“رمز الفتح وأمانة الفاتح”.. عام على عودة “آيا صوفيا” مسجداً
بقلم د. محمود المنير
احتفلت تركيا بالأمس بالذكرى السنوية الأولى لإعادة فتح مسجد آيا صوفيا الكبير للعبادة.
الجدل التاريخي
“آيا صوفيا” صرح ديني تركي مهيب؛ يعظمه سكان البلاد من المسلمين والمسيحيين على السواء، وبعد أن كان أضخم كاتدرائية للمسيحيين الأرثوذكس طوال 900 عام، أصبح أحد أعظم مساجد المسلمين على مدى نحو 5 قرون، ثم صار متحفاً فنياً منذ عام 1934 بقرار سياسي، تعتبره منظمة “اليونسكو” من الآثار التاريخية المنتمية إلى الثروة الثقافية العالمية.
وأقيمت آيا صوفيا عام 537م بأمر من الإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس الأول (527-565م) -الذي امتد حكمه من إسبانيا إلى منطقة الشرق الأوسط- لتكون صرحاً دينياً لا نظير له في العالم المسيحي، وعنواناً لقوة الدولة الرومانية الشرقية.
وظلت تمثل الكنيسة الرسمية للدولة المسيحية البيزنطية وجوهرة عاصمتها القسطنطينية رغم تهدمها واحتراقها أكثر من مرة، إلى أن فتح السلطان العثماني محمد الثاني (الشهير بـ”محمد الفاتح”) المدينة عام 1453م؛ فغير اسمها إلى “إسطنبول”، ودخل هذه الكنيسة فصلى فيها أول جمعة بعد الفتح، وجعلها مسجداً كبيراً يرمز لقوة الدولة العثمانية وسيطرتها.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت آيا صوفيا جامعاً إسلامياً عظيماً يحظى برمزية كبيرة لدى الأتراك، إلى أن منع زعيمهم العسكري مصطفى كمال أتاتورك -الذي أنهى حكم الخلافة العثمانية عام 1923 وأعلن قيام جمهورية علمانية بدلاً عنها- إقامة الشعائر الدينية فيه عام 1931، ثم حوله في عام 1935 إلى متحف فني يضم كنوزاً أثرية إسلامية ومسيحية.
ويمثل مسجد آيا صوفيا رمز فتح إسطنبول، حيث أقام به السلطان محمد الفاتح –أعظم به من فاتح- أول صلاة جمعة بعد فتح المدينة عام 1453.
ويقع مسجد آيا صوفيا ذو القبة في حي الفاتح في إسطنبول، على الضفة الغربية للبوسفور، ويشرف على ميناء البوق الذهبي.
وكان المبنى، الذي أنشيء قبل 1500 عام والمدرج على لائحة “اليونسكو” للتراث العالمي، قد تحول إلى متحف عام 1934.
وظلت آيا صوفيا كنيسة لمدة 916 عاماً حتى فتح المدينة عام 1453، وظل جامع آيا صوفيا مفتوحاً للعبادة منذ الفتح وحتى عام 1934 عندما صدر قرار بتحويله إلى متحف وظل كذلك لمدة 86 عاماً.
طوال تلك المدة رفعت جمعية خدمة الآثار التاريخية والبيئة العديد من الدعاوى القضائية أمام مجلس الدولة من أجل إلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934 بتحويل آيا صوفيا إلى متحف.
قرار تاريخي
وفي 10 يوليو العام الماضي، ألغى مجلس الدولة التركي (أعلى محكمة إدارية في البلاد) بالإجماع قرار مجلس الوزراء الصادر في 24 نوفمبر 1934، بتحويل آيا صوفيا من جامع إلى متحف.
مرسوم رئاسي
وفي اليوم نفسه، أصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرسوماً رئاسياً بفتح آيا صوفيا مجدداً للعبادة، ونشره عبر حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي.
ونشرت الجريدة الرسمية قرار الرئيس التركي بفتح آيا صوفيا للعبادة وإسناد الإشراف عليه إلى رئاسة الشؤون الدينية.
وأعلن أردوغان أن الدخول إلى مسجد آيا صوفيا الكبير سيكون مجانياً، وأنه سيُفتح للعبادة بدءاً من صلاة الجمعة يوم 24 يوليو 2020.
وأعلن رئيس الشؤون الدينية التركي البروفيسور علي أرباش تعيين 3 أئمة و5 مؤذنين لمسجد آيا صوفيا الكبير.
مجلس الكنائس يعترض
وحين أعلن الرئيس أردوغان عن هذه الخطوة، في العاشر من يوليو، أثار استنكاراً من مجلس الكنائس العالمي، وقال البابا فرانسيس: إن “قلبه مع إسطنبول”، وأضاف: “أفكر في سنتا صوفيا والألم يعتصرني”.
