثّروا تأثيرا بالغا في تشكيل أفكاره وتصميم آرائه، إذدفعه إلى التوجه إلى الأفكار العصرية والحلول الناجعة عليها والمبادئ التي تحتاج إليها الأمة المسلمة للتخلص من الأوبئة الاجتماعية والكارثة السياسية التي ستضرب عن قريب في مناخ الأقليات.

تشعبت خدماته وتفرعت غاياته وأشرف على عدة هيئات وقام بتنظيم الشباب وتوعيتهم في السياسة والذمة

وكانت والدته عزيزة النساء من أكرم النسوان، إذ راعت وتقطبت في تربية الأولاد والبنين، وكانت هي مدرسته الأولى ومعلمه الأول، أخذ منها القرآن والتعاليم الابتدائية، وتلقى الفارسية من حميد الدين، بل اتسع نطاق صداقته إلى أدباء وشعراء، مثل مرزا غالب، وتعمقت جذور صلته مع عمالقة الكتاب والمفكرين إلى أن نشأت في جوده مئات تتطلع إلى الحرية من مضايق الفكرة.

وبعد وفاة والده في 1838 تولى السيد ذمة العائلة، ودخل في مكتبة صدرى أمير كشرسدار لتوفية هذه الحقوق، ثم ارتقى إلى درجة منصف في آغرا وفتح فورسكري، واستقر في منصبه إلى درجة أن غيرت مجرى حياته الثورة الاستقلالية الأولى سنة 1857. وقد أعدم فيها عديد من أخواله واغتيل عشرات من أحفاده، وتفاقمت هذه الحادثة على أمه وعانت من الأزمات المستمرة حولها، حتى اختطفتها يد المنون بعد ذلك بأسابيع قليلة وفارقت روحه حاملة في طواياها أحلاما لم تزهر بعدُ.
وقد قال سر سيد حوله “ما آلمتني ولا أضرتني أنقاض البيوت المخربة ولا ضياع المال، بل اغتم قلبي ولواه فاقة عمت في قومي ووفاة أمي الحنون، وما كان لي أمنية للقيام هنا ولا رجاء من إعادة القوم مجده الضائع ومراجعة تاريخه التليد، لأن الاستعمار سادهم أي سيادة، ثم ألهمني إنه من البربرية أن أخليهم على حالة شعواء وأتركهم على بيد قفراء، بل عليَ ترقية تأملاتهم وتسديد أهدافهم، وإيصالهم إلى واحة الحياة حتى عزمت ألا أترك الهند ومسلميها وأن أعمل لهم ليل نهار”. من هنا تحركت عجلات سر سيد سريعا، واستهلت لحركة فكرية غيرت مسار السياسة التي سماها التاريخ “حركة علي غره”، وبدأت من رحاب جامعة علمية شامخة وسادت جميع مناحي الهند، أقاصيها ودوانيها، فأنجبت هذه الفكرة عشرات الكليات والمدارس.
وتوفيت زوجته في 1861 وهو لم يناهز الخمسين، واستبدّت به رغبة الزواج مرة ثانية ولكنه تخلص من قبضتها، وركز في الخدمات الاجتماعية وميدان العمل، وقام بترجمة الكتب والفلسفة من الإنجليزية إلى الأردوية، اللغة الأكثر تداولا في مسلمي الهند ونشرها بين عوامها حتى أثارت موجة من النهضة والانتفاضة في غمار السياسة، وقد تشعبت خدماته وتفرعت غاياته، وأشرف على عدة هيئات وقام بتنظيم الشباب وتوعيتهم عن السياسة والذمة، فأرسى هيئة علمية لإشاعة هذه العملية المشروعة تحت فكرته، واستعفى من منصب القضاء في بناراس قاصدا الخدمة في المجتمع والاستقطاب لأجله، وعبَر البحر للاطلاع على جامعتي أكسفورد وكامبريدج وتطبيق مناهجها في مسلمي الهند.
لم تلد الهند رجلا مثله، رجلا بسلوكياته النادرة التي تطاولت على ملكية العلماء واستبداديتهم (مواقع التواصل)
