بقلم محمد الأمين مقراوي الوغليسي
النقد وفق ضوابطه وأطره وأدبياته، ومن أهله؛ ضرورة حضارية، وفريضة شرعية، لا تُضَيِّق من مساحتها الظروف والأحوال الصعبة، ولا تلغيها مكانة شخصية عامة أو خاصة، فهو مطلوب في أوقات الحرب كما في أوقات السلم، ويخطئ من يعتقد أن النقد يجب أن يختفي عند الأزمات باعتباره مشغلة ومضيعة للوقت، وهذه نظرة سطحية تخالف حقائق ثابتة في نصوص الوحي، من وجوب ممارسة الإصلاح والتغيير والنقد الذاتي، والتمسك بالمراجعة الذاتية لا يمكن أن نقفز عليه بحجة أننا نكشف عوارنا أمام خصوم شرسين يتربصون بنا الدوائر، بل إن شفافيتنا وصراحتنا مجلبة لرضا الله، وخطوة لنيل القبول بين المخاطبين، فالتعامل أولاً وأخيراً مع الله تعالى، ولا يمكن أن نلغي فريضة شرعية وحضارية بحجة عدم إعطاء الآخر فرصة للتشفي، مع أن هذا الآخر سيوجه سهامه في كل الأحوال، كما أن تغييب النقد والمراجعة سيعلم الأمة الخنوع والرؤية الأحادية، وفي كلا الأمرين شر، فالجيل الذي يربى على أن يغمض عينيه عن أخطاء رفقته وقادته في المسيرة لا يرتجى منه خير غداً.
واقع الوعي الإسلامي بعد الربيع العربي:
من إيجابيات الربيع العربي أنه كان فاضحاً لشخصيات، وهيئات، ودول، ومنظمات، لطالما قدمت نفسها على أنها طليعة الأمة العربية والإسلامية في مسيرتها نحو التغيير والرجوع إلى ريادة العالم، بعد أن أحسنت دغدغة مشاعر الأمة بشعارات المقاومة والممانعة والقومية وغيرها، حيث أسقطت الموجة الأولى للربيع العربي أقنعة الكثير من العملاء والمنافقين، ما جعل الأمة الإسلامية تختصر مسافات زمنية هائلة في مسيرة الإصلاح والمواجهة من جهة، ومن جهة ثانية نجت الأمة من الدوران في الحلقة نفسها، بعد أن ثبت اليوم أن العمل الصحوي ثم النهضوي في بعض أولوياته، كان ضحية مسارات رسمتها الأنظمة ومعها أيادي النظام العالمي الحاكم، ولولا هذا اللطف الرباني، لطوت مسيرة العودة والإصلاح عقوداً طويلة دون أن تصل إلى أهدافها، ولرحلت أجيال وأجيال قبل أن تكتشف حقيقة المشار إليهم.
غير أن الربيع العربي وما تلاه من ثورات مضادة، ثم ظهور فكرة تقسيم العالم الإسلامي من جديد، بعد أن ألهمت الثورات المضادة الغرب المتيقظ والمتربص، وشجعته على المضي قدماً في إحياء خطة الشرق الأوسط الكبير، كشف قصور الوعي الإسلامي عن الإحاطة بآليات المجابهة، برغم مكانته المهمة؛ بسبب احتلاله مقدمة المواجهة، باعتباره العنصر الأقوى والفعال في مواجهة المشاريع الغربية والشرقية خلال العقود الماضية واليوم، خاصة بعد أن جعل تحرير الشعوب الإسلامية من الاستبداد والظلم، والخروج بها من التبعية المهينة أبرز أولوياته، وقد تجلى القصور على الوعي الإسلامي في تسيير المواجهة الخطيرة ضد خطط التفتيت والتقسيم، على عدة مستويات، غير أن أخطرها ظهر جلياً في العمل الإعلامي، الذي بقي يراوح نفسه بين محاولة إثبات وجوده، وبين مقارعة المخططات العدوانية ضد المسلمين بعقلية التهوين، ونفسية التهويل، ولا شك أن العمل الإعلامي داخل الحقل الإسلامي راح ضحية تراكمات كثيرة لم تنل حقها من المعالجة في مرحلة الصحوة عندما دخلت الأمة مسيرة الانتهاض والنهضة بتلك الأخطاء والإشكالات دون أن تعطيها حقها من الاهتمام والمعالجة، وهو ما ندفع ثمنه اليوم، فالتدين الأجوف، والقصور في التنظير على المستوى المتوسط والقريب، والانهماك في قضايا فرعية رفعها أصحابها إلى قضايا مفصلية كبرى، والغرق في اعتبار الوعظ الحادي الأول في مشوار استئناف مسيرة الحضارة الإسلامية الغائبة منذ قرون، وإهمال التمييز بين أفراد العمل الإسلامي عموماً، وعدم احترام التخصصات، والخلط بين الممارسة السياسية والدعوية، وتقديم العمل الخيري على العمل على بناء اقتصاد حقيقي، من خلال الاهتمام باقتصاد المعرفة وتهيئة رجاله لدخول معترك عالم المال والأسواق، والذي يعد عصب الحياة، من سيطر عليه تحكم في صناعة القرارات.
الإعلام الإسلامي في فخ الارتدادات:
من الثغرات التي لم يتنبه لها العمل الإسلامي باكراً، أن التواجد في ضفة المعارضة، وضفة بناء رجال الدعوة، أهمل بناء رجال الدولة، ولعل أبرز من نعنيهم هنا هم رجال السياسة والإعلام، حيث استفاق العمل الإسلامي على قلة مخزونه من السياسيين والإعلاميين، بسبب طول الفترة الكهفية، التي كانت ترى وجوب اعتزال العمل السياسي والإعلامي، والاكتفاء بالمسجد والعمل الخيري، ولعل المسؤول الأول عن الغياب السابق يرجع إلى قراءة وسائل التدافع الحضاري بنفسية الواعظ، بدل عقلية الإداري الفذ والسياسي المحنك، الذي يفترض فيه وعيه بخطورة المعركة، خاصة أن خصمه قد شحذ لها أقوى أسلحته الفتاكة، ونعني بذلك الآلة الإعلامية المحلية والعالمية الضخمة، التي أثبتت أن الإعلام يمكن أن يلعب دور المكابح داخل قطار أي ثورة، إذا لم يجد إعلاماً يساويه في القوة أو يفوقه، ولعل الفشل الذي حصل في إدارة مكتسبات الثورة المصرية خير دليل على ذلك، بعد أن سيّر العمل الإسلامي هذه المكتسبات بعقلية الاستكانة والمسامحة، بدل ذهنية المكايسة والمغالبة.
ومن أبرز مظاهر ضعف الإعلام الإسلامي غيابه عن صناعة الفعل، بل إن المتابع له يجده ضحية لاعتبار نفسه مجرد مطارد للأزمات التي تظهر هنا وهناك، حتى صار من المألوف أن تراه يطارد كل ثغرة يفتحها عدوه، فيحسب أنه يخدم قضايا الأمة، وهو في واقع الأمر يسير بخطى ثابتة في مسارات صنعها العدو بإتقان وإحكام، فالعدو يعرف تماماً أن قوة المسلمين في روحهم المعنوية، وأن هزيمة هذه الروح، كفيلة بأن تجعل المسلمين يتخبطون في رسم صورة المشهد الحقيقي للأحداث، ومن ثم اتخاذ سلوكات وردات فعل لا يعرف عواقبها أحلمهم.
الإعلام الإسلامي وممارسات اللطم:
ومع تعدد الأزمة وصل الإعلام الإسلامي إلى مرحلة صار فيها مجرد بوق للأخبار، بدل التركيز على أسباب القضايا والأزمات التي نعيشها، سار إلى اعتماد نظرية المؤامرة، واتخاذ اللطميات سبيلاً للمواجهة، فصرنا نلوم الغرب وإيران على خططهما ضد الأمة الإسلامية، وننفخ في قوتهما، حتى سرى اليأس في شباب الأمة، وتزلزلت معاقد الأمل التي كنا نزرعها في جيل الصحوة والنهضة.
وبدل تسليط الضوء على أسباب الذل والهوان الذي نعيشه صارت ردات فعل الإعلام الإسلامي توحي للناظر بأن من نسميه عدواً ليس من حقه أن يخطط ضدنا ويحاربنا، وهذا من المبكيات، فالعدو سمي عدواً لعدوانه وطغيانه، وهل ننتظر منه غير المواجهة والصراع؟!
إن القرآن الكريم وبرغم تناوله لخصائص أعداء الإسلام، أثبت أن الهزيمة إن وقعت فإنما مرجعها إلى تفريطنا، وظلمنا، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: ٣٠] {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: ٤٦] وبيّن السبب الرئيس للنصر: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: ٧] ، فإذا كانت الأمة مشتتة ممزقة، تحكمها أنظمة تكيد لبعضها البعض، وتربطها علاقات وثيقة مع الكيان الصهيوني، وتحارب الإسلام السياسي المعتدل، وتنفي عباقرة الشعب، وتفرط في مقدراتها، فكيف نلوم العدو على تسلطه ونحن من أتحنا له الفرص لحربنا؟!
وإذا انشغلت الأمة السنية بتجريح بعضها البعض، وضرب رموزها، والتنكيل بمشايخها ومفكريها المصطفين أصلاً مع شعوبهم، فكيف نرتجى الثبات والنصر؟ وقد أفرغنا الساحة من مختلف الطاقات والمواهب.
إن التركيز على العدو الخارجي، وإلصاق كل مآسينا به، عار لا يليق بالمسلم، المسلم الذي يقرأ في حله وترحاله، ويومه وليله آيات تبين أسباب الهزيمة والنصر لا يليق به أن يرضى بمجرد إنكاره لخطط أعدائه، واتخاذ وضعية المندد، بل إن هذه الوضعية أحد أسباب الهزيمة، التي لا ينكرها عاقل.
الهروب من الحقائق ليس حلاً:
ومما سبق نجد أن غرق الإعلام الإسلامي في اللطميات والبكائيات، هو هروب إلى الأمام، لن يغير واقعاً، فالتذمر والتسخط لم يكونا يوماً من وسائل التغيير والإصلاح والمواجهة في حياة بقية الأمم، فكيف نقبل باعتمادهما وسيلة للمواجهة، وفينا نصوص الوحي التي ترسم مشهد النصر والفوز؟ إن هذه الحيل النفسية، لن تقرب مخرج النفق منا ولو بقينا قروناً على هذه الحالة، وعلى من نتحايل أصلاً؟ هل نتحايل على خالق الأسباب ومن دعانا إلى الأخذ بها وعلمنا سبيل النصر وسبل الهزيمة؟ أم نتحايل على شعوب باتت تعرف عدوها الأول، الذي دون التحرر منه ومن استبداده، ستظل تعاني تحت سيطرته؟ هل نحتال على العدو الذي يعرف أن ضعفنا هو أقوى سلاح بيده؟
إن الهروب من الحقائق بحجة أن المرحلة صعبة ومعقدة، لن يفيدنا أبداً، فسنن الله لا تحابي أحداً، وهنا نذكر ما فعله رئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما جمع أفضل من أنجبتهم بريطانيا من خبراء من أجل دراسة أسباب الهزيمة، واكتشاف أسباب التفوق الألماني عليهم، وقد ظلت هذه النخبة شهوراً تحت الأقبية تدرس مكامن الضعف، وفواعل النصر، أما على المستوى الشعبي فلم يكن تشرشل يضيع وقته في شتم ألمانيا، ولم يبع شعبه الأوهام، بل خاطبه قائلاً: «لا أعدكم بشيء سوى مزيد من الدماء مزيد من الدموع مزيد من التضحيات»، وقد كانت النتيجة انقلاب الهزيمة إلى نصر، بعد أن أخذوا بأسباب النصر، وتجنبوا أسباب الهزيمة، فهل النصارى أولى منا بهذا الفقه؟!
الإعلام الإسلامي والمسؤولية التاريخية:
إن العمل الإعلامي الإسلامي مطالب اليوم بتركيز جهوده على صناعة أسباب النصر، وكشف أسباب الهزيمة، بدل إنفاق الجهود في شتم العدو، فالعدو معروف، وخططه معروفة، لن تخرج عن هدم أحد الكليات الخمس، إن الإعلام الإسلامي مطالب أيضاً برفع الروح المعنوية بحق، وذلك بربط الشعوب المسلمة بموعود الله لها بالنصر، بدل تركها تغرق في الواقع الصعب، مقطوعة عن استمطار المدد الرباني، ومطالب بالتركيز على نشر قيم الحرية التي جاء بها التوحيد، والعدل الذي جاء به الإسلام والتغريد به، وتحصين البناء الداخلي، من خلال التركيز على تربية الرجل المسلم المبدع، الصانع لقيم النصر والقوة والجمال، الذي يحسن المناورة والمواجهة دوماً.
هذا ما يرجى من العمل الإعلامي الإسلامي، فجهود إعلام معسكر الشر تركز على هدم الإنسان المسلم من الداخل، وتفكيك أعمدة الثبات في حياته، أكثر من تركيزها على حملات قادتها وجنودها، فهل من رجل رشيد يقود العمل الإعلامي إلى مسار البناء، ويخرج به من متاهات ردات الأفعال ورجيع الصدى؟