مقالاتمقالات مختارة

رجاءُ بن حيوة الكندي.. ماذا تعرف عن زعيم الدولة الأموية العميقة وباني قُبة الصخرة؟

رجاءُ بن حيوة الكندي.. ماذا تعرف عن زعيم الدولة الأموية العميقة وباني قُبة الصخرة؟

بقلم أحمد إبراهيم

“كان رجاء بن حيوة وزيرا ومستشارا وقيّما على عُمّال الأمويين وأولادهم”.

(ابن عبد الحكم المصري في كتابه “سيرة عُمر بن عبد العزيز”)

كان استشهاد الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفّان الأُموي عام 35هـ/655م، وارتقاء الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب الهاشمي -رضي الله عنه-، بداية لخمس سنوات من الفتن والحروب والصراعات الداخلية بين فريق رأى أولوية استتباب الأمن وعودة الهدوء وطاعة الأمصار للخليفة الجديد، ومن ثم القصاص من قتلة عثمان لقوة قبائلهم واختلاط الناس يومئذ، وعلى رأس هؤلاء الخليفة علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن العباس -رضي الله عنهما-، وفريق آخر رأى أن بقاء هؤلاء القتَلَة في المدينة تحت عين الخليفة وسمعه وبصره أمر لا يمكن السكوت عنه، وعلى رأسهم معاوية وعائشة وطلحة والزبير بن العوام -رضي الله عنهم-.

وقد انقسمت الأمة، واشرأبَّت أعناق الفتنة، وتلاحى المسلمون يومذاك، حتى استُشهد علي -رضي الله عنه- في مُصلاه على يد ابن مُلجم في رمضان سنة 40هـ/660م، وحمل الراية من بعده ابنه الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 49هـ) -رضي الله عنه- الذي أيَّده عموم أهل العراق وقسم من الجزيرة العربية في مسعاه في خلافة والده، وإعادة توحيد الأمة بعدما اختلفت بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، لكن الحسن أدرك خذلان أهل الكوفة له، وميل كفّة القوة ناحية أهل الشام ومعاوية، فآثر أن يتخذ طريق الدبلوماسية والمفاوضات، وأن تتحد الأمة بدلا من سقوطها في دوامة القتل والدم، فخلع نفسه، وبايع هو وأخوه الحسين -رضي الله عنهما- وكبار مؤيديه من الصحابة وأبنائهم وأهل العراق معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- عام 41هـ، المسمّى بعام الجماعة، شريطة أن يرجع الأمر شورى إلى الأمة بعد وفاته.

وبذلك قامت دولة الخلافة الأموية، وأضحى معاوية خليفة هذه الأمة، فدامت دولتهم في الفرعين السُّفياني والمرواني لمدة إحدى وتسعين سنة هجرية، بما يعادل تسعين أو تسعا وثمانين ميلادية (41-132هـ/661-750م)، تولَّى فيها الخلافة منهم أربع عشرة خليفة، أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان بن محمد بن عبد الملك بن مروان.

واجه الأمويون العديد من التحديات والمشكلات الخطيرة مع ارتقاء معاوية، فلئن تنازل الحسن بن علي وتوحَّدت الأمة تحت رايته، فإن فريقا من هذه الأمة وهم طوائف الخوارج لم يرضوا عن التسوية السياسية التي تمت، وقد استغل البيزنطيون من ناحيتهم هذه الأحداث فأعادوا الهجوم على الثغور وفي البحر المتوسط، وهو تحدٍّ نجح الأمويون في مواجهته، فاستأنفوا الفتوح في المشرق والمغرب، فضلا عن نجاحهم في تحقيق الأمن الداخلي والعدالة الاجتماعية، وتوزيع العطايا وغيرها من الملفات.

بيد أن هذا النجاح على صعيد السياسة الداخلية والخارجية لم يكن من صُنع الأمويين وحدهم، فهم في نهاية المطاف أسرة حاكمة اتكأت على رجال من الأمة عملوا في الظلّ مستشارين ومؤسسين “للدولة العميقة”، واستطاعوا تقديم النصح والإرشاد، وأشرفوا بنجاح لافت على العديد من المسائل المفصلية آنذاك.

ويأتي على قمة الهرم من هؤلاء رجاء بن حيوة الكِنْدي الفلسطيني، الفقيه ورجل السياسة المخضرم، الذي ألقى إليه الأمويون بثقتهم وثقلهم، فمَن هو رجاء بن حيوة؟ وكيف تمكَّن بمرور الزمن أن يصبح -بلا مبالغة- رأس الدولة العميقة عند الأمويين؟ وما أبرز الملفات التي تولَّى الإشراف عليها؟

وُلد رجاء بن حيوة بن جرول بن الأحنف بن السمط الكِنْدي في مدينة بيسان التابعة لـ”جُند/مقاطعة الأردن” آنذاك، ثم انتقل إلى فلسطين واستقر في بيت المقدس حتى مماته، وقد التقى في صغره مع والده بالصحابي معاذ بن جبل أحد فاتحي الشام والأردن (ت 18هـ)، وأشار معاذ على والده بتعليمه القرآن، مما يدل على أن رجاء وُلد قبل وفاة معاذ ببضع سنين، وكان جدّه جرول بن الأحنف الكندي من الصحابة الذين أدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وروى عنه حديثا. [1].

بعدما تعلَّم القرآن الكريم وحفظه في بيت المقدس، أخذ رجاءُ علومَ الفقه والحديث على يد العديد من الصحابة مثل عُبادة بن الصامت الأنصاري وأم الدرداء، وشيئا فشيئا ذاع صيتُ رجاء حتى أصبح واحدا من أعلم فقهاء ومشاهير فلسطين والشام قاطبة، وكان بعض كبار علماء الأمة في عصره يقول: “رأيتُ ثلاثة ما رأيتُ مثلهم: محمد بن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوَة بالشام”[2].

لكن اللافت أن رجاء لم يكن يرى -كما بقية علماء الشام وزهّادهم آنذاك- أن الزهد يقتصر على القيام بالفرائض والنوافل وقمع الشهوات والإعراض عن الملذات والترغيب في الآخرة، بل كان يرى أنه عمل واجتهاد ومشاركة في الحياة العامة والإشراف عليها، والعمل على وحدة الأمة، ولهذا السبب انخرط رجاء في جهاد الروم البيزنطيين، والعمل في دواوين الأمويين مثل ديوان الرسائل (وزارة الخارجية)[3].

وكان اقتراب رجاء بن حيوة من الأمويين منذ زمن معاوية بن أبي سفيان، ويبدو أن هذه العلاقة بدأت منذ ما قبل خلافة معاوية حين كان واليا على الشام، ففي “الطبقات الكبرى” لابن سعد البصري (ت 251هـ) نرى رجاء يأخذ الحديث النبوي الشريف مِن معاوية في حديث “مَن يُردِ اللهُ به خيرا يُفقِّهه في الدين”. [4].

وبعد انتقال الخلافة الأموية إلى البيت المرواني بداية من عام 64هـ/683م على يد مروان بن الحكم الأموي (ت 65هـ)، أصبح رجاء من المقربين لهذه الأسرة لما رأوه فيه من نزاهة وعلم وانخراط حكيم في شؤون الدولة الإدارية، وسعيه الحثيث لتوحيد راية الأمة بعدما انقسمت من جديد بين الصحابي عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- (ت 73هـ) وعبد الملك بن مروان (ت 86هـ)، وقد اختار رجاء أن يكون في صف الأمويين وفق تقديره للظروف وقراءته للواقع آنذاك.

واللافت أن عبد الملك بن مروان قبل خلافته كان من فقهاء وعلماء المدينة السبعة المشاهير من جيل التابعين الكبار، وهو في هذا مثل رجاء، وإن كان عبد الملك أصغر سِنًّا؛ ورغم ذلك كان رجاء يُحدِّث عن عبد الملك بن مروان “لغزارة علمه” كما يخبرنا الذهبي في “سير أعلام النبلاء”؛ ومن هنا نُدرك أن علاقة رجاء بن حيوة بالبيت المرواني كعلاقته بالبيت السفياني سابقا كانت تقوم أولا على الصلة العِلمية قبل السياسية، وذاك زمان كان العلم والدين والسياسة تتداخل بشكل أوثق من يومنا هذا.

ولهذا عمل رجاء بن حيوة وسيطا دبلوماسيا في حرب الأمويين والزُّبيريين، فقد كان كلٌّ من عبد الله بن الزبير بن العوام وأخوه مصعب في الحجاز والعراق يعملون على التوسُّع على حساب عبد الملك بن مروان في الشام ومصر، وظلَّوا في حروب ومناوشات استمرت عشر سنوات، وكان أحد التابعين الكبار المؤيدين لمصعب بن الزبير في العراق، وهو زُفر بن الحارث الكلابي، يقود بعض هذه المواجهات، فأرسل عبد الملك بن مروان رجاءَ بن حيوة لزُفر لكي يدعوه إلى طاعته ويدخل في حلفه[5].

 

 

على أن أهم وأعظم ما قام به رجاء بن حيوة تكليفه من قِبل عبد الملك بن مروان بالإشراف على بناء قُبة ومسجد الصخرة في حرم المسجد الأقصى، وقد أعطاه من الذهب أطنانا في سبيل ذلك، واستمر إشرافه وعمله على تحقيق هذا المشروع الكبير طوال ست سنوات كاملة ما بين 66-72هـ/685-691م، فلما انتهى من بنائها وتوفَّر من نفقاتها مئة ألف دينار ذهب (ما يقارب 25 مليون دولار)، كتب رجاء إلى الخليفة عبد الملك يخبره بذلك، فطلب منه عبد الملك أن يأخذ هو ومساعده الفقيه يزيد بن سلام هذا المبلغ نظير جهدهما الكبير لإتمام هذا المشروع، لكنهما رفضا قائلين: “نحن أولى أن نزيدَ من حُلي نسائنا فضلا عن أموالنا”[6]، فأمرهما عبد الملك بصهر هذا الذهب وسبكه على قبة الصخرة!

وبهذه العفّة عن النظر والتطلُّع إلى الأموال العامة، جنبا إلى جنب مع دبلوماسيته الناجحة، كسب رجاء ثقة عبد الملك بن مروان الذي عيّنه خازنا لبيوت المال (وزيرا لمالية الدولة)، وأسند إليه مع ذلك مهمة تربية ابنه سُليمان بن عبد الملك (ت 99هـ)، ثم أرسله عبد الملك برفقه أخيه بِشر بن مروان حين ولّاه العراق مستشارا له، وأمره أن يصلي بالناس، فكان مستشارا مؤتمنا، وفي الوقت ذاته كان يلتقي بعلماء العراق فيأخذ منهم ويأخذون منه، كما عُيّن مستشارا لوالي مصر وأخي عبد الملك بن مروان، عبد العزيز بن مروان، وعلت منزلته عند الأسرة الأموية الحاكمة، فكان من رأيه عدم قتل المشاركين في ثورة ابن الأشعث المسلحة، وهي إحدى أخطر ثورات العراق ضد الدولة الأموية، فأخذ عبد الملك برأيه وعفا عنهم، ولهذه المنزلة الكبيرة اتخذه أبناء عبد الملك بن مروان بعد أبيهم “وزيرا ومستشارا وقيّما (مشرفا) على عُمّالهم وأولادهم”[7].

وقد اتخذه الوليد بن عبد الملك بن مروان (86-96هـ) مستشارا مقربا، لكن سليمان بن عبد الملك (96-99هـ)، الذي كان رجاء بن حيوة شيخه وأستاذه ومُعلِّمه في مرحلة الصبا والفتوة، قد جعله في منزلة عالية حتى غلب على الدولة كلها، وفي ذلك يقول اليعقوبي المؤرخ: “كان رجاء بن حيوة غالبا على سليمان بن عبد الملك”، ووصفه العلامة الذهبي بأنه “كان وزيرا لسليمان بن عبد الملك”[8]. ويصفه الذهبي أيضا بـ”الإمام القدوة، والوزير العادل”[9].

ومع عمله وزيرا ومستشارا مهيمنا على سياسة الخليفة سُليمان بن عبد الملك بن مروان؛ كان رجاء يُشير عليه بالرأي الذي يُفيد الصالح العام، ويسهل على الناس أمور دينهم ودنياهم، فقد كان بينه وبين الفقيه عبد الله بن موهب عداوة بالغة، ورغم ذلك زكّاه وأيَّده في تولي منصب القضاء، يقول: “ولو خُيِّرتُ بين أن أُحملَ إلى حُفرتي (قبري) وبين ما وُلِّي ابن موهب لاخترتُ أن أُحمل إلى حُفرتي. قال (سائله): إن الناس يزعمون أنك الذي أشرتَ به. قال: صدقوا إني إنما نظرتُ للعامة ولم أنظر له”[10].

ولهذه المكانة البليغة والمنزلة العظيمة كان سليمان لا يخرج عن رأيه في السياسة العامة للدولة الأموية، ولا يكاد يمضي قرارا إلا بمشورته، حتى وسُليمان على فراش الموت، كان رجاء بن حيوة يُشير عليه بأكثر الناس دينا وأمانة في بني أمية ليخلفه، وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان، ابن عم سليمان، مُقدِّما إياه على إخوته الأحياء يزيد وهشام وسعيد ومسلمة وغيرهم، يقول ابن عبد الحكم المصري (ت 214هـ) في “سيرة عمر بن عبد العزيز”: “فأشار عليه رجاء بعُمر (بن عبد العزيز)، وسدّدَ له رأيه فيه، فوافق ذلك رأي سُليمان، وقال لأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب”[11].

كتب سليمان بن عبد الملك وصيته فيمَن يخلفه وختمها وأعطاها إلى رجاء بن حيوة، ثم دعا أهل بيته وإخوته فبايعوا على كتاب الوصية وهو مختوم، ثم لما مات سليمان أخذ رجاء الوصية المختومة وأعلن البيعة في المسجد، ثم فتح الوصية وأعلن استخلاف عمر بن عبد العزيز. ولقد جمعت بين رجاء وعُمر قبل الخلافة “صداقة وصُحبة في نُسكهم وعبادتهم”[12]، لذا جعله عُمر على رأس المستشارين له، وولّاه رئاسة ديوان الرسائل، وكان لا يخرج عن رأيه إذا استشاره.

وكان عُمر بن عبد العزيز يرى لرجاء الفضل والمكانة والمنزلة الكبرى، وذات يوم، بات رجاء عند عمر فهمَّ السراجُ أن يخمد (ينطفئ)، فقام إليه (رجاء بن حيوة) ليُصلحه، فأقسمَ عليه عمر ليقعُدن، وقام عمر فأصلحه، “قال: فقلتُ له: يا أمير المؤمنين! أتقومُ أنت؟! قال: قمتُ وأنا عُمر ورجعتُ وأنا عمر”[13]!

ولعل هذه العلاقة المميزة بين رجاء وخلفاء البيت المرواني؛ عبد الملك وابنه الوليد وسليمان وابن أخيه عمر بن عبد العزيز، جعلت المؤرخين يصفونه بـ”زاهد بني أمية، والحاكم بأمره في دولتهم”، ووصفه ابن كثير بأنه كان “وزير صدق لخلفاء بني أمية”، وهي صفات تؤكِّدها حوادث التاريخ التي استعرضنا بعضها.

ولهذا السبب تحديدا، نقم عليه المتأخرون من بعض خلفاء بني أمية وعلى رأسهم يزيد بن عبد الملك بن مروان (101-105هـ/719-723م)، لا سيما بعد مقتل ابن عمّه الخليفة عمر بن عبد العزيز بالسُّم سنة 101هـ/719م على أرجح الآراء، وكان المحدث والمؤرخ ابن الجوزي يرى ذلك قائلا: “كان يصحبُ خلفاء بني أمية، ويأمرهم بالمعروف، فلما مات عُمر بن عبد العزيز انقطع عن صحبتهم”. ويوافقه العلامة الذهبي الذي يقول: “كان رجاء بن حيوة كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك وعُمر بن عبد العزيز، وأجرى الله على يديه الخيرات، ثم إنه بعد ذلك أُخِّر، فأقبل على شأنه”[14].

أقبل رجاء بن حيوة إذن على شؤونه الخاصة، وعلى رأسها العلم، فظل حتى وفاته عام 112هـ/730م واحدا من أشهر علماء ووعّاظ بيت المقدس وفلسطين والشام قاطبة، وأكثرهم صيتا وشأنا، لكن دوره السياسي كان مفصليا في الدولة الأموية، حتى إننا يمكن أن نصفه بزعيم الدولة الأموية العميقة، ومُوجِّه بوصلتها لعدة عقود، ولا شك أن ابتعاده عن السياسة في السنوات العشر الأخيرة من حياته كان له تأثيره السلبي على مسار هذه الدولة؛ إذ لم تمر عشرون سنة على وفاته حتى سقطت دولة بني أمية في المشرق سنة 132هـ/750م دون رجعة!

 

__________________________________________________

المصادر:

[1] ابن الأثير: أسد الغابة ص331.

[2] ابن عساكر: تاريخ دمشق.

[3] رجاء بن حيوة الكندي ودوره في الحياة العامة ص261.

[4] الطبقات الكبرى، الطبقة الرابعة ص111.

[5] ابن عساكر: تاريخ دمشق 18/104.

[6] شمس الدين المنهاجي: إتحاف الأخصّا بفضائل المسجد الأقصا 1/242.

[7] ابن عبد الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز ص123.

[8] الذهبي: تاريخ الإسلام 45/158.

[9] سير أعلام النبلاء 4/557.

[10] الفسوي: المعرفة والتاريخ 2/369، 370.

[11] ابن عبد الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز ص33.

[12] ابن عبد الحكم: سيرة عمر ص123.

[13] الصفدي: الوافي بالوفيات 14/70.

[14] الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/335.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى