مقالاتمقالات مختارة

رد على الشبهات التي يروجها الإعلام الكاذب والأجهزة الاستخباراتية في تشويه التاريخ الإسلامي العثماني

رد على الشبهات التي يروجها الإعلام الكاذب والأجهزة الاستخباراتية في تشويه التاريخ الإسلامي العثماني

بقلم د. علي الصلابي

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).

خرجت علينا الأبواق الإعلامية المأجورة، وبعض المنتسبين لأهل العلم ممن تبنوا أساليب الطعن والتشويه ونشر الادعاءات الكاذبة حول تاريخ الدولة الإسلامية العثمانية وسلاطينها العظام، وروّجوا لتلك الادعاءات بطريقة لا موضوعية ومليئة بالاتهامات والافتراء، وادعوا بأن فترة حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية كانت مرحلة مظلمة تسوها المظالم والبطش والتنكيل والطغيان، وعملهم هذا وظّف خدمة للثورات المضادة وأعداء الإنسانية والحرية والسلام والأجهزة الاستخباراتية التي تحارب إرادة الشعوب، وهو الشيء نفسه رأيناه في مسلسل «ممالك النار».

من تلك الشبهات والافتراءات المنتشرة:

– الادعاء بأن السلطان العثماني سليم الأول قام بقتل آلاف المصريين وأحرق القاهرة عندما دخلها عام 1517م.

– العثمانيون ارتكبوا جرائم بشعة حين دخلوا العراق عام 1534م.

– قام القائد العثماني فخري باشا بمهاجمة المدينة المنورة ومكة المكرمة وسرق الحجر الأسود ونقله إلى إسطنبول.

– الادعاء بأن الأتراك حاصروا لبنان ومنعوا دخول الماء له ومات 200 ألف لبناني جوعاً عام 1919م.

– ارتكب ولاة الدولة العثمانية مجزرة دامية في قبيلة الجوازي الليبية، وقمعوا انتفاضة أهل تاجوراء التي قامت ضد ارتفاع الضرائب وسوء الأحوال المعيشية(1).

وحرصاً مني على تبيان الحقيقة التاريخية والمحافظة على تاريخ الأمة الإسلامية العظيمة وحضارتها ودور العثمانيين فيها، ولحرصي على هداية هؤلاء الناس، ومحاولة إخراجهم مما هم فيه خدمة لمشاريع سياسية تهدم المجتمعات وتسيء لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، لذلك عدت إلى المصادر التاريخية من منابعها، وأردت التحقق من كل ما ورد من تشويه بعيداً عن الافتراء والكذب واستغباء الآخرين، وذلك لله ثم للتاريخ ولأبناء الأمة.

التشويه الأول: ما قيل حول دخول سليم الأول القاهرة وقتله آلاف المصريين الأبرياء!

ادعوا كذباً بأن السلطان العثماني سليم الأول عندما دخل إلى القاهرة قتل 20 ألف مواطن مصري بريء، وأحرق البلاد، وأن السلطان أرسل العلماء والحرفيين إلى إسطنبول، وعاشت البلاد المصرية سنوات من الظلم والجوع والفقر والحرمان.. فهل هذا الادعاء صحيح؟

1- استشهد أهل التشويه والتزوير بالمؤرخ المصري ابن إياس، وشهادة هذا المؤرخ مجروحة في كل ما يتعلق بالعثمانيين، إذ إن محمد بن أحمد بن بركات بن إياس نفسه من المماليك، وقد اتصل أبوه مع البلاط المملوكي، فهو ذو أصول شركسية، ومعروف بعدائه وبغضه للعثمانيين وللسلطان سليم تحديداً، لأنهم قضوا على دولة أجداده.

2- غالباً ما يُقصد عندما يذكر أن سليم الأول قام بمجزرة في القاهرة، بأنه قتل كل من له صلة بالحكام المماليك السابقين، ولكننا إذا نظرنا إلى وصف المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي وهو يصف دخول سليم إلى مصر فيقول: «ولما خلص له -أي السلطان سليم- أمر مصر، عفا عمن بقي من الشراكسة وأبنائهم، ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية، بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات، وغلال الحرمين والأنبار، ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين، ومصارف القلاع والمرابطين، وأبطل المظالم والمكوس والمغارم، ثم رجع إلى بلاده، وأخذ معه الخليفة العباسي، وانقطعت الخلافة والمبايعة، وأخذ معه ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لم توجد في بلاده، بحيث إنه فُقد من مصر نيف وخمسون صنعة»(2).

وأضاف في الثناء على العثمانيين، قائلاً: «وكان العثمانيون في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشد من ذبَّ عن الدين، وأعظم من جاهد المشركين، فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتح الله على أيديهم، وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الممالك في الطول والعرض، هذا مع عدم إغفالهم الأمور، وحفظ النواحي والثغور، وإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع، فتحصنت دولتهم، وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك، وانقاد لهم المالك والمملوك»(3).

3- ذكر رائد التاريخ الاجتماعي المصري د. محمد أنيس في كتابه «الدولة العثمانية والشرق العربي»: «ومن أعمال سليم وهو في القاهرة عفوه عن البقية الباقية من المماليك، فأصدر أمراً بعدم التعرض لهم ولممتلكاتهم وباستمرار صرف مرتباتهم كما جرت العادة، ليحتفظ بهم كعنصر مهم في إدارة البلاد»(4).

وهذه الروايات التاريخية لمؤرخين مصريين مشهود لهم بصدقيتهم كفيلة بإثبات زيف ما قيل عن دخول العثمانيين إلى مصر بعد إنهاء الحكم المملوكي لها، ويمكننا الاستناد إليها في حديثنا عن بدايات الدخول العثماني لمصر، ونحن لم نستعرض جميع الروايات التي تناولت الحدث؛ لأن الموضوع يحتاج منا لعشرات الصفحات التي تثبت الأساليب السلمية والعسكرية للعثمانيين، وطريقة تعاملهم مع سكان البلاد التي دخلوها.

التشويه الثاني: ما قيل عن دخول العثمانيين إلى بغداد وقتلهم 20 ألف عراقي بريء ونهب خزائنهم وإرسالها إلى إسطنبول!

ادعى المشوّهون بأن السلطان العثماني سليمان القانوني عندما دخل إلى بغداد، وطرد الصفويين منها، قام بقتل أكثر من 20 ألف عراقي، وقام بنهب ثروات بلاد الرافدين وإرسالها إلى عاصمة بلاده.. فما صحة هذا القول؟

في الحقيقة، وإن كانت هذه الأبواق قد وجدت ضالتها في تاريخ ابن إياس فاستشهدوا به في الادعاء الأول، فإن الادعاء الثاني يفتقر إلى الدليل أو المصدر التاريخي، وذلك لأنه في حقيقة الأمر لم يجدوا مصدراً يدعم قولهم والأباطيل التي ساقوها، فليس هناك مصدر تاريخي يذكر هذه الرواية التي تم اختلاقها.

وسنلقي الضوء على بعض المرويات في المراجع التاريخية لنرى ماذا فعل السلطان سليمان بعد دخوله بغداد:

1- يذكر المؤرخ محمد فريد بك هذا الحدث الذي كان في عهد السلطان سليمان القانوني في كتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، بالقول: «وقصد مدينة بغداد لفتحها، فلما اقترب منها تقدم إبراهيم باشا الصدر الأعظم، وسار عسكر الجيوش العثمانية لاحتلالها قبل قدوم السلطان، فدخلها في 31 ديسمبر 1534م، ووجدها خاوية من الجنود؛ إذ تركها حاكمها بكل جنوده هرباً من الوقوع في قبضة الجنود العثمانية فيذيقونه الحمام، وبعد أن أقام السلطان في مدينة بغداد مدة أربعة أشهر رتب الإدارة الداخلية في خلالها، وزار قبور الأئمة العظام وقبر الإمام علي رابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه في مدينة النجف، وقبر ابنه الحسين في كربلاء، وأرسل الخطابات إلى البندقية وويانة إعلاناً بانتصاره على الشاه طهماسب وافتتاحه مدائن تبريز وبغداد».

2- ذكر د. محمد أنيس أن تدخل الدولة العثمانية في العراق جاء بناء على طلب من سُنّة العراق الذين كانوا يتضرعون إلى السلطان سليمان لإنقاذهم من الحكم الشيعي (الصفوي)، وأن السلطان سليمان بعد دخوله إلى بغداد حرص على عدم الإساءة إلى مشاعر الشيعة باعتباره سلطاناً سُنياً، فزار الكثير من أضرحة الشيعة، بالإضافة إلى أضرحة الأئمة السُّنة، كما أنه أوقف مقاطعات مغلة للمقاصد الدينية للشيعة والسُّنة على السواء، وأعاد السلطان سليمان بناءَ ضريح الإمام أبو حنيفة بعد أن هدمه الإيرانيون، ودنسوا رفاته(5).

ومما سبق ذكره، نجد أنه لم تحدث مثل هذه المجزرة إطلاقاً، حيث إن بغداد قد سُلمت تسليماً للسلطان العثماني بعد أن فرت حاميتها الصفوية، وعليه فلم يحدث اشتباك أو معركة، وفتحت بغداد بدون إراقة دماء، وحتى بعد دخول السلطان سليمان إلى بغداد لم يصطدم مع أهاليها حتى الشيعة منهم، بل سعى إلى الإصلاح وكسب ود الأهالي، وانتهج سياسة عادلة بين الطوائف عززت السلم الداخلي في البلاد، على عكس السياسة الطائفية الدموية التي اتبعتها الدولة الصفوية.

(*) كاتب إسلامي ليبي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) سنكتفي هنا بنشر الرد على أول شبهتين (تشويهين)، على أن تنشر الردود على الشبهات كاملة بالإضافة إلى المصادر على الموقع الإلكتروني لـ»المجتمع».

(2) عبدالرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، (2012م)، ص 34.

(3) الجبرتي، المرجع السابق، ص 34.

(4) محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي: (1514 – 1914م)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص 113-114.

(5) محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي، ص 136-137.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى