مقالاتمقالات مختارة

رحمة الله الكيرانوي.. الداعية الذي خيب آمال التبشير

رحمة الله الكيرانوي.. الداعية الذي خيب آمال التبشير

بقلم صبغة الله الهدوي

من منا لا يعرف الشيخ الذي يقف واثق الخطى ثلاث ساعات أو أكثر وهو يفحم المنحرفين ويحطم سفائن أحلامهم في صخرة ردوده العاتية، رغم ما غزته بوادر الشيب والضعف البدني، ومن منا لا يتحمس لكلمات صريحة صحيحة إنجليزية تارة وأردية أخرى توضح للسائلين الناصحين المنهج الإسلامي المستقيم، ولا يمنعه بريق المغريات ولا نهيق المغويات من أن يشق الصراط السوي في زمن الفتن والإحن، إنه الشيخ العالم الهندي الجليل أحمد ديدات، بطل المناظرات وناصر الإسلام، مفند مزاعم الضالين سنا بسن وعينا بعين، فتلك رحلة بائع أقمشة إلى عالم بعيد الغور في الأسفار القديمة والكتب السماوية ليكون للأمة بقية السلف وقدوة للخلف، وحياة الشيخ مليئة بالمغامرات، وزاخرة بالدروس والعبر التي تهلم الدعاة حماسة وهمة، وتزودهم القوة والطاقة للمضي في دروب الدعوة رغم عواصف المشاكل ورعود التحديات.

إذن ما هي كانت عوامل الرحلة وبواعث صناعة داعية في روح البائع الذي لا تثيره إلا مساومات الزبائن وأحاديث الربح، فتلك هي قصة جميلة وطويلة أودعها الله في صلب الزمان ليلد عالما خريتا في زمن كانت العداة ترتع وتسرح عربدة في ربوع الأمة، ولا تدخر وسعا في تشكيك عقائد المسلمين وتقليل شأنها وتشويهها وتصويرها بشكل سيء للغاية، وحتى جندت للهجوم على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام والإطالة في إساءته وسلخ كرامته ومسخ حليته الشريفة في سلسلات من الخطابات والكتب والأفلام، وحاصرت الأمة من كل الجوانب لتقصف على آمالها، والأكثر منه خطرا وضررا أصبح المشهد السياسي في فترة الأربعينات والخمسينات مسرحا لتهريب المبشرين في ظلال الاستعمار والصراعات الداخلية التي خلفتها أنقاض الاستخرابيين في البلدان الإسلامية، فاحتلت كل المدن التي كانت تنبض بجمال الدين والقرآن، فشوهت المساجد والمدارس بل هدمت لتكون مجرد رموز لا معنى فيها حتى وهب الله لهذه الأمة بطلا مقاوما يأبى الاستسلام للتشكيكيين والاستشراقيين.

فقصة رحلة ديدات من التاجر إلى المناظر، ومن المحلات إلى المنابر، تعود إلى كتاب رائع شامل اسمه “إظهار الحق” لمؤلفه الهندي رحمة الله الكيرانوي، فإنه كتاب جاء لاسمه تصديقا، ولمفهومه تحليلا وتحقيقا، في الواقع كان هذا الكتاب أولا وآخرا مرجع الشيخ ديدات حيث سبر أغواره وشخص عباراته، ووقف وقفة موسوعي محنك على التحريفات والتصحيفات التي قام بها القساوسة، والتهم ما فيه ليطلع على كل المكايد التي تحوكها النصارى، وألف مع هذا الكتاب إلفة البنين مع أمهم واحتضنه سطرا وسطرا، فما قيمة هذا الكتاب وما عبقرية مؤلفه حتى يلهم في الدعاة روح الإرادة القوية ويبعث فيهم همة وعزمة.

من هو رحمة الله الكيرانوي صاحب “إظهار الحق”؟

ولد فضيلته عام 1233هـ الموافق لـ 1818م في أسرة تتمتع بأريحية العلم والتقوى، واسعة الثراء والجاه، تنحدر من أصول كريمة ذات مكانة تاريخية في صفحات الهند تنتهي إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان، إذ كان أجداده من العلية المقربة من المملكة المغولية حتى احتل عدة أجداده مناصب عالية في امبراطورية المغول في الهند، وكان جده السادس عبد العليم الطبيب الشخصي للملك أكبر المغولي، وتبحر في الطفولة في اللغات العربية والأردية لسان حال مسلمي الهند آنذاك، والفارسية، ومكن منها تمكينا كبيرا زودته سعة الاطلاع وعمق القراءة في الكتب المتنوعة، وحفظ القرآن في الثانية عشر من عمره وأتقنه، وبعد أن أتم دراسته في كيرانة ارتحل صوب دهلي التي كانت حاضنة العلماء ومهبط المثقفين فالتحق بمدرسة الأستاذ محمد حيات، ثم اتجه إلى لكنهو “قرطبة الهند”، وتلقى العلم من المفتى سعد الله، والإمام بخش الصهباني، والطبيب محمد فيض، ثم عاد إلى بلدته كيرانة، وأسس فيها مدرسة شرعية خرجت أبطالا لهم العطاءات المستمرة في مجالي التدريس والتأليف.

وشغل منصب القاضي والمدرس في علاقته كيرانة في محافظة أتاربرديش شمال الهند، وعاش فترة الفتن والفسادات التي أطلقها الاحتلال البريطاني هدفا إلى تفكيك وحدة المسلمين وتشتيتهم نحلا ومللا، فخاطوا لها مؤامرات طويلة، فجمدوا كل مستنهضات همم الأمة، واعتقلوا العلماء وأذلوهم، وأنزلوهم من كراسي شرفهم، وبحثوا عن المرتزقين المتملقين، ولكن عادت كل هذه المحاولات بخيبة الأمل، حتى استوردوا مبشرين من الدول الأوربية، وبدأوا يتحدون الإسلام والمسلمين، ويطرحون تساءلات مستفزة لجس نبضة الأمة حتى أن لاحظها رحمة الله الكيرانوي، فلم يلبث ولم يتوان في الاستجابة، فانبرى بقلمه السيال لتأليف كتاب يدحض مزاعم المبطلين ويظهر الحق المبلج ويقيمه بعد أن كان أعرج يتعثر في الطرق الوعرة التي شقها أعداء الدين منذ السنين، وكان من أبرز المنصرين الذين بعثته الإنجلترا لنشاطات تنصيرية في الهند القس كارل بفندر، حيث كان كاتولوكيا في أول أمره ثم تحول إلى البروتستانتية، والذي تمتع بقدرة وافرة لأسر قلوب العوام وجذبهم إلى خطباته التنصيرية، وألف كتاب “ميزان الحق” ليزرع في ضعفاء القلوب بذور الشك والازدراء من الشريعة الإسلامية حتى كاد ينجح في مهمته لولا تنبه إلى خطورة هذه الخطة البشعة علماء المسلمين، فتصدوه من خلال كتب عدة لكن الاحتلال وقف في صالح بفندر ليتقوقع المسلمون في مأزق مصيري يقضي على حريتهم وكرامتهم، بل ظل هذا الكتاب المضل يغزو البيوت لما كان جامعا كل التهم والطعنات على الإسلام، فكان من الواجب الاجتماعي تنظيم مناظرة علنية مفتوحة أمام الجمهور، فلبى فندر لطلب الشيخ الكيرانوي حتى شهدت الهند لأكبر حدث ديني يفصل الأمور ويحسمها.

وفي 1863م جرت المناظرة الدينية بين الشيخ الكيرانوي والقسيس فندر حتى انقلب السحر على الساحر، وأثرت المناظرة تأثيرا بالغا في توسيع رقعة الإسلام، وتجلية صورته المشوهة، وأعقبت نتائج إيجابية كبيرة في صالح المسلمين، وتركت أصداء عالية في أوساط المبشرين حتى أشعلت غضبتهم، وحركت ساكنهم، فتربصوا بالشيخ وتحينوا له الفرص حتى تفجرت الثورة الاستقلالية الكبرى في الهند عام 1857م وأبلى فيها المسلمون بلاء حسنا، وراح ضحيتها آلاف منهم ما بين جرحى وقتلى، فجاء الاحتلال يمشط محافظة أتاربرديش، ويفتش كل دار وكل كوخ ليجد رائحة الشيخ المناظر المنتصر، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل اعتقل ذويه وصادر ممتلكاته إلا أن الطائر قد طار إلى المكة المكرمة ليجد وكره المحبوب، ويعشش في الحرم المقدس ليكمل مشواره، ويبني هناك مدرسة نظامية تحولت بعد إلى المدرسة الصولتية نسبة إلى أميرة هندية قدمت المكة لأداء الحج وساعدت الشيخ لبناء هذه المدرسة، تعلم فيها العلوم الشرعية على أسس متطورة، وعلى نظم رصين بعد أن كانت الدراسة الشرعية تتململ في أسر التقاليد التي لا حراك فيها، وإلى الأن توجد هناك تلك الآثار التي تعبر عن تراث أصيل خلفه عالم هندي في البلاد العربية.

ولقد كتب الشيخ كتابه الرائع إظهار الحق وهو في المكة بإشارة من علماءها الكرام، وقد انتهت إلى مسامعهم تلك الأخبار التي حملها الركبان عن المناظرة الكبرى التي انعقدت في شبه القارة الهندية، وانتصار المسلمين فيها انتصارا كاسحا مما جعل القس فندر متغيبا بل هاربا من اليوم الثالث للمناظرة، وجاء هذا الكتاب ليكون ردا على كتاب ميزان الحق الذي كتبه فندر نفسه والذي وصفه محقق “إظهار الحق” د. محمد ملكاوي إنه أخطر كتب المنصرين على الإطلاق، وعالج الشيخ جميع التهم التي وجهها القس فندر، وناقشها نقاشا حارا مما خيب آمال المنصرين في الهند وفي العالم أجمع، وترجم إلى عدة لغات عالمية بما فيها التركية العثمانية والإنجليزية والأردية والغجراتية، وتلقى رواجا كبيرا في أوساط العلماء والعوام.

وتوفي الشيخ الكيرانوي عام 1891م في المكة المكرمة ليلة الجمعة من شهر رمضان، ودفن في المعلاة بالقرب من أم المؤمنين السيدة خديجة عن عمر يقارب خمسا وسبعين سنة. وأصبح الشيخ ومناظرته وكتابه “إظهار الحق” حديث الألسن وملهم الدعاة الإسلامية، وبقيت مآثره عصية على مر الزمان، وأسهمت في إنجاب علماء ودعاة يرابطون ثغور الأمة الإسلامية، لا يفترون ولا يتوانون حتى شهد القرن العشرون انتصارات المناظر المظفر والداعية المنتصر الشيخ أحمد ديدات، ومن بعده تلميذه الواعد الدكتور ذاكر نايك ليكون ذلك الشبل من ذلك الأسد، وكذلك الشيخ إي ك أبو بكر مسليار المتوفى 1996م المعروف في ديار مليبار الهندية بلقب شمس العلماء، والذي تصدى المبشرين حين استغلوا الفقر والتخلف الذي كان سائدا في مليبار في السبعينات، وظلوا يقاومون تيارات الفتن، ويقهرون المتربصين أينما ثقفوا، ويلهمون الدعاة ويحمسونهم، فتلك هي مسيرة الداعية رحمة الله الكيرانوي، الحارس اليقظ المرابط في ثغور الدين، تقبل الله خدماته وجعلها في ميزان حسناته آمين يا رب العالمين.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى