رؤية نقدية: نحو دور حضاري متقدم للأمة الإسلامية
بقلم جواد الحمد
شكّلت حالة التقسيم الشامل للأمة الإسلامية بعد انهيار الدولة العثمانية أساساً استراتيجياً لإضعاف الأمة العربية والإسلامية على حد سواء، ولا تزال هذه التقسيمات تمثل البديل الواقعي والعملي، بل والمحبب لدى معظم شعوب وقيادات في العالم الإسلامي بدلاً من الوحدة الإسلامية أو العربية.
وأسست هذه القناعة لإضعاف الأمة على مستوياتها المختلفة، القطرية منها والعربية والإسلامية، وفي أقاليمها المختلفة، وبذلك أصبحت نظرية الاستحواذ على الثروة والسيادة الوطنية والشعوبية والانتماءات الفرعية في فلسفة النخبة الحاكمة والنخبة المجتمعية مرجعية التفكير في الواقع والمستقبل.
وبرغم كثرة الترديد للوحدة العربية منها والإسلامية، إلا أنها لم تطرح خطة عمل أو برامج تقود إلى هذه الوحدة، وكان كل قطر وكل حاكم وكل نخبة ينظرون إلى هذه النظريات بوصفها استهدافاً لمصالحهم واستحواذاتهم الخاصة على الثروات، وبرغم التقاسم الكبير للثروة، بل وأحياناً الاستحواذ مع المستعمر الجديد على الثروة كما هو حال النفط منذ عام 1940 وحتى اليوم، غير أن هذا التقاسم أو التكامل في الاستفادة من الثروة العربية والإسلامية ليس مقبولاً عند ذات الطبقات مع أي دولة إسلامية أو عربية أخرى، بل إن التنافس على العلاقة وعلى سوق المستعمر يمكن القول بأنه النظرية الاستراتيجية التي تتمسك بها هذه النخب.
وبرغم تنامي الإشكالات والتحديات، بل والمخاطر التي تهدد الأمة على الصعيد الوجودي أحياناً والهوية والدين، بل والسيادة أحياناً أخرى، غير أن أقصى ما تم المحافظة عليه حتى الآن هو جامعة الدول العربية كمؤسسة تنسيقية فقط، وبناء منظمة التعاون الإسلامي التي أسست عام 1968 لتحرير القدس حسب ميثاقها، والتي لم تتمكن إلى جانب الجامعة العربية من تحقيق التكامل والوحدة بين الأمة العربية أو في إطار أوسع وهو الأمة الإسلامية.
ربما أصبح هذا الحديث والتفكير لدى البعض من الماضي في عهد الدولة القطرية القومية، لكن الغريب أن هذا النقد لا يوجه إلا إلى الحالة العربية والإسلامية التي مزّقتها خلافات النخب الحاكمة وتدخّل الاستعمار للوقيعة بينها.
بينما تتجه دول أوروبا منذ التسعينيات إلى الوحدة، وقد حقّقتها، وتثني النخب العربية والإسلامية على هذا الإنجاز الأوروبي، وكذلك الحال في ما يتعلق ببناء الاتحاد الأفريقي كإنجاز للدول الأفريقية، والحال مثله فيما يتعلق بالآسيان (ASIAN) لدول شرق آسيا، ودول أمريكا اللاتينية، ولكن النقد والتجريح ينصبّ على توجهات أو أطروحات الوحدة الإسلامية والعربية فقط!
برغم العدوانية الثابتة والمستمرة لدى إسرائيل ضد الأمة بكل دولها وأفكارها وتوجهاتها غير أن النخب الحاكمة لا تزال تبتعد عن توحيد التوجه لمواجهة هذا الخطر وتحرير فلسطين وإعادة أهلها إليها، بل إن بعضها أصبح ينظر لإسرائيل حليفاً محتملاً لمواجهة دول عربية أو إسلامية أخرى!
لقد حرَمَنَا الانقسام القطري والإثني والجهوي والفرعي من استثمار ثرواتنا وتحقيق التقدم والتنمية العالمية الواسعة، وبرغم نجاح بعض دول العالم الإسلامي مثل تركيا وماليزيا في تحقيق الثروة واستثمار الثروات الطبيعية والتنمية البشرية ومنافسة دول العالم الصناعية، غير أن غالب دول العالم الإسلامي، والعربي على وجه الخصوص، لا تزال مشغولة بالخلافات والصراعات المسلحة بينها وفي داخلها، ولم تتمكن من التوصل إلى نظرية الاستقرار السياسي والاقتصادي والتنمية، وعلى الأقل بتحقيق التكامل بين دولها العربية بمختلف توجهاتها، بل إن الاجتماعات وبرغم أن بعضها انصبّ على التنمية لكنها على المستوى المتدني من التنسيق والتكامل، وما دامت تتآمر على بعضها وتزجّ بأموالها وقواتها، وبل وتستخدم حلفاءها ضد أقطار أخرى، فأنّى لفكرة الوحدة، بل وحتى فكرة التعايش والتكامل، أن تنتعش!
لقد بدأت تجربة مجلس التعاون الخليجي (ست دول) عام 1981 كمحاولة طموحة، واليوم تتعرض لمخاطر التفكيك والخطر الوجودي بسبب الخلافات بين النخب الحاكمة والتنافس على الدور الإقليمي وبعض السياسات الخارجية.
بل إنها تتصارع بالوكالة في عدد من المناطق كليبيا وسوريا مثلاً. أما تجربة اتحاد المغرب العربي (خمس دول) الذي تاسس عام 1989 فلم تحظ بفرصة كافية ليصبح تجربة متميزة وان تشكل كاطر عمل بسبب عدد من الخلافات خصوصا بعد الحرب الاهلية في الجزائر عام 1992، وبعد سقوط النظام في ليبيا عام 2012 ، ولا تزال التجربة تنتظر التفعيل والدفع بها للنجاح.
أما تجربة مجلس التعاون العربي الذي تأسس عام 1989 أيضا، فقد زال رسميا عام 1992، وإن بدأت تجربته تنتهي بعد احتلال العراق للكويت عام 1990 وما تلاها من انقسامات بين دول المجلس، ولم يبق منه سوى الإعفاء من التأشيرات بين الدول المؤسسة الأربع.
وعلى الصعيد الإسلامي بقيت الهوة قائمة، وبرغم تنامي أدوار وإمكانات دول عدة منها، مثل تركيا وماليزيا وباكستان وإندونيسيا والسعودية ومصر وقطر والإمارات والكويت وإيران، غير أنها بعضها يطرح فكرة الأمة الإسلامية والوحدة الإسلامية ولكن على استحياء، ويعمل بعضها في سياسات الاحتراب الداخلي والتدمير لدول إسلامية مهمة كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، ويبدو أن العقبة الفكرية لدى النخب الحاكمة والنخب المثقفة تشكل أساس هذه الإشكالية والترددات في التعامل معها بعيداً عن الخلافات القائمة، والتي سوف تنتهي بالتأكيد مع تقدم مشاريع التكامل والوحدة.
إن النظام الدولي الذي قسّم الأمة أوائل القرن العشرين يعمل اليوم على تثبيت هذا التقسيم للاستفراد بكل دولة أو مجموعة دول صغيرة، ولنهب الثروات وتحقيق الأهداف والمصالح الخاصة به سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً، وكذلك لتعميق الخلافات بينها، ومنها مثلاً التباين المستمر في التعامل مع الخطر الصهيوني وإسرائيل بين الدول العربية والإسلامية.
وبرغم العدوانية الثابتة والمستمرة لدى إسرائيل ضد الأمة بكل دولها وأفكارها وتوجهاتها غير أن النخب الحاكمة لا تزال تبتعد عن توحيد التوجه لمواجهة هذا الخطر وتحرير فلسطين وإعادة أهلها إليها، بل إن بعضها أصبح ينظر لإسرائيل حليفاً محتملاً لمواجهة دول عربية أو إسلامية أخرى!
إن الأجيال التي ترعرعت على فكر القطرية والإثنية والقومية تجد صعوبة في تحقيق مقاربة عملية واقعية تقبلها ثقافتها لإعادة إحياء الوحدة الإسلامية أو حتى العربية، بل حتى في نظرية التكامل الاقتصادي التي يلتقي عليها الناس في العالم لمصالح مادية بحتة لا يدعمها أي دين أو فكر أو حضارة سوى تحقيق التنمية والمصالح، وأصبح ذكر الماضي التليد بعظمة حضارتنا الإسلامية في كل عهودها مجرد عيش في الماضي لدى بعض النخب المثقفة والمتأثرة بالحالة الشعوبية والفكر الليبرالي الغربي حتى لو كانت يسارية أحياناً.
إنّ هذه الأزمة تعبّر عن أزمة هوية فعلاً، وأزمة حضارية في النخب الحاكمة والمثقفة، كما تعبّر عن تداخل المصالح الشخصية الآنية مع المصالح العليا في عملية معقدة غير فاعلة، بل ومعيقة، ولا يمكن بهذه المناسبة إلا الإشادة بالتقدم الحضاري العام لعدد من دول العالم الإسلامي والعربي عمّا كان عليه الحال قبل سبعين عاماً، لكننا نتحدث عن قوة عالمية عربية إسلامية يمثلها مجموع الأمة ويؤهلها للمشاركة في رسم مستقبل العالم ويحمي أراضيها جميعاً ويحمي دينها وهويتها من اللعب عليها وفيها من قبل الآخرين، والذي له متطلبات وتضحيات فردية وجماعية لازمة، كعادة هذه الأفكار والتجمعات الكبيرة، وهي التي تحقق هيبة الأمة وشعوبها وأقطارها.
ولطرق الوحدة بالطبع أشكال مختلفة، فاليوم تستحق محاولة بناء التكامل والتعاون على قاعدة الأخوة الإسلامية وهوية الأمة، ومنها الانطلاق بتحقيق أشكال مختلفة من الوحدة والتكامل والتضامن والتنسيق، حتى لو لم تتحقق أشكال الوحدة السابقة في المدى المنظور.
ويشار في هذا الصدد إلى محاولة ماليزيا ممثلة برئيس وزرائها الدكتور محمد مهاتير إشعال الشعلة في كوالالمبور في الأسبوع الثاني من كانون أول/ ديسمبر 2019، حينما وجّه الدعوة بعد مباحثات مباشرة مع رؤساء وقادة دول إسلامية تحظى باستقرار نسبي وتقدم اقتصادي وتقني مميز وذات ثقل سياسي واستراتيجي مهم، ولدى قادتها الاستعداد للتفكير بالتعاون والتكامل بين دولها حسب مباحثاتهم الاولية مع دكتور مهاتير، وتقع في مراتب متقدمة بين دول العالم النامي، ووبحضورخبراء ووزراء من أكثر من 20 دولة إسلامية اخرى، حيث نجحت القمة والمؤتمر الموازي لها حول التنمية والتقدم في العالم الاسلامي.
وتؤكد متابعات المؤتمر أن إحياء فكرة الحضارة الإسلامية والوحدة الإسلامية والأخوة الإسلامية والسعي لتحقيق تكاملات في الصناعة والزراعة والدفاع والتكنولوجيا واستثمار الطاقات البشرية الشابة إنما هي أفكار واقعية وعملية جرى مناقشتها في المؤتمر، وقد تم توقيع 10 اتفاقيات بين كل من ماليزيا وتركيا مثلاً في هذه المجالات في المؤتمر كخطوة مباشرة للبدء في مشروع التعاون والوحدة الإسلامية اضافة الى تفعيل المشروع الذي سبق الاتفاق عليه بينها وشكلت لها اللجان الفنية اللازمة والخاص باطلاق فضائية اسلامية موحدة لمواجهة الاسلاموفوبيا العالمية.
كما تم تبنّي فكرة السعي لتصنيع التكنولوجيا بدل الاستمرار باستيرادها من الآخرين، خاصة وأنها أصبحت تتدخل في الأمن القومي لكل دولة وأصبحت تؤثر بشكل مباشر على الأمن والاستقرار والهوية والدين، بل أصبحت تشكل تحديات مستمرة لمجتمعاتنا، وبالتالي فإن السيطرة على التصنيع التكنولوجي يعد استراتيجية إسلامية للعقد القادم حسب رئيس المؤتمر مهاتير محمد، وتأتي فكرة عقد هذا المؤتمر متوافقة مع ما يطرحه العديد من المفكرين العرب والمسلمين في العالم، وهي ليست كل الحل ولا تملك كل الحل، لكنها مثال على الإمكانية المتاحة اليوم ولو بمجموعات صغيرة من الدول الإسلامية، ثم يمكن أن تتوسع بعد نجاحها لتشمل كل دول العالم الإسلامي.
ولذلك، فإن فكرة الأخوة والوحدة والهوية الدينية والثقافية والتكامل في الثروات الطبيعية والقدرة على استجماع القوة لاستعادة المكانة الجماعية للأمة على مستوى العالم، والدفاع عن قضاياها المختلفة أصبحت ضرورة لتحقيق التقدم ووقف الهدر الداخلي ووقف الاعتماد على المستعمر بكل أشكاله، وهذا لا يعني الانغلاق على الذات، بل التعامل مع كل العالم كقوة واحدة وأمة واحدة وبهوية واحدة، وبالتالي باستخدام مجموع الثروة والطاقة الطبيعة والبشرية لتحقيق ريادة الأمة ومصالحها العليا، والتي تنعكس حكماً على كل أقطارها وشعوبها دون تمييز.
المسألة إذن فيمن يعلق الجرس من النخب الحاكمة والمثقفة والقادة، وعلى الجميع دعمه والوقوف إلى جانبه وتجاوز كل المخاوف من بعضنا أو من تهديدات الاستعمار، وصهر الهويات الفرعية الجهوية والقومية والمصالح القطرية والحزبية والفئوية في هذا المسار لنشكل حالة تحول حضاري تاريخي أصبح اليوم متطلباً للنهضة والنهوض.
وبالتأكيد، فإن هناك وجهات نظر واعتبارات وتحديات كبيرة وواسعة تحتاج إلى مناقشة ومعالجة أوسع مع طيف واسع من النخبة الإسلامية والعربية بكل أطيافها، وربما في مقامات أخرى ومؤتمرات وندوات وورش عمل يجري عقدها خلال الأعوام القادمة.
(المصدر: موقع بصائر)