وقد عكستهذه الرحلة مدى فراسته وبصيرته في صناعة المستقبل للمهمشين والمطرودين من جادة السياسة. وبعد مغادرته إلى الهند أنشأ هيئة كبيرة لتوعية الأمة المسلمة وتدريبها على نهج عالجته جامعتا كمبريدج وأكسفورد، ودعا إليها سادة أجلاء من أمراء المسلمين وزعمائهم من شتى ولايات الدولة، وفيهم محسن الملك، قائد رابطة المسلمين آنذاك، وغيره من المفكرين والأدباء، ومن القصص التي تعبر عن عمق إخلاص سر سيد ووفائه لصالح الأمة، إنه في تلك اللية رقد محسن الملك في غرفة نوم لسر سيد ، ولكن لما انتصف الليل غاب عنه سر سيد وترك نومه، فخاف محسن الملك من غيابه وخرج من الغرفة طالبا عنه حتى صادفه في السدة باكيا ومنتحبا يتجول في شرفة البيت، فاستخبره محسن الملك “هل من نكبة أصابتك يا أخلي؟” فقال له، والدمع يبارز خده ويقلق قوله “أي نكبة أعظم من هذا، الأمة الإسلامية تنحط من درجة إلى أخرى وتنزلق من كل صراط دخلته، ولا أرى طافية النجاة لهم، ويا ليتني في الغد”، الغد الذي ستعقد فيه جلسة هيئة العلمية الكبيرة تحت رعايته.
وعلى امتداد من الدهر تحقق هذا الرجاء وجفت دمعته بعدما روت دوحة باسقة الأوراق وناضرة المنظر ومكتضة الأفنان، وتولى إدارة هيئتها لجنة تنضم من راجا جيكشن داس، ولورنس، والدكتور جاكسن، ومحمد عناية الله، وبعض من المفكرين الهنود وأعلام المسلمين آنذاك، حتى افتتحوا كلية محمدية إنجليزية توطئة لها في 1875، وقام بافتتاحها الملك ويليغتن، وقام سرسيد أحمد خان بخطبة بليغة وسط حضور فاعل من الملوك والقادة والزعماء، خطبة سلطت الضوء على أحلامه وعلى التوتر الاجتماعي الذي يقاسيه المسلمون، ومن كلماته القاذفة “هذه هي المؤسسة ممتازة من بين المؤسسات التي شهدتها الدولة في قديم تاريخها، من مؤسسات أسسها بعض من الرجال خاصة، ومن مؤسسات أسسها ملوك وأداروها بخراج المملكة، ولكن هذه المؤسسة ثمرة انبثقت من محاولات أمة وتمنياتهم، وتحقق هذا المبدأ النير خاضعا لمحاولات اجتماعية جبارة، وقفزة سباقة في معالم السياسة والتربية، سترسخ جذورها إلى تاريخ لم يشاهده الوطن من قبل”.
مرة كتب سرسيد نفسه عن “ربيبته” جامعة عليكرة “إنها لكلية تنافس جامعة كامبريدج وأكسفورد، وأهدافها تنشئة أبناء على حد مستوياتها”. وحاليا تقوم تلك الجامعة محققة أحلام سرسيد، وكأنها تبث وحي العلم والسلام، لقد مر عليها التاريخ وتخرج من رحابها مئات من القادة والزعماء الذين أصبحوا بعدُ بوصلة الأمة ومعبر الأيام ورئاسة الدولة. ثم لم تلد الهند رجلا مثله، رجلا بسلوكياته النادرة التي ربما جرحت جادة التراث والتقليد، والتي تطاولت على ملكية العلماء واستبداديتهم، لكنه كان بطلا بكل معناه، وإن ضجت حوله صوتيات بلا روح ونشرت له خانات بلا معنى لأنه ولد من عرين الأسود جامعة تحتضن الأمة بلمستها الحانية، هكذا خلده التاريخ وأفنى ناقديه، ومجّده الزمان وقدسه الأجيال.
(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى