رسالة من الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين البروفيسور علي القره داغي إلى عقلاء العالم
بسم الله الرحمن الرحيم
(تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) آل عمران 64.
تعالوا إلى المبادئ الإنسانية والأخلاقية المشتركة والحوار ونبذ العنصرية والكراهية والإهانة لأي أحد.
الرئيس الفرنسي ماكرون
الشعب الفرنسي المتحضر
قادة العالم ، السياسيون والمفكرون والإعلاميون، تحية طيبة وسلاماً ..
أود أن أضع باسمي شخصياً وباسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين هذه الحقائق العشر الآتية:
- الجرائم كلها – بما فيها الإرهاب- لا دين لها، ولا يجوز إسنادها إلى الأديان السماوية التي جاءت لتحقيق الأمن الشامل.
- إن تصرفات المجرمين من بعض أهل دين لا يجوز تعميمها على جميعهم، فمن القواعد الدينية والفطرية أنه (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) فاطر 18، تكررت في القرآن ثلاث مرات.
- أن الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرناً أعلن الحرية للإنسان في دينه ومعتقده، وفي غير ذلك في أكثر من آية ، منها قوله تعالى (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف 29،
وقوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (سورة البقرة 156، بل سمى الحرية نوراً، والكبت ظلاماً وأغلالاً، فقال سبحانه في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) سورة الأعراف 157.
أي يرفع عن كاهل البشرية التكاليف المتشددة والقيود التي وضعت عليهم، فدين الإسلام حقاً هو دين كرامة الإنسان وحقوقه، وهو أول من وضع دستور حقوق المواطنة لليهود وغيرهم من أهل المدينة ” صحيفة المدينة”.
- فرجاؤنا منكم أن تفهمونا وتفهموا ديننا بأن تعرفوا وتفرقوا بين الحريات التي هي للجميع، ومنها حق الانتقاد وتوجيه الانتقاد، وبين الإساءة والإهانة والازدراء بالمقدسات الدينية، فالرسومات المسيئة هي إهانة وإساءة لأنها ليست حقيقة، ولا نقداً علمياً.
- القرآن الكريم مليء بما ذكره الملحدون والمشركون حول الله تعالى، والرسل، ومع ذلك ذكرها وناقشها في حوار هادئ وهادف حتى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمختلفين معه (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) سورة سبأ 24- 25.
بهذا الأسلوب العظيم حاور الملحدين، فلم يحكم بأنهم على باطل، وإنما دعاهم للبحث للوصول إلى الحق، ثم أكد على الحوار حتى ولو أن المقابل يرى المسلمين مجرمين، ومع ذلك لم يصف المقابل بأي شيء يجرح كرامتهم.
- إن المشكلة اليوم ليست في صراعنا مع قيم الجمهورية من الحريات، وإنما المشكلة في تشجيع الإساءة والازدراء والاستهانة بمقدس عظيم للمسلمين.
- إن القضايا الفكرية لن تحل إلا بالفكر العميق والفهم الدقيق والأسلوب الراقي، والعمل الهادف الهادئ، فلا يعالج بالإثارة والخطابات الشعبوية التي تثير العواطف وتخدم الإرهاب اليميني، والإرهاب المنسوب إلى الإسلام زوراً وبهتاناً.
- الكل يعلم بأن القاعدة وداعش قد قتلت من المسلمين وأحرقت بعضهم أضعاف ما قتلت من غير المسلمين، بل يظن الكثيرون أنه شاركت في صنعها استخبارات أجنبية وإقليمية، وقد قام جميع المؤسسات والاتحادات الرسمية وغير الرسمية للعلماء والمسلمين، داخل العالم الإسلامي وداخل أوروبا وغيرها بالتنديد بجرائمها ومحاربتها محاربة فكرية وعملية، إذن لماذا يتهم الإسلام والمسلمون بصورة عامة بالإرهاب؟!!
9- إن هذا الرسول العظيم محمدا صلى الله عليه وسلم الذي يحاول البعض الإساءة إليه ، ويشجع على ذلك بعض آخر هو حقاً رسول العلم، والأمر بالقراءة الشاملة للكون والإنسان، والكتب في أول آية ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ،
وهو حقاً رسول الرحمة للعالمين، وصاحب الخلق العظيم حتى باعتراف كثير من المنصفين الفرنسيين وغيرهم، وقد وضع مايكل هارت اسم ” محمد” على رأس قائمة العظماء المئة “.
هذا الرسول صلى الله عليه وسلم هو من يؤمن به حوالي ملياري شخص في العالم، فما المصلحة في نشر رسوم مسيئة ومهينة وحقيرة؟!
وما المصلحة في إثارة عواطف الشباب وعامة الناس ضد فرنسا ؟؟ولماذا لا يحترم قانون 1905م في عدم تدخل السياسة في الدين؟
ولماذا لا يدخل التشكيك في هولوكست في قيم الجمهورية الفرنسية ؟ مع أننا ضد حرق أي شخص؟
ولماذا المساس باللون والعرق جريمة وأن المساس بالدين ورموزه لا يعد جريمة، أولا يمنع؟
إن إثارة الكراهية والعنصرية التي تصنع الشقاق والفراق ليست من الحرية الشخصية لأن آثارها خطيرة على الجميع، فيجب أن تتوقف الحرية عندما تصل إلى المساس بالآخر في كرامته ومشاعره ولا توجد في الإسلام مشاعر أقوى من مشاعر المسلمين نحو رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم ، بل نحو جميع الأنبياء، فهم يحبونه أكثر من أنفسهم. وكذلك يحب المسلمون جميع الأنبياء وعلى رأسهم إبراهيم، وموسى وعيسى عليهم السلام، ولا يفرقون بينهم فقال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) سورة البقرة 285.
- ندعو إلى الحوار ثم ندعو إلى الحوار البنّاء ، ثم ندعو إلى حوار العقلاء والحكماء بالحكمة وبالتي هي أحسن، وهذا هو الحل الوحيد لعلاج كل القضايا الدينية والفكرية والإنسانية. وإلا فإن مقابل الحوار الخراب والدمار والصراعات والحروب التي يصبح الجميع فيها خاسرين.
فقد دخلت أوروبا خلال النصف الأول من القرن 20 في حربين عالميتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر، ودمرت أوروبا ، وذلك بسبب الظلم والشوفينية، والنازية، والصراعات المادية .
إن الإسلام هو دين الرحمة للعالمين، ودين الأمن والأمان فلا يجوز أن يوصف بالشوفينية، والإرهاب ، فهذا افتراء مفضوح علمياً لكل من يفهم شيئاً من القرآن، وأنه دين الفطرة (التي فطر الناس عليها) ولذلك ينتشر على الرغم من كل هذه التحديات .وفي الختام أود أن أؤكد أيضا علي ما يأتي:
• نحن المسلمين لا يمكننا أن نعد المسيحية أو العلمانية هي المحرك وراء تطرف السيدتين اللتين طعنتا المسلمتين تحت برج إيفيل وهما تصرخان بشتم العرب وكذلك نرفض عد الإسلام وراء جريمة ارتكبها الشاب المراهق ضد أستاذه Jean-Michel Blanquer.
• مع أنه لا يبرر الإرهاب ولكن يجب البحث عن أسبابه، فكثيراً ما نددت الدول الأعضاء بمنظمة الأمن والتعاون بأوروبا بجميع أشكال الإرهاب ومظاهره ومحاربتها من خلال المؤسسات والقانون الدولي لحقوق الإنسان وفي نطاق احترام التزامات منظمة الأمن والتعاون بأوروبا.
فمنذ شهر ديسمبر كانون الأول 2001 اعترفت الدول المشاركة بأنه لا يمكنها الاقتصار على العمليات العسكرية والأمنية للحد قدر الإمكان من تهديدات الإرهاب على المدى البعيد. وباعتماد مخطط بوخارست لمنظمة الأمن والتعاون بأوروبا من أجل مكافحة الإرهاب، أكدت الدول على الحاجة إلى معالجة ” مختلف العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومنها النزعات الانفصالية والتطرف المؤديان إلى تهيئة الظروف المثلى للمنظمات الإرهابية لغاية الاستقطاب و” كسب الدعم”.
• ونؤكد مرة أخرى أن الاتجاه إلى ربط الإسلام بأزمة ما وتوصيف الدين الإسلامي أو أي دين سماوي آخر بأنه إرهابي فإن هذا يسيئ اليه ويدعم المتطرفين بين المجتمع.
إن تخويف الناس من المساجد والمسارعة إلى إغلاقها لا يحل مشكلة.
إن محاسبة المسلم على اللحية والمرأة المسلمة على الحجاب وفقدان التكافؤ الاجتماعي وسيادة معايير مزدوجة لن يصل إلى حل.
• إننا نبحث معكم عن حل وصراحتنا مبنية على ديانتنا الداعية إلى المحبة للخير لكل الإنسانية ، إننا على موقف واحد من كل جريمة تحصل سواء أكانت تمس المسلمين أم غير المسلمين
لقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلها في كفاح للدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية..، والحق في أن يكون كل إنسان حراً في اختيار عقيدته الدينية، وألا يكره إنسان إنساناً على تغيير دينه، وأن لكل إنسان حرية تغيير عقيدته الدينية إلى أي عقيدة أخرى كما يشاء. موقفنا الثابت والرافض لهذه الاعتداءات الوحشية، ولكل عمليات القتل أيا كانت ديانة الجاني أو الضحية،
وإنني أطالب المسلمين بضبط النفس والتعقل وعدم ربط فعلة المجرمتين والاعتداء على المسلمتين بالطعن بأي دين وكذلك نطالب الحكومة الفرنسية بموقف ثابت ومن دون أي ازدواجية في التعاطي مع التجاوزات القانونية وفق ديانة الجاني فهذا أمر لن يقدم حلاً ولسوف يسهم في تكوين أجواء الاحتقان بين أبناء المجتمع الفرنسي ويزيد في الكراهية والعنصرية.
الرئيس ماكرون:
لو أن ما قلته اليوم في الجزيرة قلته في خطابكم الأول لكان صداه مختلفاً ونحن نتمنى أن نسمع منك الاعتذار لرسولنا وللمسلمين وهذا موقف جريئ يسجل لفخامتكم.
وأخيراً فإننا على جاهزية تامة لتعميق التسامح والتصالح بين المسلمين في فرنسا وبين غيرهم ، ويسرنا أن يبدأ حوار بناء بين المسلمين والحكومة الفرنسية وصولاً إلى تعميق السلم الأهلي والمجتمعي الذي يعود بالرخاء على كل الشعب الفرنسي.
إن الاستحقاقات الكبيرة لا يمكن تأجيلها وبات لزاماً على عقلاء المجتمع الدولي وحكمائه من السياسيين والمثقفين والإعلاميين والقيادات الدينية والفاعلين في مؤسسات المجتمع المدني، تحمل المسؤولية والاجتهاد في رسم خطط العمل التربوية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية للحد من أي تطرف من أي جهة كان.
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)