مقالاتمقالات مختارة

ربيع السودان.. من أين يهب وإلى أين يتَّجه

ربيع السودان.. من أين يهب وإلى أين يتَّجه

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..

على حين غِرَّةٍ .. وبينما الخَلْقُ قد نَفَضُوا أيديهم من كل ما تبقى لهم من الأمل والثقة؛ إذْ بموجة من الربيع العربيّ لم تكن متوقعة، تهب في الجنوب كأعنف ما يكون الهبوب، تهب لِتُرسل – قبل أن تُوَدِّعَ ذاهبةً في ذات الطريق الذي ذهبت فيه أخواتها – رسالةً مفادها: “إنَّ الشعوب شمس لا تغيب وأمل لا يخيب” وفحواها: “إنَّ الاستبداد عدو للشعوب مهما كان مصدره وأيَّاً ما كانت هوية المستبد”.

لقد برهنت أحداث الربيع السوداني على أننا لا زلنا لم نتعلم كثيراً، ولا زلنا لم نتحرر في ذات أنفسنا تحرراً يمكننا من رؤية الحقيقة مجردة من كل قيد، ولا زلنا – و نحن نُقَيِّم الأشخاص والأوضاع – ننحاز ونميل فتنحاز الرؤية بانحيازنا وتميل، وإنني لعلى يقين من أنَّ الكثيرين ممن يجلدون الاستبداد ويلعنون الظلم والفساد في مصر وغيرها يغضون طرفهم ويثنون صدورهم عمَّا يجري في السودان، وينقبون في زوايا الأذهان عن مخارج وتأويلات، لا تُغني في البحث عن الحقيقة إلا بقدر ما يغني من الجوع والظمأ والهلاك الاستياك بأعواد الأراك.

إنَّ الاستبداد هو الاستبداد مهما كانت هوية المستبد، وإنَّ الظلم والعسف والقهر والقمع أمراض للسلطة لا يخفف من قبحها ودمامتها انتساب القائمين عليها إلى دين ولو كان الإسلام، وإنَّ الإسلام لم يحرم هذه الموبقات على الكافرين ليحلها للمسلمين، ولم يأت بشيء هلاميّ مُتَمَيِّع يكون في حق قوم رذائل وفي حق آخرين مناقب وفضائل، وإنَّه لا يُعرف دين تحت قبة السماء أوضح ولا أصرح من هذا الدين القيم الذي بلغ من الوضوح والصراحة والحنيفية والسماحة أنَّه وحده دين الفطرة الإنسانية السوية التي فطر الله عليها العباد أول مرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم 30).

إنَّ نظاماً جاء من اللحظة الأولى عَبْرَ انقلاب عسكريّ على حكومة مختارة من الشعب، وعلى ظهر دبابة غشوم كوجه المستبد؛ ليحكم ويستمر في الحكم بذات الأدوات التي يحكم بها المستبدون من كل مذهب؛ لا يمكن أن يكون نظاماً شرعيا بنظر الإسلام، إلا بحكم الضرورة التي يجب أن تقدر بقدرها، وبشروط وضمانات لم يتحقق منها إلى الآن إلا بمقدار ما تحقق من قرارات مجلس الأمن بحق قضايا المستضعفين في الأرض، وإنَّ الإسلام بريء من كل هذه الصور المشوهة البائسة براءة عائشة مما رماها به المنافقون والذين في قلوبهم مرض، ومن بين عشرات النصوص التي تؤسس للحكم الرشيد يكفينا نص واحد لا أرى الحيدة عنه إلا مفاصلة ومباينة لمنهج الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء 58).

إنَّ البشير والطغمة الحاكمة لم يؤدوا الأمانات إلى أهلها ولم يحكموا بين الناس بالعدل، فلقد ضيعوا الأمانة بمشروع التمكين الذي بموجبه احتل (الإسلاميون!) مواقع النميريين في الدولة العميقة، وورثوا فسادهم الماليّ، ولم يعتبروا بما كانوا يرتلونه في حال الاستضعاف: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) (إبراهيم 45)، وضيعوا الأمانة بالتفريط في أرض الإسلام والرضوخ لتقسيم السودان ولانفصال الجنوب، بلا مسوغ إلا أمانيّ كاذبة واغترار بوعود في فضاء الأحلام ذاهبة، وضيعوا الأمانة عندما صار ما تبقى من خيرات البلاد وأقوات العباد دولة بين السماسرة والأوغاد.

لقد كانت تجربة السودان من أبأس وأنكد التجارب التي نسبت نفسها للإسلام، كانت بائسة ونكدة على المستويين النظريّ والعمليّ، فعلى المستوى النظريّ تشوهت الفكرة الإسلامية على يد (حسن الترابي) الذي غرس العلمنة في صميم الدين نفسه، وعلى المستوى العمليّ تشوهت التجربة على يد البشير الذي أفقر الشعب وجوعه ومزق البلاد وشتتها؛ حتى لم تعد السودان التي يفترض أن تكون سلة الخيرات للأمة كلها سوى مجاعة في قعر مَضْيَعَةٍ يأكل فيها القوي الضعيف بلا رحمة ولا شفقة.

ومع ذلك ظلّ الخلق ينتظرون منهم خيراً، ويرجون فيهم عَوْداً إلى الحق، حتى جاءت قاصمة الظهر بزيارة البشير لبشار، ومباركته له في لقاء حار، فانتفضت الشعوب، وانتفض في قلوب الناس الغضب، وتحركت الأوجاع التي كانت هاجعة، فإذا بالبشير الذي كان – بنظر الجميع – جالساً على شاطئ طوفان الربيع العربيّ حاسراً سراويله (يَمُصُّ القصب) إذا به يغرق فجأة في لججه ويغوص في أعماقة؛ فهل سيكون مصيره كمصير بشار: يقتل شعبه؛ فيُلعن على أسلنة الغادين والرائحين؟ أم كمصير غيره ممن غادروا الحكم إلى ظلمات القبور أو مزابل التاريخ؟

الذي يلوح لي أنَّ الوضع غاية في التعقيد؛ فالبشير يخشى من المحاكمة في الجنائية الدولية، ويخشى كذلك من محاكمة شعبة، فلا ملجأ له ولا معتصم إلا اللصوق بالكرسيّ، والاحتماء بالعصبة المنتفعة في الداخل وبالقوى المتربصة في الخارج، ويستطيع أن يحظى بالحماية والدعم من روسيا والإمارات والسعودية، والثمن سيكون باهظ التكاليف؛ فإذا لم يتراجع المدّ الثوري ليحاكم قادته وأصحاب الصوت العالي فيه محاكمة كلها عسف وجور، فلا مفرّ من تجرع المرّ أو الأَمَرّ، فأما المرّ فهو القمع الغشوم على طريقة السيسي في رابعة والنهضة وما سبقهما وما تلاهما، والأَمَرُّ هو الدخول في نفق الحرب الأهلية.

في حالة واحدة يمكن أن يلج الجمل في سم الخياط وتنجو السودان من المصير الأسود، وهي أن يقبل البشير بالنزول عن عناده، ويترك الحكم لحكومة تقنوقراط انتقالية، في مقابل ضمانة من مجموعة دول عربية وإسلامية لينجو من المحاكمة بصورة ما تتسع لها تفاهمات دولية وإقليمية، وهذه لكي تحدث لا بد من دور للعلماء والدعاة في السودان؛ يبدأ بالانحياز التام لمطالب الشعب، وينتهي بعد سلسلة من التفاوضات بالتعاون مع بعض الدول لإتمام مشروع المصالحة، فهل يمكن أن يفعل العلماء شيئاً هذه المرة؟! هذا ما نتمناه، ونسأل الله لأهل السودان الفلاح والنجاة.

(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى