إعداد الشيخ ونيس المبروك
طلب مني بعض الفضلاء ،كتابة ورقة قصيرة عن المسألة التي تتكرر مع قدوم عيد الفطر المبارك ؛ وهي “حكم إخراج زكاة الفطر نقدا” بالأوراق المالية المعروفة ، وسمعت أن هناك بعض الشباب ينكر على من يخرجها نقدا ، ولما كانت المسألة مبثوثة في كتب العلم فإني سأتجاوز التفصيل وألخص القول في نقاط موجزة ، سائلاً المولى أن ينفع بها ، مُرحبا بأي تصويبٍ لما فيها من خطأ .والمشاركة في نشرها إن وجدتم فيها نفعا .
***
1- زكاة الفطر فرض على كل مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثي ، باتفاق فقهاء المذاهب الإسلامية المعتبرة ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : ” فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين ” ، وهي “عبادة ” يشترط في صحتها إخلاص النية ، ويدفعها المقتدر عن نفسه ،وعن من يجب عليه نفقتهم من الوالدين أو الزوجة أو الولد ، …
***
2- الحكمة والمقصد من تشريعها هي : إغناء الفقراء والمحتاجين عن التسول والطلب يوم العيد ، و جبر التقصير الذي يصيب المسلم أثناء صومه ؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما : ” فرض رسول الله صلي الله عليه وسلم زكاة الفطر طهارة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين” . والأولى أن تدفع لفقراء البلد ، فإن تحققت الكفاية جاز دفعها خارجه، ومن السنة أن تدفع لأولي الأرحام من الفقراء، باستثناء من تجب عليهم النفقة .
***
3- يندب إخراج زكاة الفطر بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد ، ويجوز إخراجها قبل هذا الوقت بأيام لما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما : “وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين ” ، ولقول الإمام مالك رحمه الله : أخبرني نافع أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة.” وتأسيسا على ذلك، يجوز إخراج زكاة فطر هذا العام بداية من يوم الثلاثاء القادم لمن رأى حاجة في ذلك .
***
4- السنة في زكاة الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو إخراجها صاعا من طعام ، ولهذا اتفقت المذاهب على إخراجها من القمح أو الشعير أو الأرز أو التمر ، أو قوت البلد …..،عدا المذهب الحنفي الذي أجاز إخراجها نقودا ، والصاع هو مكيال قديم اختلف الفقهاء في تقديره ، وهو يعادل “2035” جراماً أي كيلوان وخمسة وثلاثون جراماً. بأوزاننا المعاصرة .
***
5- ذهب جمهور كبير من علماء السلف والخلف، إلى جواز إخراج زكاة الفطر نقدا ، ومن هؤلاء:سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، والإمام أبو حنيفة ، والحسن البصري ،وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء بن أبي رباح،وأبو إسحاق السبيعي ، وهو مذهب الإمام الثوري ، وإسحاق بن راهويه ، والإمام أبو ثور ،ورحج هذا الراي الإمام البخاري ، واختار الإفتاء به ابن تيميه إذا وجدت الحاجة واقتضت المصلحة ،وهو قول معتبر فى مذهب الشافعي، ورواية في مذهب أحمد. .. كما ذهب لجواز ذلك بعض المجامع الفقهية الكبرى المعاصرة، وجمهورمن فقهاء العصر، كالإمام القرضاوي ، والعلامة مصطفى الزرقا ،والدكتور على القره داغي ،ومفتي الديار الليبية العلامة الصادق الغرياني ،واستحسنها العلامة عبد الله بن بيه لمن يعيش في الغرب ، وأفتى بها العلامة أحمد بن الصديق الغماري الذي ألف رسالته (تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال) ذكر فيها اثنين وثلاثين دليلا على ذلك .
***
6- بينت مجموعة من الآثار أن العلة والمقصد من تشريع زكاة الفطر هو سد حاجة الفقير في هذا اليوم ، فزكاة الفطر هي عبادة لا تصح إلا بنية ، ولكنها ” معاملة ” معقولة المعنى، وسلوك اجتماعي تعاوني يحقق مصلحة المحتاج والفقير ، فأي وسيلة حققت تلك المصلحة وحافظت على جوهر النص وجب الأخذ بها، فالله عز وجل لم يتعبد الناس بأصناف من الطعام محددة ومخصصة، بل المطلوب هو سد خلة المحتاج، ويؤكد هذا ما اخرجه البخاري عن معاذ رضي الله عنه، أنه قال لأهل اليمن: ائتوني بعرْض ثيابٍ خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهونُ عليكم وخيرٌ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.” فلو كانت هذه الأصناف هي المعنية في الزكاة، لما خالف الصحابة ذلك وأخرجوا غيرها كالزبيب والسلت والأقط …، ولهذا قال المالكية والشافعية إن الأصناف الواردة في الحديث ليست تعبدية، ولا مقصودة لذاتها، و الواجب على المسلم أن يخرج فطرته من غالب قوت البلد .
***
7- من خصائص هذا الدين أن أحكامه جاءت للناس كافة في كل زمان ومكان، دون حرج وعنت على المكلف أينما كان، فإذا أجبرنا مسلمي السويد والدنمارك باستيراد بواخر القمح قبيل العيد من أجل توزيعها على فقراء أوروبا أو شحنها من جديد لمن ينتفع بالقمح والشعير ، فإن ذلك ينافي التيسير ورفع الحرج، ويضع الآصار والأغلال في أعناق من أراد بصدقته القربى إلى الله تعالى بحسب استطاعته. وقد أكد الواقع المعاش ،بأن دفع النقود في هذا العصر هو أيسر على المعطي، وأنفع للمحتاج ، لأن حاجات الفقير متنوعة ما بين دواء و لباس وتطبيب ،وترميم البيت ،… غير ذلك . فإرغامه على أخذ الحبوب قد يجعله يطوف بها، ثم يبيعها بثمن بخس من أجل الحصول على النقود، وبهذا نكون ساعدنا على شجع واستغلال التجار الكبار، وفرطنا في رفع حاجة الفقير يوم العيد، وفي ذلك عكس لمقصود الشارع الحكيم .
***
8- أوصي الشباب المتحمس بالترفق في الإنكار على من يخالف مشايخهم، فقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز الإنكار في مسائل الخلاف الفقهي المعتبرة، مادام في الأمر سعة، وتوسعة على الناس . قال سفيان الثوري رحمه الله : “إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه ” ، وقال الموفق ابن قدامة المقدسي رحمه الله :” لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه ؛فإنه لا إنكار على المجتهدات” وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله : ” الصحابة رضوان الله عليهم أجمعت على تسويغ الحكم بكل واحد من الأقاويل المختلف فيها، وإقرار المخالفين على ما ذهبوا إليه من الأقاويل “، وقال الإمام النووي رحمه الله: “العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه الأمة، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأنه على أحد المذهبين :كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين ، … والذي ينظر لموضوعنا هذا يجد أن العلماء اختلفوا قديما وحديثا حول هذه المسألة خلافا معتبرا ،ولكل منهم دليله .
كما أوصي إخواني بالتأني ،والنظر في أقوال العلماء الذين يخالفون مشايخهم، حتى تتسع صدورهم، ويتدربوا على ” أدب ” الإختلاف، وقديما قال الإمام المقري رحمه الله تعالى “تعلم الخلاف يتسع صدرك”.
***
شرح الله صدورنا بأنوار المعرفة ، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله ،وأولئك هم أولوا الألباب .
والله أعلم ، وعلمه أحكم ، صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
*المصدر : المركز المغاربي للدراسات