وحذر رئيس الكنيسة الأرثوذكسية البطريرك بارثولميو من أن تحويل المبنى إلى مسجد سيثير استياء ملايين المسيحيين ويؤدي إلى الشقاق بين عالمين.
ودعا مجلس الكنائس العالمي الذي ضم في عضويته 350 كنيسة إلى إلغاء القرار.
كما أراد الفاتح
لكن الرئيس أردوغان دافع عن القرار، قائلاً: إن بلاده تمارس سيادتها على المكان، وأضاف: بعد 86 عاماً ستعود آيا صوفيا مسجداً، كما أراد محمد الفاتح.
وقال: إن المبنى سيبقى مفتوحاً للمسلمين وغير المسلمين والزوار الأجانب.
مظاهر احتفالية
وتم إصدار عملات معدنية تذكارية تحمل على أحد وجهيها صورة آيا صوفيا تخليداً للذكرى.
وفي يوم فتح المسجد، حضر المصلون من كل أنحاء إسطنبول ومن الولايات الأخرى وحتى من خارج البلاد، وتوافدوا على ميدان آيا صوفيا منذ ساعات الصباح الباكر مع مراعاة التدابير الاحترازية ضد وباء “كوفيد-19” والالتزام بمسافة التباعد الاجتماعي، واكتظت شوارع المنطقة التاريخية بالمصلين.
وتم تعيين 21 ألف شرطي لتأمين المصلين في ذلك اليوم.
ونظمت رئاسة الشؤون الدينية برنامجاً للدعاء وقراءة القرآن في مسجد آيا صوفيا الكبير افتتحه الرئيس التركي أردوغان بقراءة “الفاتحة” وآيات من سورة “البقرة”.
وتم رفع الأذان من المآذن الأربع في مسجد آيا صوفيا الكبير، وشارك في أول صلاة في المسجد كل من الرئيس التركي أردوغان، ورئيس البرلمان مصطفى شنطوب، ونائب الرئيس فؤاد أوكتاي، ورئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، إضافة إلى عدد كبير من المسؤولين.
رمز الفتح وأمانة الفاتح
وفي صلاة الجمعة، ألقى رئيس الشؤون الدينية خطبة بعنوان “آيا صوفيا.. رمز الفتح وأمانة الفاتح”، وصعد على المنبر ممسكاً في يده سيفاً، وأثناء الصلاة تلا آيات من سورة “الفتح”.
وقد ظلت أبواب مسجد آيا صوفيا الكبير مفتوحة بعد أول صلاة به حتى صلاة الفجر، وعاش المصلون القادمون من داخل تركيا وخارجها لحظات مؤثرة لأنهم شهدوا هذه المناسبة التاريخية.
وأهدى الرئيس التركي أردوغان لوحة للخط العربي خُطت بها الآيتان 159 و160 من سورة “آل عمران” ليتم تعليقها في مسجد آيا صوفيا الكبير بمناسبة فتحه مجدداً للعبادة.
وأقيمت أول صلاة عيد في مسجد آيا صوفيا الكبير بعد 86 عاماً، في 31 يوليو 2020، وكانت صلاة عيد الأضحى، وشارك في الصلاة عشرات الآلاف من المصلين داخل المسجد وفي المناطق المحيطة به.
وأقيمت أول صلاة عيد فطر في المسجد هذا العام، في 13 مايو الماضي.
“اليونسكو” تتحيز
ورفضت تركيا، أمس السبت 24 يوليو 2021، انتقادات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) بشأن تحويل كاتدرائية “آيا صوفيا” مسجداً، ووصفتها بأنها “متحيزة وسياسية”.
وقالت وزارة الخارجية التركية: إنها “ترفض قرارات لجنة التراث العالمي التابعة لـ”اليونسكو” بشأن المواقع التاريخية في إسطنبول التي من الواضح أنها متحيزة ومنحازة وسياسية”.
وأضافت أن آيا صوفيا وكنيسة المخلّص المقدّس في خورا هما ممتلكات تابعة للدولة وتجري حمايتهما “بعناية”، متهمة الأمم المتحدة بانتهاك السيادة التركية.
____________________
مصادر ذات صلة:
1- آيا صوفيا: أول صلاة جمعة بعد تحويله من متحف إلى مسجد،BBC ، https://bbc.in/3eSY35O
2- تركيا تتهم اليونسكو بالتحيز في انتقاداتها بشأن تحويل “آيا صوفيا” مسجدا، مونت كارلو الدولية، https://bit.ly/3iOJ7a9
3- “رمز الفتح وأمانة الفاتح”.. عام على عودة “آيا صوفيا” مسجدا، يني شفق العربية، https://bit.ly/3y6Hs61
4- آيا صوفيا.. جدلية الكنيسة والمسجد والمتحف، الجزيرة نت، https://bit.ly/3zy1VRD
5- “آيا صوفيا”.. الجذور التاريخية والأبعاد السياسية، وكالة الأناضول، https://bit.ly/2V8wrmi
المصدر: مجلة المجتمع