مقالاتمقالات مختارة

رتبة الفنون وجمالياتها وتكييفها الشرعي.. نظرة مقاصدية

رتبة الفنون وجمالياتها وتكييفها الشرعي.. نظرة مقاصدية

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

مقاصد الشريعة الإسلامية -كما هو معلوم ومتواتر عن العلماء- ثلاث مراتب: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.

والفنون ومركزها الجمال تدخل ضمن المرتبة الثالثة؛ وهي التحسينيات، وَقِسْمُ التَّحْسِينِيَّاتِ –كما قال الإمام الشاطبي- جَارٍ أَيْضاً كجريان الحاجيات؛ فإنها راجعة إلى العمل بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَحْسُنُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ كَالطَّهَارَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَوَاتِ، عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَمَحَاسِنِ الْهَيْئَاتِ وَالطِّيبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَانْتِخَابِ الْأَطْيَبِ وَالْأَعْلَى فِي الزَّكَوَاتِ وَالْإِنْفَاقَاتِ، وَآدَابِ الرِّفْقِ فِي الصِّيَامِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّفُوسِ كَالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ، وَآدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّسْلِ؛ كَالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ، مِنْ عَدَمِ التَّضْيِيقِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَبَسْطِ الرِّفْقِ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَالِ؛ كَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ إِشْرَافِ نَفْسٍ وَالتَّوَرُّعِ فِي كَسْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَالْبَذْلِ مِنْهُ عَلَى الْمُحْتَاجِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَقْلِ؛ كَمُبَاعَدَةِ الْخَمْرِ وَمُجَانَبَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ اسْتِعْمَالَهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَاجْتَنِبُوهُ) (المائدة: 90) يُرَادُ بِهِ الْمُجَانَبَةُ بِإِطْلَاقٍ، فَجَمِيعُ هَذَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ بَيَّنَهُ الْكِتَابُ عَلَى إِجْمَالٍ أَوْ تَفْصِيلٍ أَوْ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعاً، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ قَاضِيَةً عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ فِي الْفَهْمِ وَأَشْفَى فِي الشَّرْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ، وَالْعَاقِلُ يَتَهَدَّى مِنْهُ لِمَا لَمْ يُذْكَرُ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ(1).

رتبة الفنون وجمالياتها في رتب المقاصد:

رتبة التحسينيات التي تندرج فيها الفنون هي المسؤولة عن جماليات التشريع، وعن تقريبه للنفوس وتقبلها له بقبول حسن، فإذا أضيف إلى عنصر الإيمان بالله تعالى عنصر التحسين الجمالي كان أقرب إلى الامتثال، وأدنى إلى المداومة على العبادة.

بل جعل بعض الأصوليين رتبة التحسينيات ثلاث مراتب: منفعة وزينة وفضول، وذلك بعد الضرورة والحاجة، قال الزركشي: فَائِدَةٌ: جَعَلَ بَعْضُهُمْ الْمَرَاتِبَ خَمْسَةً ضَرُورَة، وَحَاجَة، وَمَنْفَعَة، وَزِينَة، وَفُضُول.

فالضرورة: بلوغه حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب؛ كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم، والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرم، وأما المنفعة: فكالذي يشتهي خبز الحنطة ولحم الغنم والطعام الدسم، وأما الزينة: فكالمشتهي الحلو المتخذ من اللوز والسكر والثوب المنسوج من حرير وكتان، وأما الفضول: فهو التوسع بأكل الحرام أو الشبهة، كمن يريد استعمال أواني الذهب أو شرب الخمر(2).

وبهذا؛ يتبين لنا أهمية الفنون ومركزها الذي هو الجمال، وما تحتله من مرتبة مهمة وفاعلة في منظومة مقاصد الشريعة، وما لذلك من آثار في التعبد لله، وما له من وظيفة في الاجتماع الإنساني والاتساق مع الكون والتشريع، وعمارة الحياة.2020-07-12_10h10_14.jpg

التكييف الشرعي للفنون في ضوء المقاصد:

نعني بالتكييف الشرعي هنا فهم حكمها ومنزلته في ضوء المقاصد، وليس الحديث عن حل أو حرمة الفنون، فهذا أمر قد بحثه العلماء بما لا مزيد عليه، وفيه خلاف مشهور للاختلاف في اعتبار جهة النظر التي ينظر منها والمعاني التي يتحدث عنها الفقيه، والسياقات التي تصاحب الفنون.

ويمكننا أن نكيِّف الفنون في منظومة الشريعة بأنها وسائل تحقق، والقاعدة المقاصدية تقضي بأن للوسائل أحكامَ المقاصد، وقد عقد العز بن عبدالسلام فصلاً بعنوان «فصل في انقسام المصالح والمفاسد إلى الوسائل والمقاصد»، قال فيه: «الواجبات والمندوبات ضربان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل، وكذلك المكروهات والمحرمات ضربان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل، وللوسائل أحكام المقاصد؛ فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل، ثم تترتب الوسائل بترتب المصالح والمفاسد، فمن وفقه الله للوقوف على ترتب المصالح عرف فاضلها من مفضولها، ومقدمها من مؤخرها، وقد يختلف العلماء في بعض رتب المصالح فيختلفون في تقديمها عند تعذر الجمع، وكذلك من وفقه الله لمعرفة رتب المفاسد فإنه يدرأ أعظمها بأخفها عند تزاحمها، وقد يختلف العلماء في بعض رتب المفاسد فيختلفون فيما يدرأ منها عند تعذر دفع جميعها، والشريعة طافحة بما ذكرناه»(3).

وفي فصل آخر مهم أيضاً يتحدث حديثاً مهماً ننفذ من خلاله إلى تكييف الفنون تكييفاً شرعياً صحيحاً، قال: «فصل في بيان الوسائل إلى المصالح: يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى المقاصد أفضل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه، والتوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته، والتوسل بالسعي إلى الجهاد أفضل من التوسل بالسعي إلى الجمعات، والتوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات في الصلوات المكتوبات، والتوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبات أفضل من التوسل بالسعي إلى المندوبات التي شرعت فيها الجماعات كالعيدين والكسوفين، وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة، كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها، فتبليغ رسالات الله من أفضل الوسائل؛ لأدائه إلى جلب كل صلاح دعت إليه الرسل، وإلى درء كل فاسد زجرت عنه الرسل، والإنذار وسيلة إلى درء مفاسد الكفر والعصيان، والتبشير وسيلة إلى جلب مصالح الطاعة والإيمان، وكذلك المدح والذم، وكذلك الأمر بالمعروف وسيلة إلى تحصيل ذلك المعروف المأمور به، رتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة مصلحة الفعل المأمور به في باب المصالح، فالأمر بالإيمان أفضل أنواع الأمر بالمعروف.

وكذلك تعليم ما يجب تعليمه، وتفهيم ما يجب تفهيمه، يختلف باختلاف رتبه، وهذان قسمان:

أحدهما: وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه، كتعريف التوحيد وصفات الإله؛ فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد والتوسل إليه من أفضل الوسائل.

القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة كتعليم أحكام الشرع، فإنه وسيلة إلى العلم بالأحكام التي هي وسيلة إلى إقامة الطاعات، التي هي وسائل إلى المثوبة والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد.

وكذلك الولايات تختلف رتبها باختلاف ما تجلبه من المصالح وتدرؤه من المفاسد؛ فالولاية العظمى أفضل من كل ولاية، لعموم جلبها المنافع، ودرئها المفاسد، وتليها ولاية القضاء لأنها أعم من سائر الولايات، والولاية على الجهاد أفضل من الولاية على الحج؛ لأن فضيلة الجهاد أكمل من فضيلة الحج، وتختلف رتب الولايات بخصوص منافعها وعمومها فيما وراء ذلك من جلب المصالح ودرء المفاسد(4).

هذا الكلام النفيس لسلطان العلماء يجعلنا نضع الفنون في مكانها الصحيح، وفي رتبتها اللائقة بها؛ فهي وسيلة تأخذ حكم ما تفضي إليه، وما تعمل على تعزيزه وخدمته، فإن كان موضوع عملها واجباً تأخذ حكمه، وإن كان مندوباً فهي مندوبة، وإن كان محرماً فهي حرام، وإن كان مكروهاً فهي مكروهة.

ولا شك أن أمتنا في واقعها المعاصر تحتاج أن تعيد النظر في هذا الموضوع، وتوليه اهتمامه الملائم له، لا سيما في عصرنا الذي نعيشه؛ ذلك العصر الذي يمر بتحولات اجتماعية وسياسية وفكرية كبرى، لا تمر بها الأمة إلا كل مائة عام، وما لم تأخذ الفنون بمعناها الواسع مكانها اللائق بها في خدمة هذا المشهد فسوف تخسر الأمة الكثير، وتبذل من الوقت والجهد والمال ما يغنيه عنها اهتمامها بأداة الفن بما هي وسيلة قوية ومؤثرة ومعبرة ومغيرة لواقعنا المعاصر وقضاياه الكبرى.

_______________________________________________________________________

(1) الموافقات للشاطبي: 4/351-352. تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. الطبعة الأولى. 1417هـ/ 1997م.

(2) المنثور في القواعد للزركشي: 2/ 319-320. وزارة الأوقاف الكويتية. الطبعة الثانية. 1405هـ – 1985م.

(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبدالسلام: 1/ 53-54. راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد. مكتبة الكليات الأزهرية. القاهرة. طبعة جديدة مضبوطة منقحة. 1414هـ – 1991م.

(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبدالسلام: 1/ 124-126.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى