بقلم د. مصطفى الستيتي
قبل سنوات سألني أستاذ التّاريخ المعاصر في جامعة إسطنبول الدّكتور محمد إبشرلي عن كتاب بالعربيّة يتحدث عن تاريخ تونس في العهد العثماني يمكن الاستفادة منه لفهم مرحلة الوجود التّركي في تونس والتي امتدّت لنحو ثلاثة قرون انتهت بالاحتلال الفرنسي عام 1881م. فذكرت له كتاب “إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان” للمؤرخ التونسي الكبير أحمد بن أبي الضّياف، وهو كتاب ضخم يتكون من عدة مجلّدات. ثم علِمت بعد ذلك أنّ هذا السياسي والمؤرخ زار إسطنبول مرّتين، إحداهما عام 1831م بعد احتلال فرنسا للجزائر والرّحلة الثّانية عام 1842م. وإذا لم تتوفّر لنا معلومات عن الرّحلة الأولى فإنّ وقائع الرّحلة الثانية ذكرها صاحبها في كتابه بشيء من التّفصيل.
ولد المفكّر والمصلح التّونسي أحمد بن أبي الضّياف سنة 1805م بتونس العاصمة. عُرف منذ طفولته بقوّة ملاحظته وفطنته. وكان والده كثيرًا ما يصطحبه إلى بعض الدروس في الجوامع ليستمع لمشاهير علماء عصره مثل الحسن الشّريف. حفظ القرآن صغيرًا وتردّد على جامع يوسف صاحب الطّابع ومدرسته وكذلك جامع الزّيتونة، فأخذ عن أبرز مشايخ زمانه مثل الشّيخ إسماعيل التّميمي ومحمد بيرم الثّالث وإبراهيم الرّياحي ومحمد بن الخوجة والشّيخ المنّاعي. وكان شغوفًا بالعلم والأدب والترسّل.
بدأ حياته المهنيّة بتوليه خطّة العدالة (التّوثيق) عام 1822م. وفي عهد حسين باي اِلتحق بديوان الإنشاء رغم رفض والده، وباشر تحرير أهمّ المراسلات الرّسمية وقوانين الدّولة. وحرّر منشور الإصلاح الجنائيّ، ومنشور الباي حسين إلى سكّان قسنطينة عام 1831م طالباً منهم الانضمام إلى تونس للنّجاة من الاحتلال الفرنسي.
وكانت كفاءته ورجاحة عقله سببًا في إرساله إلى إسطنبول لقضاء عديد المهام من قبيل صحبته مصطفى البلهوان سنة 1831م لاستئذان السّلطان العثماني في إنشاء جيش نظامي في تونس عقب اِحتلال فرنسا لجارتها الجزائر قبل ذلك التّاريخ بعام واحد.
وفي أواسط شهر مارس 1842م أرسل الباي هديّة إلى الدّولة العثمانيّة وهي عبارة عن باخرة مجهّزة بمدافعها وكلّ ما يلزمها، وهي من الصّناعة التّونسية، وأرسل كذلك خمسين ألف ريال وأشياء أخرى من إنتاج البلاد. وكان السّبب في ذلك أنّ الصّدر الأعظم مصطفى رشيد باشا عمل على تنفيذ التّنظيمات الخيريّة في تونس، بيد أنّ الباي لم يعمل بتعليماته ونصائحه فأبدى شيئًا من الانزعاج وعبّر عن ذلك بقوله “لا يمكن أنّ السّلطان يتصرّف بقانون تنظيماته وباشا تونس يتصرّف في المسلمين بلا قانون شرعيّ ولا سياسيّ، ومآل ذلك إلى خراب المملكة لا محالة”.
وعندما علم الباي بذلك استشار وزراءه فأشَاروا عليه بإرسال شيء من المال هديّةً، واختير لهذه المهمّة أحمد بن أبي الضّياف ورافقه الشّيخ أبو محمد خير الدّين كاهية دار البَاشا، وكذلك أبو عبد الله كشك محمد. وكان السّفر يوم الجمعة 11 مارس سنة 1842م. وعند الوصول إلى القسطنطينية تم استقبال هذا الوفد أحسن استقبال، كما تمّ قبول الهديّة، وقابلهم السّلطان عبد المجيد بنفسه.
ويومئذ كان عزّت محمّد باشا هو الصّدر الأعظم، وطاهر باشا وزير البحر، وأمّا رشيد باشا فقد كان متخلّيًا عن الوظيفة. وقد تمت دعوة ابن أبي الضياف ورفاقه من قبل نجيب علي باشا ناظر الحربيّة إلى بيته في البُوغاز، وهو من أعيان الوزراء ويتكلم العربيّة، وأحسن وفادتهم في بيته، وكلّمهم في شأن الرّابطة الإسلامية، ورأى ضرورة أداء شيء من المال في كلّ عام للدّولة العلية تعبيرًا عن هذا الرّباط، وقال لهم إن هذا المال “موكول تعيين مقدارِه للباشَا، ولو أقلّ ممّا أَتيتم به الآن، إذ المقصود به ربط الالتِحام لا الالتحام”.
ثم تمّت دعوتهم من قبل الصّدر الأعظم عزت باشا، وتكلّم معهم في شأن المال، ثم قال :” أترضون أن يكون صَنجق (لواء) بلادِكُم في هذه الحَاضرة مخالفًا لسنجق الإسلام؟” فردّوا عليه بأنّ تونس جزء من الدّولة، وهي تحت أمرها ولا يمكن أن تخرج عن الطّاعة. ثم تحدّث معهم عن التّنظيمات الخيريّة، ورأى أنّ تونس إذا لم تُطبّق هذه التنظيمات فهي تبقى في خطر كبير. ثم إنّه خصّ ابن أبي الضّياف بحديث على انفراد، وأخبره بأنّ شيخ الإسلام عارف بك يودّ أن يتحدّث معه في بعض الشّؤون. وتفضل السّلطان على بحرية التّوانسة وضُبّاطهم بخمسين ألف قرش.
ثم إنّ عارف بك اِستدعى ابن أبي الضّياف وسامره وتحدّث معه في أمور علميّة، وسأله عن أخبار الشّيخ إبراهيم الرّياحي وأثنى عليه، ثم تكلّم طويلاً في شأن التّنظيمات، وأنّها من أصول الدّين الإسلامي حتّى قال: “يَقبح بنا، مَعاشر المسلمين، أن يَغصِبنا غيرُنا على أعظم أصول مِلّتنا، وهو العَدل الذي يُحبه الله ولا يحبّ غيره، وكأنّ هؤلاء الملوك يُريدون مُشارَكة الله في كونه يَفعل ما يريد ولا مُعقب لحكمه”.
ثم إنّه نزولاً عند وصيّة الشّيخ إبراهيم الرّياحي ومراعاةً لما جاء في مكتوبه كان عارف بك يُداوم على مُسامرته ودعوته للمَبيت عنده. وسامره ليلةً فأومض برقٌ من جهة المغرب فمازحه قائلاً: “هذا البرقُ من جهة بِلادكم، فهل لك أن تقول فيه شعرًا؟”، فأنشد ابن أبي الضّياف قائلاً: تألّق غريبًا فذكّرني الخَضرَا وأذكَى لنارِ الشّوقِ في كَبدي جمرَا إذا مَا سَلا قَلبي بِروضِ عُلومِكُم أتَته جُنود العَهدِ تَطلبُه قســـــــرَا حتّى يقول:
لادِي الّتِي رَبّت وحَنّت وهَذّبَت فَبائِسُها مَا إنْ يَجــــوع ولاَ يَعـــــرى سَقى حَلقَ وَادِيها وكُلَّ حُصونِها مِن السّحب غيثٌ يُمطر العِز والنّصرَا وقد أعجب ابن أبي الضّياف بما يتميّز به الشّيخ عارف من اتّساع العلم ورحابة الصّدر وروح الدّعابة وكرم الضّيافة. ثم عاد الوفد إلى تونس يصحبه عارف زكي من رجال القَلم في الدّولة في فرقاطة عثمانيّة.
عيّنه محمد باي والي تونس في لجنة تحرير “عهد الأمان” الذي يمنح سكّان البلاد حقوقًا تكون قاعدة للدّستور، فكان الوحيد ذا التكوين الفقهي في هذه اللّجنة بعد أن استقال منها كلّ المفتين والقضاة. واختير أيضًا رئيسًا للمجلس الوقتي الذي هو عبارة عن لجنة أحدثت للفصل في القضايا بين التّونسيّين والأجانب.
إلاّ أنّ ثورة علي بن غذاهم سنة 1864م وتعطل مؤسسات البلاد، ومنها المجلس الأكبر أبعد ابن أبي الضياف عن النشاط السياسي لبعض الوقت، ثم عاد مجدّدا مع خير الدّين التّونسي الذي عينه مستشارًا في الوزارة الكبرى، إلاّ أنّه استقال في يناير 1872م لأسباب صحّيّة ولزم بيته ليتفرّغ للكتابة.
أحمد ابن أبي الضّياف واحد من بين عشرات العُلماء والسّياسيين والمفكرين التّونسيين الذين زاروا إسطنبول في فترات مختلفة، وقد سبق ابن أبي الضّياف إلى هذه المدينة العظيمة علماء كبار أمثال صالح الكوّاش وإبراهيم الرّياحي ومصطفى البلهوان وغيرهم. وهؤلاء بلا شك يمثّلون همزة وصلٍ قويّة في العلاقات التّاريخيّة والثّقافية المتجذّرة بين تونس وتركيا. هذه العلاقات التي ظلّت على الدّوام قوية وصلبة. وحريّ بالباحثين أن ينقّبوا في سيرة هؤلاء الأعلام الذين زاروا إسطنبول ويبحثوا في مدى مساهماتهم العلميّة والثّقافية ودورهم المحوري في توثيق الصّلات بين الجانبين التّونسي والتّركي.
(المصدر: ترك برس)