بقلم أ. أسامة شحادة
تمهيد:
هو أبو الفرج محمد جمال الدين القاسمي الكيلاني الحسني الدمشقي، وهو من أحفاد الشيخ عبد القادر الجيلاني من سلالة الحسن السبط، كان إمام الشام في عصره، نشأ مقلداً وصوفياً لكنه تحول لمنهج السلف، فأصبح داعياً للعلم والاجتهاد ومحاربة الجهل والتعصب، وقف حياته على العلم والتعليم، وكان هيناً ليناً في دعوته، وبرغم ما ألحقه به أعداؤه من الجهلة والمتعصبة من أذى إلا أنه لم ينشغل بهم.
كان من رجالات الإصلاح في نهاية عصر الدولة العثمانية وله صلات ومراسلات بعلماء عصره المصلحين في العديد من البلدان، فقد زار لبنان ومصر وفلسطين والأردن والمدينة المنورة، ورغم قصر عمره (49 سنة) ألا أنه ألف ما يزيد عن 100 مؤلف.
لخص العلامة رشيد رضا منهج القاسمي الإصلاحي في التأليف مقارنة مع شيخه وصديقه العلامة طاهر الجزائري فقال: “والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سببين في سعة الاطلاع وحسن الاختيار، إلا أن الجزائري كان أكثر اطلاعا على الكتب وولوعاً بالاستقصاء والبحث، والقاسمي أشد تحريا للإصلاح، وعناية بما ينفع جماهير الناس”[1].
وقد ترك القاسمي بعد وفاته عددا من التلاميذ أصبحوا هم علماء الشام، وعددا آخر أصبحوا هم ساسة الشام وقادته.
ولادته ونشأته العلمية:
ولد جمال الدين القاسمي في دمشق سنة 1282هـ / 1866م، في بيت علم وتقوى[2]، فقد كان جده عالماً فاضلاً، وكذلك كان أبوه، وهذه ميزة لجمال الدين، فقد درجت العادة في ذلك الزمان أن يتوارث الأبناء وظائف آبائهم الدينية كالإمامة والخطابة والإفتاء والقضاء، فوصل لهذه المناصب الجهلة والحمقى بالوراثة لا بالكفاءة، فانتشر الجهل والتعصب وقلة الدين، حتى كنت لا تجد في مدن وقرى بكاملها من يحسن القراءة والكتابة! بل وصل الحال أن المدارس على ندرتها كانت تدرس اللغة العربية ونحوها بالتركية على شيخ تركي!!
وقد فاقم من انتشار الجهل تواطؤ أصحاب المناصب الشرعية والسياسية على بقاء الجهل مخيماً حفاظاً على مكاسبهم ونفوذهم، ولذلك كانوا دوماً أعداء لكل مصلح ومحب للعلم.
درس القاسمي بداية على والده الشيخ محمد سعيد القاسمي، ثم درس في مكتب بالمدرسة الظاهرية، وحضر دروس الشيخ سليم العطار والشيخ بكرى العطار شيخ الشام، والشيخ محمد الخاني الذي علمه أوراد الطريقة النقشبندية والتي تركها لاحقاً. كان القاسمي يطالع كثيرا من الصغر ولا ينشغل باللعب مع أقرانه، ولذلك وجد في أوراقه عدة دفاتر فيها ملخصات ومنتخبات من مطالعته في الكتب – طبعاً نقصد المخطوطات – أطلق عليها اسم “سفينة” وعمره 15 سنة!! وقد كان محافظاً على وقته وله همة عالية في القراءة، قال عن نفسه: “وقد اتفق لي بحمده تعالى قراءة صحيح مسلم بتمامه رواية ودراية في أربعين يوماً، وقراءة سنن ابن ماجه كذلك في واحد وعشرين يوماً، وقراءة الموطأ كذلك في تسعة عشر يوماً… فدع عنك الكسل، واحرص على عزيز وقتك بدرس العلم وإحسان العمل”.
وقد حبب للقاسمي القراءة حتى قيل إنه قرأ واقتنى غالب ما طبع في عصره من كتب، وبيته يحتوي على مكتبة أسسها جده الشيخ قاسم ووسعها أبوه ونماها القاسمي بعد وفاة والده حتى تركها وفيها 2000 مجلد، وجعل لها غرفة خاصة وصنع فهرساً بكتبها، وتتميز مكتبة آل القاسمي بتنوعها الواسع وعدم اقتصارها على الكتب الشرعية، وأوقفها على ذريته وطلبة العلم ونشر إعلانا بذلك في الصحف، وهي لليوم مفتوحة للباحثين، فجزى الله أحفاد القاسمي على رعايتهم لوصية ووقف جدهم.
ولتميزه في طلب العلم وعدم اكتفائه بمكانة أبيه طلب بعض الطلبة منه أن يشرح لهم بعض مقدمات العلوم وعمره 14 سنة، فكان يدرسهم بعد المغرب قبل موعد درس أبيه، الذي كان يواظب على حضوره.
نشاطه العلمي والدعوي:
بدأ نشاطه الدعوي وعمره 21 سنة حين طلب بعض الفضلاء من والده سنة 1303هـ أن يرسل جمال الدين ليكون إماماً لهم في مسجدهم في الصلوات الخمس ويقيم الدروس لهم، فأذن له والده فأحيى جمال الدين مسجدهم بإمامة الصلوات وبدروسه في الصباح وبين العشائين.
ثم أصبح مدرساً في مدرسة عبد الله باشا العظيم والتي كانت إحدى حصون الدعوة إلى الإصلاح في العاصمة الأموية بحسب وصف العلامة محب الدين الخطيب إذ كان من المستفيدين منها، وكان من المدرسين فيها: العلامتان طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي ولكل واحد منهما غرفة يستقبل فيها تلاميذه.
وبسبب تميزه في التعليم والإصلاح تم اختياره – فيما يبدو – من قبل الوالي ضمن عدد من الفضلاء سنة 1309هـ لإلقاء دروس عامة في شهر رمضان في بعض النواحي من سوريا، فذهب إلى وادي العجم وسجل يوميات تلك الرحلة في كتاب بعنوان “بذل الهمم في موعظة أهل وادي العجم”، وفي السنة التالية اختار أن يذهب إلى قضاء النبك وألف فيها “حُسن السبك في الرحلة إلى قضاء النبك”، وطلب أيضاً في السنة التي تليها فذهب إلى بعلبك، وكرر الذهاب إليها في السنة التي تليها، ثم يبدو أنه طمع في تلك الرحلات بعض الطماعين البطالين الذين لا يهمّهم سوى المكافأة المالية فأبطلت الدولة تلك الرحلات، ويعلق القاسمي على ذلك بقوله: “مع أن بها النفع العام، لمن قام بها حق القيام”.
ويبدو أن هذه الرحلات فتحت عيون القاسمي لأحوال البلد ومقدار الجهل والخرافة والظلم الذي يحيق بالناس.
وفي سنة 1317هـ توفي والده فحزن عليه كثيراً، وقد قام العلامة عبدالرزاق البيطار والعلامة طاهر الجزائري بزيارة والي الشام برفقة القاسمي لتنصيبه مقام والده في إمامة وخطابة وتدريس مسجد السنانية وهو المسجد الذي كان يؤمه والده وجده من قبله، فتولى الإمامة والتدريس فيه للطلبة والعامة وألف فيه كثيرا من كتبه وأهمها تفسيره (محاسن التأويل) بين عامي 1317-1329هـ.
تحوله لمنهج السلف وما لقي من مصاعب بسبب ذلك:
نشأ القاسمي مثل أهل عصره على المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية والطريقة النقشبندية، ولكن لكونه طالب علم ذكيا ومتميزا ولأ والده وجده كانا من العلماء ولكونه كثير المطالعة، فقد سهل عليه أن يكتشف خطأ ما هو عليه وأن الحق هو في اتباع القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح، وليس بين أيدينا تصريح له أو لغيره بكيفية أو بتاريخ انتقاله لمنهج السلف على غرار قصة تحول رشيد رضا التي كتبها بنفسه، لكن لدينا بعض الإشارات التي قد تساعد على ذلك.
وقد يكون السبب في عدم تدوين هذه القصة هو طبيعة البيئة التي عاش في ظلها القاسمي، فهو كان في بيئة مقلقة له أمنياً، فالرسائل والكتب مراقبة، وبيته مهدد في أي لحظة بالتفتيش والبحث عن كتب أو رسائل من دعاة الإصلاح، فمثلاً حين كان يتراسل القاسمي مع بعض أصدقائه ويراد الإشارة إلى محمد كرد علي فإنهم يعبرون عنه بقولهم “صاحب اسم مفعول اقتبس”، نسبة لمجلته المقتبس!!
فإذا بحثنا عن سبب تحوله لمنهج السلف سنجد أن القاسمي عاصر الشيخ طاهر الجزائري والذي اشتهر ببعث كتب شيخ الإسلام من خلال نسخها وبيعها بأثمان رخيصة في سوق الوراقين، كما نجد أن القاسمي كان يحضر حلقة الشيخ طاهر الكبرى، بل كان زميلاً له في مدرسة عبدالله باشا وله غرفة يلتقي الطلاب فيها سنة 1311هـ تقريباً، ونجد أن طاهر الجزائري هو الذي سعى في تنصيب القاسمي إماما محل أبيه، وسنجد أن القاسمي رافق الشيخ طاهر الجزائري ليل نهار في سنة 1323هـ قبل هجرة الجزائري لمصر، كما أن الجزائري شارك القاسمي في تنقيح بعض مباحث كتابه قواعد التحديث.
ومن المتفق عليه بين المؤرخين لتلك الفترة أن الشيخ عبد الرزاق البيطار وهو من أجل علماء الشام كان والقاسمي صديقين حميمين برغم أن البيطار أسن من القاسمي بثلاثين سنة!! ومعلوم أن البيطار كان أيضا على خلاف منهج السلف ثم تحول إليه لكنه عرف ذلك متأخراً بخلاف القاسمي، وقد اشتهرت كلمة البيطار للقاسمي بخصوص تحوله لمنهج السلف مبكراً: “يا جمال.. احمد الله على أن انتهيت وأنت في سعة من عمرك، ولحيتك سوداء، فتتمكن من الاستمتاع بعقلك، ويتسع الوقت لنشر فضلك”.
ومعلوم أن البيطار أيضاً كان من رواد حلقة طاهر الجزائري، فالراجح عندى أن لطاهر الجزائري دورا مركزيا في تحول البيطار والقاسمي لمنهج السلف، برغم أن القاسمي هو الذي اختص واشتهر بنشر منهج السلف في الشام بعد عصر ابن تيمية وابن القيم، لأن القاسمي كان رجل عامة والجزائري كان رجل خاصة. ولعل هذا هو السبب الذي جعل القاسمي يقول عن طاهر الجزائري “الشيخ المفيد والمرقي الوحيد”!!
أما متى كان ذلك؟ فليس هناك تاريخ مؤكد إلا إشارات عامة أيضاً، ففي سنة 1306هـ ختم القاسمي أحد كتبه بقوله: “تم على يد مختصره الفقير محمد جمال الدين أبي الفرج القاسمي الأشعري الدمشقي النقشبندي الخالدي الشافعي”، وهذا يحدد لنا أن نبحث عن تاريخ تحوله بعد هذا التاريخ.
سنجد أن طاهر الجزائري في سنة 1311هـ تقريباً أمر محب الدين الخطيب وكان عمره 9 سنوات بالتردد على غرفة الأستاذ أحمد النويلاتي وجمال القاسمي بمدرسة عبدالله باشا، ونجد أن القاسمي والبيطار في سنة 1313هـ يتعرضون لمحنة عرفت باسم حادثة المجتهدين، حيث لفق لهم بعض الحاسدين تهمة ادعاء الاجتهاد!! وهي تهمة كانت رائجة في عصر الجمود والتعصب والتخلف، بينما يتهم السلفيون اليوم بالجمود!!
ونجد أن القاسمي يكتب في رسالة منه للعلامة نعمان الآلوسي سنة 1316هـ فيقول: “فإلى الله المشتكى من جماعة نبذوا الآثار ظهريا، وأضحى مذهب السلف بينهم نسياً منسياً، خلا جماعة من أحبابنا الصادقين، فإنهم في مشربهم السلفي عقد الشام الثمين، وقد نالتنا وإياهم محنة سلفت من نحو ثلاثة أعوام”، ويقصد حادثة المجددين.
وهذه الرسالة هي رد على الرسالة التي أجاز فيها الآلوسي القاسمي وأوصاه في آخرها بمنهج السلف فقال له: “وأوصي المجاز – القاسمي- باتباع مذهب السلف، فإنه أسلم بل أعلم وأحكم والسلوك في طريقهم الأقوم” وذلك سنة 1315هـ.
وهذا يدل على أن القاسمي لم يعد سلفياً فحسب بل إن حوله مجموعة سلفية، وأيضاً نجد القاسمي في ترجمته لوالده “بيت القصيد في ترجمة الوالد السعيد” يصرح بأن والده انتهج منهج السلف في آخر حياته، ووالده توفي سنة 1317هـ، وكان والده وأخوه محمد عيد قد انتصروا له حين أوقفه المفتي سنة 1313 من دون بقية زملائه في حادثة المجتهدين، وهذا فيه إشارة لتأييدهم لمذهب جمال خاصة أن والد جمال كان يحضُر هذه المجالس.
ومن هذا كله يمكن أن نقول إن القاسمي بدأ في التحول للسلفية من سنة 1310 تقريبا أو قبلها بقليل، ولكنه بقي يتطور حتى وصل لمرحلة رضي فيها عن نفسه وهي عام 1320، ولذلك نجده يصرح أنه غير راض عن كل ما كتبه قبل ذلك العام.
وبعد أن حاولنا تلمس كيفية وتاريخ تحول القاسمي للسلفية، نعرض للمحن التي تعرض لها بسبب ذلك، وقد لخص القاسمي ما تعرض له من اضطهاد في رسالة شخصية لرشيد رضا:
1- في سنة 1313 اتهم وبعض أصدقائه الذين وصفهم بالسلفيين بالاجتهاد، ولأنه كان أصغرهم سناً فقد أوقف ليلة من دونهم، ويجب أن نلاحظ أن التهمة الأولى للقاسمي ورفاقه وعلى رأسهم الشيخ عبدالرزاق البيطار كانت هي تهمة الاجتهاد ومحاولة قراءة كتب تفسير القرآن والحديث وكتب أصول الفقه، ولم توجه لهم تهمة الوهابية إلا بعد سنوات، كما أنهم في الجلسات التي اتهموا فيها بالاجتهاد كانوا أيضاً يدرسون كتاب “كشف الغمة” للشعراني الصوفي، وهذا يؤكد تطورهم التدريجي للسلفية بترك التعصب والجمود الفقهي بداية.
2- في سنة 1318 تم إيقاف السيد عبدالحميد الزهراوي مما أثار الخوف في نفوس أصدقائه ومنهم القاسمي، والذي جاءه البوليس ليلاً وطلب منه نسخته من كتاب الزهراوي الذي أوقف بسببه، مما يدل على شدة محاربة الأفكار الإصلاحية في ذلك الوقت.
3- وفي سنة 1322 زار دمشق قادما من مصر المحامى أحمد الحسيني وكان القاسمي تعرف به في القاهرة قبلها بسنة وأكرم القاسمي ورحب به، فلما جاء الشام ذهب لزيارته قياما بواجبه، فاستدعي من الوالي وحقق معه حول سبب زيارته له، وأمر القاسمي بقطع الصلة به، حيث اتهم بعض الوشاة الحسيني بأنه معادٍ للحكومة ومن دعاة الاجتهاد!
4- وفي سنة 1324 اتهم الشيخ عبدالرزاق البيطار بأنه وهابي وحقق معه ومع بعض طلابه، مما أثار الخوف والقلق في نفوسهم، واتهم القاسمي معه في ذلك، لكن ما انقذه من التحقيق أنه كان مسافراً مع الشيخ طاهر الجزائري إلى صيدا، وبقي هناك لمدة شهرين قلقا حتى هدأت الأمور وعاد.
5- وفي رمضان من نفس السنة 1324 أقام عليه الجامدون والمتعصبون والذين يسميهم القاسمي بالحشوية – كان يطلق قديماً على أهل السنة، فأصبح اليوم لقب أعدائهم- بسبب كتاب مجموع الأصول، والذي جمع فيه بعض الرسائل حول الاجتهاد ومن ضمنها رسالة لابن عربي الصوفي، لأن منهج القاسمي صدم هؤلاء المتعصبة الصوفية بكلام رموزهم. فكانوا يجتمعون في المسجد الأموي من العصر وحتى آخر الليل يسبون القاسمي ويتوعدونه لولا تدخل بعض الفضلاء، وقد كان القاسمي في تلك الفترة يعيش فترة صعبة قال عنها: ” ولكن كيف كان الصحب والآل، في هذه الليالي؟ حدث ولا حرج”.
6- في عام 1326 تم تفتيش منزله ومسجده بحثاً عن كتب ومراسلات ممنوعة، وصادروا ثلاثة أكياس كتب مطبوعة ومخطوطة، بقيت شهرين عندهم، ولما تقرر إرجاعها اعترض بعض الحشوية، فتقرر تحويلها للمحكمة الشرعية لفحصها، فبرأه القاضي، ولكن يقول القاسمي: “فماذا كان حال العائلة والأهل في هذه الأشهر؟”.
7- وفي رمضان من عام 1326 يزور محمد رشيد رضا دمشق ويعقد له درس في المسجد الأموي، فقامت قائمة الحشوية وهيجوا الناس عليه واتهموه بالوهابية، حتى اضطر لمغادرة دمشق، ولزم القاسمي بيته ثلاثة شهور أما البيطار فبقي 130 يوما لم يخرج من بيته، وذلك خوفا من أن يتعرضا لاعتداء من أحد في الشارع.
وقد نظم الأمير عادل أرسلان شقيق أمير البيان الأمير شكيب أرسلان قصيدة يسخر بها من هؤلاء الحشوية، وتكشف عن عمق الروابط بين المصلحين في ذلك الزمان قال فيها:
يا أيها الفقهاء أول من درى *** أن البطاطا شرح متن البامية
إني رأيت الشورباء حزينة *** أضحت على أذيالكم مترامية
فكلوا المحاشي والمواشي جملة *** تهتز من فوق بقول نامية
أظننتم الدستور حرم أكلها *** لا والذي خلق العقول السامية
ما دخل وهابيتي في أمركم *** ماذا اخترمت لتنكروا إسلاميه
هي شيعة لا تشتم الكوسا فما *** الداعي لتكفيري ودق عظامية
ماخنتكم في صحبة المحشي *** ولا أفسدت بالتقليل منه صياميه
هذه الحوادث تعطينا تصورا عن الأحوال التي كان يعيشها القاسمي ورفاقه من قبل الجهلة والمبتدعة، والذين كانوا رافضين لنشر العلم وفتح باب الاجتهاد. أما ما تعرض له القاسمي ورفاقه من تنكيل من قبل الحكومة في عهد السلطان عبد الحميد وحكومة الاتحاد والترقي فقد كان شديداً، ففي عام 1327 يتهم القاسمي والبيطار بالتحريض على تأسيس جمعية النهضة السورية المناهضة لحكم الاتحاديين والمطالبة بالاستقلال الإداري وقيام حكومة عربية، وأنهم على صلة بأمراء من نجد، فأنكر هذه التهم وبين عدم صلته بجمعية النهضة، والتي كان رئيسها محب الدين الخطيب وسكرتيرها صلاح القاسمي شقيقه الأصغر!
دور القاسمي الإصلاحي:
برغم حياة القاسمي القصيرة حيت عاش 49 سنة فقط وكانت مليئة بالحوادث والمحن، إلا أنه عُدّ علامة الشام، فقد وفقه الله عز وجل مبكراً لطلب العلم والاطلاع الواسع ومنحه الذكاء الحاد، ويسر له معرفة منهج السلف والحق مبكرا وهو شاب. وهذا كله جعل تأثير القاسمي ممتداً لليوم، فقد تمثل الدور الإصلاحي للقاسمي في ثلاثة محاور:
1- نشر الكتب المهمة لعلماء الأمة، وتأليف الكتب المهمة لحياة الأمة اليوم: يلخص لنا القاسمي رؤيته لدور الكتاب في نهضة الأمة ونشر منهج الحق في رسالة للشيخ محمد نصيف، من أعيان مدينة جُدة يحثه فيها على طباعة الكتب فيقول: “ولا يخفى فضلكم أن أعظم واسطة لنشر المذهب السلفي هو طبع كتبه، وأن كتاباً واحداً تتناوله الأيدي على طبقاتها خير من مئة داعٍ وخطيب، لأن الكتاب يبقى أثره، ويأخذه الموافق والمخالف، وأعرف كثيراً من الجامدين اهتدوا بواسطة ما طبعناه ونشرناه، اهتداء ما كان يظن، والحمد لله على ذلك”. ويبدو أن تحول القاسمي لمنهج السلف أصلاً كان بسبب بعض الكتب التي كان الشيخ طاهر الجزائري ينشرها. ويمكن أن نتحدث عن اهتمام القاسمي بالكتب في النقاط التالية:
أ– حرص القاسمي على نشر الكتب النافعة وخاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وكان هذا غالب موضوعات رسائله للعلامة الآلوسي، وقد نصحه الآلوسي مراسلة الشيخ نصيف بخصوص طباعة آثار ابن تيمية، فكتب له القاسمي سنة 1327هـ: ” أخي تعلمون أن شيخ الإسلام توفي بدمشق وأن رسائله بحمد الله معظمها والحمد لله في دمشق، وإن فقد منها شيء أو طار من الشام لغيرها إلا أن في المكتبة العمومية – يقصد المكتبة الظاهرية التي أسسها طاهر الجزائري- عندنا من رسائله وقواعده في كتاب ” الكواكب” الذي جمعه الشيخ ابن عروة، وكتب فيه جملة وافرة من تآليف شيخ الإسلام وبها ما يكفي ويشفي… فإن رأيتم أن نسعى لنسخ كل ما هو عندنا بالشام بحيث لا نبقي له – قدس الله روحه – شيئاً يكون ذلك من أكبر حسناتكم”.
ب- كما أن القاسمي كان يحث بعض الأمراء والملوك على طباعة الكتب ونشرها بين العلماء، كما فعل مع سلطان مراكش حين زار دمشق.
ج- وكان القاسمي يحرص على طباعة كتب بعض العلماء المتبوعين من المقلدة والمتعصبة، انظر ماذا كتب القاسمي لأحد أصدقائه في رسالة سنة 1328: “ظفرنا بنسخة ورسالة مهمة للبركوي، انتصر فيها للشيخين فيما ذهب إليه، لا بل زاد عليهما كما ترون من مطالعتها، وقد عانيت كثيراً في تصحيحها، لأن الأصل المطبوع محرف للغاية. وهذه الرسالة تأثيرها على الجامدين والجهمية أكثر من تأثير مؤلفات الشيخين في الموضوع، لأن الإمام البركوي شهرته عظيمة، ولا يظن الجامدون بمثله أن يصدع بما صدع به، لأنهم يحسبون أن هذا البحث لم ينفرد به إلا الحنابلة، وأما رجل حنفي تركي يوافق على ذلك، فلا يخالونه، إلا أن هذا الرجل – رضي الله عنه- لقد أبان عن فضل عظيم، ودين قويم، وقلب سليم”.
د- أما كتب القاسمي نفسه فقد زادت عن مئة كتاب، وغالبها مما يحتاجه الناس ويسد ثغرة عندهم ويقدم بديلاً عن الباطل الذي اعتادوه، ومن أمثلة ذلك:
– كتاباه “منتخب التوسلات” و”الأوراد المأثورة”: فحين وجد أن الناس تتمسك بأوراد للقطب الفلاني والولي العلاني، رغب بأن يستبدل لهم ذلك بأدعية من القرآن وأدعية الفرج بعد الشدة، وسماها “منتخب التوسلات” وذلك في سنة 1315. ثم جمع أوراد الصباح والمساء وما يقال في السَّحر مما صحح وثبت، وسماها “الأوراد المأثورة” في سنة 1319، وكتب القاسمي عن ذلك: “وحبذا اليوم الذي نرى فيه لا ينتشر إلا المأثور، ولا يعتقد إلا الحق، وما ذلك على الله بعزيز”، والحمد لله اليوم غالب الفضائيات والإذاعات تنشر ما ورد في السنة الصحيحة مما تقر به عين القاسمي ولعلها تكون في ميزان حسناته إن شاء الله.
– كتابه دلائل التوحيد: وقد كتبه سنة 1326 رداً على مقال في صحيفة المؤيد تتضمن إنكار وجود الله وبعض الشبه عن الإسلام، وذلك حين رفض أحد كبار علماء الشام الرد بمقال على المقال الذى انتشر في آلاف النسخ من الجريدة، واكتفى بالرد عليه في درسه بالمسجد الأموي!! وهذا المنطق الأعوج لا يزال لليوم هناك من يسير عليه! أما القاسمي فقد انتصب للدفاع والرد بكتاب يطبع بالآلاف ويكون بين يدى الناس الذين يحتاجونه وهم المثقفون الذين يقرؤون الجرائد التي تنتشر فيها هذه التفاهات.
– كتابه قواعد التحديث: وقد صنفه عام 1320 وراجعه مع الجزائري سنة 1324 وطبع 1352 سنة، أي بعد وفاته بعشرين سنة. والكتاب يقوم على جمع كلام العلماء السابقين، وهو ما عابه محمد كرد علي على القاسمي، لكن حجة القاسمي أنه أراد أن يجابه المتعصبة الجامدين الحشويين الرافضين للبحث في الأحاديث وتمييز الصحيح من السقيم بأقوال علمائهم المتبوعين والمشهورين.
– شذرة من السيرة النبوية: رسالة صغيرة ألفها وطبعها في مطبعة المنار أثناء زيارته للقاهرة سنة 1321، وكان الغرض منها أن يكون بديلاً لما يقرأ في الموالد من كتب بدعية تحتوي على الكثير من الخرافات والأكاذيب. وهي من فصلين: إعجاز القرآن، وغرر من الوصايا النبوية، وختمها بأربع فوائد: أصل قصة المولد، التحذير من البدع في تلاوة قصة المولد، حكم القيام عند ذكر الولادة، من أحدث المولد.
– إصلاح المساجد من البدع والعوائد: وذكر القاسمي أن سبب تأليف هذا الكتاب هو كثرة البدع في المساجد، مما جعل إزالتها أولوية لدى المصلحين.
– موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: كان القاسمي لما زار مصر سنة 1321 برفقة الشيخ عبد الرزاق البيطار التقى بالشيخ محمد عبده، وحضر بعض دروسه وزاره في بيته وأصبح بينهما صلة قوية على غرار صلة البيطار بعبده الوثيقة من قبل، ومن الأشياء التي سأل عنها القاسمي عبده: هل هناك كتاب تنصح أن ندرسه للعامة؟ فكان جواب محمد عبده: إن أحسن ما ينفع العامة كتب الغزالي بشرط تجريدها من الواهيات. ويبدو أن هذا صادف قبولا وقناعة سابقة للقاسمي تجاه كتب الغزالي، ولذلك فبعد عودته بسنتين شرع في اختصار كتاب إحياء علوم الدين وأخرج لنا كتابه المتميز “موعظة المؤمنين”.
– قاموس الصناعات الشامية: من حرص القاسمي على التأليف ونفع المسلمين ومن بره بأبيه أنه اقترح عليه تأليف كتاب في نهاية حياته حول الصناعات والحرف في الشام، فسأله أبوه كيف أفعل؟ فأجابه: تستأجر دابة وتذهب لمحل الحرفيين وتسجل أسماء الصناعات والحرف ثم تدرسها. وقد فعل والده ذلك، لكنه مات وقد وصل لحرف السين، فأتمه جمال وزوج شقيقته خليل العظم. وقد أصبح هذا الكتاب فريداً في بابه ولم يعرف له مثيل، وهذا يدل على سعة أفق القاسمي واهتمامه بالحياة والصناعة ونهضتها وعلم التاريخ والاجتماع، وقد قامت دراسات تحليلية كثيرة حول الكتاب عربية وغربية.
– إرشاد الخلق للعمل بخبر البرق: ألفه سنة 1329 لبيان جواز الاعتماد على الوسائل الحديثة للاتصالات في نقل خبر ثبوت شهر رمضان والعيد. وهو مما يدل على معاصرته للقضايا المستجدة ومواكبته للمخترعات الحديثة، وكان طاهر الجزائري قد حثه على تأليفه.
– الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس: وذلك لبيان حقيقة الطلاق بالثلاثة وأنه لا يقع، وإلا لأصبح غالب الناس أولاد زنا، بسبب قلة دينهم.
– محاسن التأويل: وهو تفسير قيم كتبه في أربع عشرة سنة، ولم يطبع إلا بعد وفاته بأكثر من أربعين سنة، وقد كانت عائلة القاسمي تعتبره كنزاً، فلما تعرض حيهم للقصف الفرنسي سنة 1925، لم يحمل أولاد القاسمي من بيتهم إلا تفسير والدهم والذي كان في 12 مجلدا بخط القاسمي نفسه، ولم يكن له نسخة أخرى! والتزم القاسمي أن يضمن تفسيره كل ما يقع عليه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم مما يتعلق بتفسير القرآن في موضعه.
كُتب القاسمي كثيرة ولكن هذه بعضاً منها تدل على سعة أفقه ومعايشته لأحوال أمته، وحرصه على نهضتها ورفعتها من خلال التأليف كوسيلة إصلاحية، لا فائدة دنيوية من ورائها كحالنا اليوم حيث التأليف عند كثيرين وسيلة لمنصب أو ترقية أو مال، يقول القاسمي عن أحد الكتب في رسالة لمحمد نصيف: “ويعلم الحق أني لو أوتيت ما يمكنني القيام بطبعه على نفقتي لما تأخرت في طبع كل ما جمعت، ولكن يكفي (كما يقول الأستاذ طاهر الجزائري) الفقير: أن يجمع ويؤلف..”.
هـ – وكان القاسمي يطلب من بعض طلبته نسخ بعض الكتب ويعطيه أجراً، بدلاً من أن يذله بقبول الصدقة والزكاة. وكان يحث ويشجع بعض طلبته على تأليف الكتب، وقد شجع تلميذه بهجة البيطار على تأليف بعض الكتب وأثنى عليه في رسائله الشخصية لبعض أصدقائه.
(المصدر: طريق الاسلام)