مقالاتمقالات مختارة

سايكس بيكو الثانية.. استئناف دور الأمة وصمود تركيا

سايكس بيكو الثانية.. استئناف دور الأمة وصمود تركيا

بقلم أبو يعرب المرزوقي

لما نجح أوغلو في بلدية اسطنبول في المرة الأولى كنت واثقا أنه سينجح في المرة الثانية وحتى العاشرة لو تكررت الانتخابات البلدية. لماذا؟ لأني من البداية لم اعتبر نجاحه بسبب علمانيته ولا حتى بسبب تآكل شعبية حزب حاكم منذ مدة طويلة. منذئذ اعتقدت ولا زلت أن المعركة في تركيا مثل المعركة ا لتي عندنا نحن العرب. إنها معركة التحرر التي صارت حربا أهلية بين رؤيتين للإسلام:

1- فـمن هزم ممثلي الإسلام الذي يريد للأمة أن تستأنف دورها ليس العلماني ولا التآكل رغم ما لهما من دور. لكنه دور ثانوي.

2- من هزمهم هم ممثلو إسلام آخر يريد بقاء الحال التي عليها الأمة منذ بداية الانحطاط خاضعة لعبيد الحماة ممن يسمونهم أولي الأمر أمراء وعلماء الاستبداد.

طبعا لا أنفي أن العلمانيين استفادوا من هذه المعركة بين رؤيتي الإسلام ومعهم القوميين سواء كانوا أتراكا أو أكرادا أو علويين ومن خلفهم القوى التي تسعى لسايكس بيكو ثانية بعد تأكدهم من فشل الأولى بعلامتين لا يمكن التشكيك فيهما:

1- فشلت عملنة تركيا.

2- تعافى “الرجل المريض”.

والتيار الذي قاد المعركة ضد الحزب الحاكم هو نفسه الذي قام بالانقلاب الأخير وبنفس الدوافع والأيدي التي لم تعد خفية وهي المحركة للأحداث في الإقليم كله والموظفة لإيران وإسرائيل وروسا والثورة المضادة العربية أعني الإسلام الممثل لعصور الانحطاط والتابع ورمزه في تركيا حزب جولن ومن انضم إليه من توابع محميتي إسرائيل ومحميتي إيران من العربان ودورهم التمويل لأنهم أعجز من أن يكون له دور آخر.

وليس بالصدفة أن كان ما تجده من حرب على حكم تركيا الحالي ليس مقصورا على أهل تركيا بل كل من هم من جنسهم في كل أقطار الإقليم من المغرب إلى تركيا لهم نفس الموقف. ولذلك فأردوغان فهم أن معركته لا تقبل الفصل عن معركة هذا النوع من الرؤية التي بدأت تشمل شعوب الإقليم في ثورتها المباركة.

لا شك أن المعركة حتى داخليا ليست يسيرة سواء كان الداخل تركيا وحدها أو الإقليم كله. فالمعركة عالمية وليست محلية ولا حتى إقليمية. إنها معركة ظنها الاستعمار قد حسمت يوم أسقطوا الخلافة وقسموا أرضها بمشاركة نفس العملاء الحاليين وبنفس القيادة لأن لورانس العرب كان يمهد لوعد بلفور كما يمهدون الآن لوعد ترومب. واليوم تعددت اللورانسات بسبب فشل سايكس بيكو الأولى مرتين:

1-أولا لم ينجحوا في خلع الشعب التركي عن هويته الحضارية مع نفس الطموح التاريخي لخدمة الأمة أو على الـأقل للمشاركة في الاستئناف الذي يعم دار الإسلام.

2-وثانيا لم تصمد الحدود التي وضعها الاستعمار وهو من حيث لا يدري لما أراد مزيد التفتيت ألغاها ولم يحقق التفتيت وتلك هي المعركة الحالية:توحيد التاريخ يغلب تفتيت الجغرافيا.

لذلك فعندي أن معركة تركيا لم تعد بين إسلامي وعلماني بل هي في الحقيقة بين أحرارها-وهم موجودون حتى بين العلمانيين وإن كانوا قلة-وعبيد مستعمريها السابقين الذين بدأوا يخافون من عودة الرجل الذي كانوا يصفونه بالرجل المريض. تعافيه يخيفهم. وهذه المعركة ليست تركية بل تشمل كل الإقليم وكل دار الإسلام.

واعتقد أن القيادة التركية ليست غافلة عن ذلك. لكن التذكير ينفع دائما. فما لم يتأسس في تركيا دواء شاف لبديل إسلامي يتفوق على الإسلام الموظف ضد الاستئناف والتحرر من التبعية فتركيا ما تزال لم تخرج بعد من خطر الانتكاس. فقد يجتمع عليها التآكل الطبيعي لأي حزب حاكم مع تحالف كل من ذكرت.

فلا يمكن لأي إنسان له دراية بالتاريخ أن يصدق أن روسيا وإيران يريدان خيرا بتركيا حتى وإن كانا حاليا محتاجين للحلف معها للحد من الحصار المؤقت عليهما حتى يتخليا عن مطامعهما ويقتصرا على ما حددته أمريكا وإسرائيل لهما. ولذلك فالعداء الصامت حاليا علته أنهما لا يستطيعان الخروج عن سلطان أمريكا وإسرائيل من دون الاستناد إلى متنفس تركي.

فإذا أضفنا ما في تركيا نفسها من أعداء ممثلين لهؤلاء ومن أعداء ممثلين لأحفاد سايكس بيكو الأولى فإن صمود تركيا اعتبره من المعجزات والتأييد الإلهي. والمشكل أن الثورة الشعبية التي بدأت من تونس لم تساعد تركيا بل زادت في حمولة مهمتها لأنها لا تستطيع أن تتخلى عن شعوب الإقليم إذ هي تعلم أنها تستمد قوتها من شرعية مهمتها لكنها ليس لها القدرة على تتجاوز القدر الذي تقدمه لأنها محاطة بالأعداء وكاد اختراقها أن يقضي على نظامها لولا فزة وطنية في شعبها هي التي اعتبرها من المعجزات القدرية.

فعندما أراجع أحداث تلك الليلة التي بدأت مشئومة وانتهت مباركة لا أستطيع ألا أعتبر أن القدر قد تدخل بمكر إلهي خير لأن كل ما حدث لا يكاد يصدقه عقل. فصحفية علمانية مكنت رئيسا لم يكن بوسعه التواصل مع الشعب أن يبعث بتلك الشرارة التي ألهبت الحماس الوطني لدى شعب كان سابقا لا يحرك ساكنا في مثل ما وقع.

فالانقلاب لم يكن الأول وكان يمكن أن ينجح بل وكاد ينجح لو لم تحصل هذه المعجزة ولم يتمكن الرئيس من الوصول إلى حيز القدرة على الفعل والتواصل. وكما توقعت فقد جاء التصرف السياسي العقلاني والذكي بعد الانقلاب متجنبا للمعتاد من السلوك الأهوج بالرد على الانقلاب بما يشبهه من فعل عنيف.

سيطرت الحكمة على الرد فكان بطيئا وقضائيا وكان -حتى من دون أن أزعم لما نصحت به من راي- معتمدا على الروية واستغلال الإجراءات القضائية ليس للحسم السريع ككل قضاء انتقامي بل استعمل لتبريد المناخ وتهدئة الغضب إن صح التعبير لأن شعب تحققت فيه تلك المعجزة جدير بأن يكافأ كل من أخطأ فيه من فرصة ثانية والهدف هو المزيد من المصالحة.

وأعلم أن المرتزقة من المثقفين العرب يعتبرون كلامي على تركيا بهذه النغمة والحماسة دليلا على أني مرتزق مثلهم وأني عميل لتركيا. وهم معذورون. فكل إناء بما فيه يرشح وأنى لهم أن يفهموا أن في البشر نبلاء وشرفاء وإلا كيف يفسرون سلوك تلك الصحفية التركية التي ينبغي أن تعتبر قديسة لأنها أنقضت تركيا. لكن لو علموا أنـي أعتقد أن سايكس بيكو الثانية لن تنجح ما ظلت تركيا صامدة لعلموا أن مصير كل الإقليم رهن صمود تركيا. ونحن المغاربة عامة والتونسيين خاصة أدرى من بقية العرب الذين انساقوا وراء من يكنون العداء للخلافة من بين العرب سواء كانوا من بقايا الباطنية أو من بقايا الصليبية فصاروا أدوات للورانس.

فالمغرب الكبير من الجزائر إلى ليبيا (استثني المغرب الأقصى) كان يمكن أن يحصل له ما حصل للأندلس لأن شارل الخامس في موجة حرب الاسترداد احتل الجزائر وتونس ووصل إلى ليبيا وهي لم تكن كما هي الآن دولا منفصلة بل أرض أسلامية متحركة الحدود. ولم يحررها إلا الشعب بمساعدة جيش الخلافة.

موقف المغاربة بخلاف المشارقة -ربما بسبب بقايا الباطنية بين الشيعة وبقايا الصليبية بين المسيحيين في الشرق ودور المسألة الشرقية والجامعات الأمريكية والغربية في الشام وغباء بدو الخليج-لم يكن واردا أن يشاركوا في سايكس بيكو الأولى ولن يشاركوا في الحالية وإلا لما انطلقت الثورة من المغرب بدأت بالجزائر في عشرية القرن الماضي الأخيرة واستؤنفت في تونس في عشرة القرن الحالي الأولى. وعلى كل فما أكتبه حول سايكس بيكو ا لأولى والثانية هو لبيان العلاقة بين ثورة الشعوب العربية والنهضة التركية.

ولهذا السبب يحاول الذيلان إيران وإسرائيل بدوافع ذاتية وبأمر ممن يحركهما روسيا وأمريكا أن يعمموا سايكس بيكو الثانية لتشمل أرض المغرب الكبير فيحاولون استعمال علمانييه وخاصة المسألة القومية بين العرب والأمازيغ مثل نظيرتها بين العرب والأكراد والأتراك والمسألة الطائفية للتفتيت.

وبهذا المعنى فما يحدث في ليبيا والجزائر ليس بمعزل عن المعركة الكبرى في الإقليم وحتى ما يجري في السودان والقرن واليمن والخليج كل ذلك له علاقة ليس بصفقة القرن الخاصة بفلسطين-التي هي جزء من صفة القرن الكبرى أو سايكس الثانية فتكون هي من ثمراتها لتحقيق وعد ثان هو وعد ترامب بعد وعد بلفور.

تلك هي علة انشغالي بتركيا لأنها صارت محور كل هذه العملية تماما كما كانت محور العملية المجانسة لها خلال الحرب العالمية الأولى وسايكس بيكو الثانية. ومن له دراية بالتاريخ يعلم أن حرب الاسترداد البرتغالية تحالفت مع إيران الصفوية ضد الخلافة وأن روسيا حرمتها ثورة 17 مما تحلم به دائما.

فهي منذ بداية الحداثة الغربية كانت في حرب على الخلافة التي نزعت الكثير من جغرافيتها ونحن في تونس لنا بذلك دراية فجيشنا شارك في حرب القرم الأخيرة بعدد كبير من الأبطال والشهداء وكل العرب شاركوا في حماية الجزء الأوروبي من تركيا وهو ما تحتاج إليه روسيا لتسترد عاصمة الأرثوذوكسية.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى