مقالاتمقالات مختارة

ذكوريَّة الفقه الإسلاميّ.. مناقشةٌ هَادئة

ذكوريَّة الفقه الإسلاميّ.. مناقشةٌ هَادئة

بقلم محمد خير موسى

من العبارات التي تتردّد بكثرةٍ على ألسنة شريحةٍ من النّساء والرّجال المُتصدّرينَ للدّفاع عن المرأة المسلمة وحقوقها وحريّتها، وتعلو في وسائل الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، عبارة “الفقه الإسلاميّ ذكوريّ” و”يعاني الفقه الإسلاميّ من التسلّط الذّكوريّ”، وذلك تعبيراً عن انحياز الأحكام في الفقه الإسلاميّ للرّجل على حساب المرأة، وتأكيداً على أنّ الفقه الإسلاميّ ظلم المرأة. وهذه التّهمة التي توجّه إلى الفقه الإسلاميّ تحتاجُ إلى مناقشةٍ هادئةٍ، بعيداً عن نفسيّة التّصارع وغبار المعارك التي تُثَار فلا تفيدُ إلا مزيداً من تترّس كلّ طرفٍ خلف رأيه.

الخلفيّة الفكريّة للاعتقاد بذكوريّة الفقه الإسلاميّ

ينبثق اتّهام الفقه الإسلاميّ بالتّسلّط الذّكوريّ من الخلفيّة الفكريّة القائمة على أنّ العلاقة بين الرّجل والمرأة هي علاقة صراعٍ تكوينيّ تنافسيّ، وأنّ كلاً منهما يسعى إلى فرض سيطرته على الأخر، فيغدو طبيعيّاً في ظلّ الاعتقادِ القائمِ على أنّ العلاقة بين الرّجل والمرأة هي علاقة تصارعيّة؛ أن تشتعل المعارك في شتّى مجالات الفكر الانسانيّ.

ولهذا الاعتقاد جذوره في الفلسفة الغربيّة، إذ يرى الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز أن الإنسان مطبوعٌ على حبّ الذّات والأنانيّة نتيجة فسادٍ تكوينيٍّ طبعيٍّ فيه، ولذلك فأفعاله مدفوعةٌ بمصلحته الشخصية، وبالتالي فالإنسان يميل نحو حياة الأنانية، وليس الاجتماع. ويعدّ هوبز الصّراع هو الأصل في العلاقات الإنسانيّة، معبّراً عن ذلك بمقولته الشّهيرة: “الإنسان ذئبٌ لأخيه الإنسان”، وهو القائل أيضاً: “إنَّ الإنسان يعيش حالةً من الصّراعِ الدّائمِ في الحياة، واعتقَد أنَّ أصل الحياة عبارةٌ عن جولاتٍ من العنفِ والتّحارب والتّصادم، وأنّ الكلَّ يتصارعُ ضدَّ الكل”.

انتقلت فكرة الصّراع مع الزّمن وتكريس الثّقافة الماديّة إلى الصّراع بين الجنسين؛ الرّجل والمرأة، بوصفه صراعاً بين القويّ والضّعيف، فالرّجل القويّ متسلّط على المرأة الضّعيفة، وبالتّالي فالرّجال طبقةٌ معادية

انتقلت فكرة الصّراع مع الزّمن وتكريس الثّقافة الماديّة إلى الصّراع بين الجنسين؛ الرّجل والمرأة، بوصفه صراعاً بين القويّ والضّعيف، فالرّجل القويّ متسلّط على المرأة الضّعيفة، وبالتّالي فالرّجال طبقةٌ معادية.

تسرّبت هذه الفكرة إلى المجتمعات الإسلاميّة بفعل الانفتاح الثّقافيّ المصاحب لشعور المرأة المسلمة بالغبن والظّلم الواقع عليها، وازدياد نشاط الحركات النسويّة التي تسعى إلى تحرير المرأة العربيّة من قيودها وخضوعها، فكان من تجلّيات انتقال هذا الصّراع إلى طبقات عديدة من المجتمعات العربيّة أن تتوجّه الانتقادات والتّهم إلى الفقه الإسلاميّ بأنّه غارقٌ في التسلّط الذّكوريّ، بناءً على أنّ الرّجال هم الذين كتبوه وأنه منتج ذكوريّ أبويّ بطريركيّ يحتاج إلى المواجهة والهدم.

القراءة الانطباعيّة الرّغائبيّة للفقه والفقهاء

من الأمور التي يعلنها متَّهِمُو الفقه الإسلاميّ بأنّه ذكوريّ قولهم: إنّ الفقه الإسلاميّ منتَجٌ بشريّ، وإنّ الفقهاء إنّما كتبوه بناءً على ميولِهم الشخصيّة، ورغباتِهم الذّكوريّة، ثمّ يؤتى بأمثلة عديدةٍ من الفقه الإسلاميّ على ظلم الأحكام الفقهيّة للمرأة.

من الأمور التي يعلنها متَّهِمُو الفقه الإسلاميّ بأنّه ذكوريّ قولهم: إنّ الفقه الإسلاميّ منتَجٌ بشريّ، وإنّ الفقهاء إنّما كتبوه بناءً على ميولِهم الشخصيّة، ورغباتِهم الذّكوريّة، ثمّ يؤتى بأمثلة عديدةٍ من الفقه الإسلاميّ على ظلم الأحكام الفقهيّة للمرأة

وهذه التّهمة يمكن مناقشتها بالنّقاط الآتية:

أولاً: الفقه الإسلاميّ منتجٌ بشريّ، وهذا صحيح، ولكنّه ليسَ من قبيل الإبداعات الذّاتيّة كالأدب والشّعر الفكر الشّخصيّ، بل هو عِلمٌ يستندُ إلى قواعدَ وأصول يجب على الفقيه سلوكها للوصول إلى الحكم الفقهيّ. ويمكننا تقسيمُ الأحكام الفقهيّة إلى ثلاثة أقسام:

أحكامٌ تستندُ إلى نصوص الوحيّ التي تكون قطعيّة الثّبوت وقطعيّة الدّلالة، وهنا لا مجال للفقيه إلى إعمال اجتهاده بل هو ناقلٌ للحكم إلى النّاس.

وأحكامٌ تستندُ إلى نصوص الوحيّ قطعيّة الثّبوت ولكنّها ظنيّةُ الدّلالة، أو ظنيّة الثّبوت – كشريحة من الأحاديث النبويّة – وظنيّة الدّلالة، وهنا يُعمِلُ الفقيه اجتهاده في فهم النّصّ بناءً على قواعد واضحة ومحدّدة تمنعه من إطلاق حكمٍ رغائبيّ، وتضبط اجتهادَه، وهذه القواعد مستمدّة في الأصل من الوحي ومن العلوم اللّغويّة والمنطقيّة.

والقسم الثّالث من الأحكام لم يرد فيه نصّ من الوحي؛ فهذا يجتهد الفقيه فيه للوصول إلى الحكم معتمداً على مصادر تشريعيّة محدّدة تتضمّنُ آليّاتٍ منهجيّة واضحة، ولا يعتمدُ مطلقاً على ميلِه الذّاتي أو رغبته النّفسيّة.

وهذه القواعد والأصول والآليّات هي التي تفرّق بين العلم وبين المُنتَج النفسيّ كالأدب والشّعر، فكلاهما منتَج بشريّ لكنّ المنتج البشريّ الخاضع لقواعد منهجيّة وآليّات منهجيّةٍ واضحة وقواعد استنباطيّةٍ محدّدة يغدو أبعد ما يكون عن الوقوع في الرّغائبيّة النفسيّة.

ثانياً: لا يمكننا نفي وجود بعض الأقوال المنسوبة لبعض الفقهاء التي تأثّرت بواقعٍ معيّنٍ فيما يخصّ المرأة، وكانت اجتهاداً مرجوحاً، وتحتاجُ إلى مراجعةٍ، بل راجعها الفقهاء قديماً وحديثاً وناقشوها ونقضوها وردّوا عليها، ولكنّ تسليط الضّوء عليها واعتبار أنّها هي الفقه الإسلاميّ هو نوعٌ من التحيّز الرّغائبيّ الذي لا يهدفُ للوصول إلى الحقيقة في التّوصيف؛ بقدر ما يهدفُ إلى إنفاذ حنقٍ غير منصفٍ تجاه منظومةٍ كاملةٍ يرادُ هدمُها عبر اجتزاءاتٍ غير منصفة.

الفصلُ بين “المؤسِّس” و”الوارثين”

تستندُ شريحةٌ من القائلين بالتسلط الذّكوريّ للفقه الإسلاميّ على القول: إنّ هناك فرقاً كبيراً بين النّص القرآني وبين اجتهادات الفقهاء، وإنّ هناك فرقاً حقيقيّاً بينَ تعامل المؤسّس، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلّم، مع المرأة، وبين من جاؤوا فكتبوا الفقه من بعده منحازين إلى ذكوريّتهم فظلموا المرأة بهذه المنظومة الفقهيّة الذّكوريّة.

تستندُ شريحةٌ من القائلين بالتسلط الذّكوريّ للفقه الإسلاميّ على القول: إنّ هناك فرقاً كبيراً بين النّص القرآني وبين اجتهادات الفقهاء، وإنّ هناك فرقاً حقيقيّاً بينَ تعامل المؤسّس، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلّم، مع المرأة، وبين من جاؤوا فكتبوا الفقه من بعده منحازين إلى ذكوريّتهم

الكاتبة اللبنانيّة ريتا فرج في كتابها “امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة.. خطاب اللّامساواة في المدوّنة الفقهيّة” تتحدّث عن نموذج امرأة الفقهاء، المقموعة والمقهورة، بسبب الخلاصات الفقهية التي أتى بها المتقدمون، وعمل على تكريسها المتأخِّرون، وتقارنها بامرأة الحداثة التي ظهرت في بدايات القرن الماضي مع اختراق المرأة للمجال العام، وتكرّست مع دخولها ميدان التّعليم والعمل.

في كتابها تفرّق ريتا فرج بين ما تسميه “الإسلام القرآني” و”الإسلام الفقهي”، وتُقدّم النبيّ صلى الله عليه وسلّم بوصفه أهم المدافعين عن المرأة فتصفه بأنّه “النبيّ النّسويّ”، ثمّ تتحدّث عن تيار “النّسويّة النبويّة” الذي كانت تقوده عائشة رضي الله عنها بوصفها أهمّ رموز النّسويّة في العصر النبويّ، والتي كانت تقفُ في وجه الرّجال لأجل حقوق المرأة، وتصف أمّ سلمة رضي الله عنها بأنّها رائدة النّسويّة النّبويّة.

ثمّ تصل الكاتبة إلى نتيجةٍ مفادُها أنّ عمر بن الخطّاب هو من يتحمّل مسؤوليّة الفقه الذّكوريّ، فهو مؤسس الذّكوريّة في الفقه التي ترسّخت في المذاهب الفقهيّة الأربعة فيما بعد.

هذا الذي تقدّمه الكاتبة ريتا فرج هو نموذج لنوعٍ من الخطاب الذي يتّهم الفقه بالتسلط الذّكوريّ، مستنداً على التفريق بين المؤسّس، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلّم الذي أنصف المرأة وحرّرها وكان مع زوجاته أمّهات المؤمنين نموذجاً عمليّاً للنّسويّة، وبين مَن جاؤوا بعدَه من الصّحابة والفقهاء، واعتبارِ أنّ الذّكوريّة هيمنت على الفقه من بعده صلى الله عليه وسلّم في عصر الوارثين، سواء في عهد الخلفاء الرّاشدين أو الفقهاء الأربعة.

وهذه الفكرة تبدو للوهلة الأولى فكرةً ساعيةً للتّوازن والإنصاف، بخلاف الأفكار المتطرّفة التي تتهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم نفسه بالتحيّز الذّكوري، وهي تحاول أن تؤكّد أنّ النصّ القرآنيّ والسلوك النّبويّ هو خلاف ما عليه الفقهاء اليوم، وهي فكرةٌ تغري شريحةً من المسلمات اللّواتي يعانين من الغبن والظّلم المجتمعي فيسارعن إلى تبنّيها وترديدها دون تمحيص.

لكنّ قليلاً من النّظر يؤكّد لنا أنّ هذه الفكرة هي مزيجٌ من الجهل الحقيقيّ بالفقه، وربما التّجاهل المتعمّد مع إسقاط انطباعاتٍ نفسيّة ذاتيّة على تلك الحقبة، وجعلِ ذلك حقيقةً تاريخيّة تُستَنبطُ منها الأحكام الفكريّة التّقييميّة.

قليل من النّظر يؤكّد لنا أنّ هذه الفكرة هي مزيجٌ من الجهل الحقيقيّ بالفقه، وربما التّجاهل المتعمّد مع إسقاط انطباعاتٍ نفسيّة ذاتيّة على تلك الحقبة، وجعلِ ذلك حقيقةً تاريخيّة تُستَنبطُ منها الأحكام الفكريّة التّقييميّة

ولو أنّنا ذكرنا بعضاً يسيراً من الأمثلة لرأينا حجم الجهل الذي تستند إليه صاحبات هذه الفكرة بالمواقف والأحكام الفقهيّة.

ففي مسألة الخروج إلى المساجد؛ كانت عائشة رضي الله عنها ترى منعَ النّساء من الخروج إلى المساجد، بينما كان عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يريان حقّها في الخروج وحرمةِ منعها، وأنّه لا حقّ للرّجل في ذلك.

وفي حقّ المرأة في ولاية النّكاح؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها: إنّ المرأة لا حقّ لها في ولاية النّكاح على نفسِها ولا على غيرِها، في حين ذهب أبو حنيفة إلى أنّ المرأة لها ولاية في تزويج نفسها.

وفي حقّ المبتوتة – أي المطلّقة طلاقاً بائناً – في السّكنى والنّفقة، ذهبت فاطمةُ بنت قيس وهي من المهاجرات الأُوَل إلى أنّه لا نفقةَ لها ولا سكنى، بينما يرى عمر رضي الله عنه أنّ لها الحقّ في السّكنى والنّفقة، وكذلك قال أبو حنيفة كقول عمر.

وفي حقّ المتوفّى عنها زوجها؛ فقد كانت عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما ترَيان أنّه لا حقّ لها في السّكن، بينما ذهبَ الإمام مالك والإمام الشّافعيّ إلى أنّ لها الحقّ في السّكن.

وفي حقّ المطلّقة طلاقاً بائناً أثناء مرض الموت في الإرث؛ فقد كانت عائشة رضي الله عنها ترى أنّه لا حقّ لها في الميراث إذا انقضت عدّتها، بينما يرى الإمام مالك أنّ لها حقّاً في الميراث ولو انقضت عدّتها وتزوّجت من رجلٍ آخر.

هذه نماذج يسيرةٌ من أحكام فقهيّة تقدّم فيها المرأة الفقيهة “رائدة الدّفاع عن المرأة” فتاوى تناقض “مصلحة المرأة” وفق فهم هذا التيّار، ويقدّم فيها “الفقيه الذّكوريّ” أحكاماً فقهيّة تحقّق مصلحتها المفترضة.

وهذه الأمثلة إلى جانب دحضها دعوى أنّ التّسلّط الذّكوريّ في الفقه الإسلاميّ قد تأسّس في عهد الوارثين؛ فإنّها تؤكّد أيضاً أنّ التّعامل مع الفقه بمنطق الذّكوريّة والأنثويّة هو خلل منهجيّ في أصل التّعامل، فهذا المعيار لم يكن يخطر في بال الفقهاء نساءً ورجالاً عندما كانوا يستنبطون الأحكام الفقهيّة التي يرونها تجسّد مراد الشّارع في تحقيق مصلحة الإنسان ذكراً كان أم أنثى.

بين التّموضع القانوني للفقه والطّبيعةُ الإنسانيّة للدّين

من الأسباب التي تدعو متّهمي الفقه بالتسلّط الذّكوريّ عدم فهمهم لحقيقة تموضع الفقه من الدّين الإسلاميّ، والخلط بين الفقه وبين مفهوم الدّين كلّه.

من الأسباب التي تدعو متّهمي الفقه بالتسلّط الذّكوريّ عدم فهمهم لحقيقة تموضع الفقه من الدّين الإسلاميّ، والخلط بين الفقه وبين مفهوم الدّين كلّه

فالدّين الإسلاميّ يشتمل على جوانب الإيمان والاعتقاد، وعلى جوانب التّشريع والفقه، وعلى جوانب الأخلاق والسّلوك.

وفي أصل الدّين بوصفه مرجعيّة كليّةً للإنسان؛ تعاملَ الإسلام مع الرّجل والمرأة بمنطق المساواة التّامّة، فالرّجل والمرأة متساويان تماماً في أصل الخلق، ومتساويان تماماً في الكرامة الإنسانيّة، ومتساويان تماماً في أصل التّكليف، ومتساويات تماماً في سبب التّكليف، ومتساويان تماماً في سبب إثبات الحقوق، ومتساويان تماماً في الخطاب القرآنيّ والإسلاميّ.

أمّا الفقه فهو جزءٌ من الدّين، وهو يمثّل الجانب التشريعيّ أي الجانب القانونيّ للإسلام، والأصل في أيّ قانون أن يراعي حال المكلّفين بالقانون مراعياً الفروقات بينهم. ولكن السّؤال هنا: هل كانت الفروقات التي راعاها القانون الإسلاميّ المتمثّل في المنظومة الفقهيّة قائمةٌ على الذّكورة والأنوثة؟

وللإجابة عن هذا لا بدّ من معرفة مصدر الواجبات والحقوق في القانون، وهو ما تحدّده عادة القوانين المختلفة.

إنّ مصدرَ الواجبات التي أناطها الفقه الإسلاميّ بالمرأة والرّجل هو شيءٌ واحد وهو “العبوديّة” لله تعالى، وهذا تتساوى فيه المرأة مع الرّجل تساوياً تامّاً.

وأمّا مصدر الحقوق التي يفرضها الله تعالى في القانون المتمثّل في المنظومة الفقهيّة فهو “الإنسانيّة”، وهو ما تتساوى فيه المرأة مع الرّجل تساوياً تماماً أيضاً.

وإنّ استقراء نصوص المنظومة الفقهيّة يؤكّد لنا هذه الحقيقة في مصدر واجبات المرأة ومصدر حقوقها الذي تتساوى به تماماً مع الرّجل.

ولكن سيقال هنا: ما بال الرّجال يخاطبون ببعضِ الواجبات التي لا تخاطب بها النّساء؟ وما بال النساء تخاطَبُ ببعض الواجبات التي لا يُخاطَبُ بها الرّجال؟

إنّ هذا التّفريق بالتكليفات القانونيّة وما يترتب عليها من بعض الجزاءات ليس نابعاً من وصف الذّكورة والأنوثة، وليس مستنداً إلى التفريق في الأصل بين الذّكورة والأنوثة، بل هو نابع من عوامل أخرى تتعلّق بتحقيق المصلحة التي يراد تحقيقها من تطبيق القانون، ويسعى القانون العادل عادةً إلى إحقاقِها وتحصيلها.

هذا التّفريق بالتكليفات القانونيّة وما يترتب عليها من بعض الجزاءات ليس نابعاً من وصف الذّكورة والأنوثة، وليس مستنداً إلى التفريق في الأصل بين الذّكورة والأنوثة، بل هو نابع من عوامل أخرى تتعلّق بتحقيق المصلحة التي يراد تحقيقها من تطبيق القانون، ويسعى القانون العادل عادةً إلى إحقاقِها وتحصيلها

ولهذا فإننا نرى في الأحكام الفقهيّة التي تمثّل الجانب القانونيّ في الإسلام تفريقاً في مواضع بين الرّجال أنفسهم في عددٍ من الأحكام الفقهيّة، كما نرى تفريقاً في مسائل أخرى بين النّساء أنفسهنّ في أحكام فقهيّة عديدة، ممّا يؤكّدُ أن معيار التّفريق القانونيّ ليسَ هو الذّكورة والأنوثة.

وفي المقابل، فإنّه يجدر بنا التّأكيد أنّ إساءة استعمال أيّ قانونٍ عادلٍ يجب ألا يدفع النّاس إلى صبّ جام غضبهم على القانون وإلصاق تهمة التّعسّف بالقانون نفسه، بل لا بد من رفض إساءة هذه الاستعمال. ولهذا فإن كان هناك من يتعامل مع الأحكام الفقهيّة بطريقة تهدف إلى تفريغ عُقَدِه الذّكوريّة، وتكريس ظلم المرأة تحت ستارٍ من الأحكام الفقهيّة؛ فإنّ المنطق المنصف هو رفض هذا السّلوك لا رفض المنظومة الفقهيّة والمطالبة بنسفها وهدمها.

كما أننا يجب أن نفرّق بين الدّعوة إلى مراجعة بعض مواد القانون القائمة على الاجتهاد المحض المستند إلى زمنٍ مضى أو عرف سابق – وهذا حقّ – وبين الهجوم على المنظومة الفقهيّة كلّها بغرض هدمها أو تشويهها في نفوس من يرونها مرجعيتهم التشريعيّة في الحياة.

الازدواجيّة في إطلاق الحكم بين الفقه والعلوم الاجتماعيّة الأخرى

يشنّ المُتّهِمون للفقه الإسلامي بالتسلط الذّكوريّ هجومهم مستندين على أنّ رموز المنظومة الفقهيّة غالبيّتهم من الرّجال متسائلين: أين الفقيهات؟!

وهذا سؤالٌ يستحقّ التّوقّف عنده لتفسير قلّة عدد الفقيهات مقارنةً بعدد الفقهاء الذّكور عبر المراحل الزمنيّة المختلفة، ولكن ما هو أهمّ من الإجابة باعتقادي هو السؤال: وهل نسبة النّساء المتخصّصات في الفقه ورائدات المدارس الفقهيّة أقلّ من نسبة النّساء اللّواتي حصّلنَ الرّيادة في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة الأخرى؟

هل نسبة الفقيهات أقلّ من نسبة رائداتِ الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم المنطق وغيرها من العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؟

إنّ يسيراً من النّظر في رموز تلكم العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة يجعلنا نتأكّد أن نسبة الرّائدات المؤثّراتِ فيها أقلّ من نسبة الرّائدات الفقيهات عبر مراحل التّاريخ الإسلامي والإنسانيّ.

فعلام إذن لا نسمع وصفاً لتلك العلوم بأنّها علومٌ ذكوريّة يجب هدمها وإعادة بنائها على قواعد أنثويّة جديدة؟!

ولماذا لا نسمع اتهاماتٍ لتلك العلوم بأنّها خاضعة للأبويّة البطريركية، كما نسمع ذلك عن الفقه الإسلاميّ دوماً؟

المنظومة الفقهيّة هي نتاجٌ بشريّ يستندُ إلى قواعد علميّة في التّعامل مع نصوص الوحي، وآليّات منهجيّة في الاستنباط بعيدة عن الرّغائبيّة الذّاتيّة، وهي تمثّل بمجموعها وجهاً مشرقاً من وجوه التّكريم الإسلاميّ للإنسان ذكراً كان أو أنثى من خلال سنّ منظومة قانونيّة تعمل على تحقيق مصالحه الكليّة والجزئيّة

إنّ هذا يؤكّد وجود حالةٍ من الازدواجيّة التي تتناقض مع الشّعارات المرفوعة بإنصاف المرأة وتحريرها، فهل إنصاف المرأة يكون بتخليصها من الفقه “الذّكوريّ” وإخضاعها للعلوم الاجتماعيّة الأخرى “الذّكوريّة” أيضاً؟!

في الختام: أؤكّد أنّ المنظومة الفقهيّة هي نتاجٌ بشريّ يستندُ إلى قواعد علميّة في التّعامل مع نصوص الوحي، وآليّات منهجيّة في الاستنباط بعيدة عن الرّغائبيّة الذّاتيّة، وهي تمثّل بمجموعها وجهاً مشرقاً من وجوه التّكريم الإسلاميّ للإنسان ذكراً كان أو أنثى من خلال سنّ منظومة قانونيّة تعمل على تحقيق مصالحه الكليّة والجزئيّة.

وهذه المنظومة الفقهيّة تحتاج إلى تعاملٍ تجديديّ مستمرّ من أهل التّخصص رجالاً ونساءً بما يواكب نوازل العصر وتطوّر الزّمن والمجتمع ومتطلباته المتجددة، والجمودُ في التّعامل معها مذمومٌ لا تتحمّله المنظومة الفقهيّة بل شريحةٌ ممّن فقدوا القدرة على التّجديد الرّاشد العلميّ المنهجيّ، ولكن العمل على شيطنة هذه المنظومة الفقهيّة وتشويهها في نفوس من يرونها مرجعيتهم، ومحاولات هدمها؛ لا يستندُ إلى دعاوى منصفة ولا منهج متزن ولا حقائق علميّة، بل يحمل الكثيرَ من التحيّز الرّغائبيّ والاجتزائيّ غير المنصف، ولن يكون فيه أي خيرٍ للمرأة مطلقاً، ولن تنال بمحاولاتِ الفقه وتشويهه الحريّة التي تنشدها؛ فهي تطلبُها إذن في غير مظانّها وفي غير ميادينها.

المصدر: عربي21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى