دور مراكز الفكر في صُنع السياسة العامة في فلسطين
بقلم د. معاذ عليوي
إن دور مراكز الأبحاث في المجتمعات المتقدمة لم يعد دوراً هامشياً بل أصبح دوراً أساسياً خاصةً بالنسبة لصانع القرار أو كبار المسؤولين، حيث لا يوجد لديهم وقت كافي أو معرفة متخصصة في بعض المجالات أو القضايا موضع القرار أو رسم السياسات العامة سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية أو غيرها. في هذا الإطار لا يختلف الحال بالنسبة لفلسطين عن باقي المجتمعات الأخرى من ناحية الدور الذي يمكن أن تؤديه مراكز الفكر في صنع السياسات العامة، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الفلسطينية سواء فيما يتعلق بعدم استقلاليتها سيادياً، أو من الناحية السياسية وما تمر به من انقسام فلسطيني يجعل من تلك المراكز تؤدي أدوراً سياسية متناقضة للواقع، أو طرح وجهات نظر سياسية تابعة من رؤى أو أفكار حزبية.
سأتحدث في هذا الإطار عن دور مراكز الفكر الفلسطينية في صُنع السياسة العامة داخل المجتمع الفلسطيني من عدة مسارات:
المسار الأول: ( التدخل في السياسات العامة).
المسار الثاني:( أجندة ترتيب الأولويات).
المسار الثالث: ( الوعي السياسي).
نظراً لانعدام الوقت الكافي لدى صنّاع القرار أو كبار المسؤولين، أو قلة المعرفة المتخصصة في بعض المجالات، أو القضايا موضع القرار، أو رسم السياسات العامة سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية أو غيرها، فإن مراكز الأبحاث تتدخل وتقوم بإجراء الإعمال البحثية بدلاً منهم. في هذا الإطار يشير هوارد إلى ان مراكز الأبحاث تلعب دوراً مهماً في تقديم الأفكار الجديدة والرؤى الإبداعية بالاعتماد على أبحاثهم في ترشيد السياسات العامة، أو تميل إلى أن تلعب دور الدمج أو التوفيق عند اختلاف أو تنازع البيروقراطية الحكومية حول إعداد سياسة معينة، وتكون تلك الأطراف غير موحدة أو متوافقة في سياساتها مواقفها ورؤاها، فتقوم عادة مراكز الأبحاث بدور توفيقي بين تباين هذه المواقف وسياساتها أو أراءها.
ومن الأدوار المهمة التي يمكن أن تلعبها مراكز الأبحاث في التدخل في صنع السياسات العامة إلا وهو أن تكون قناة اتصال غير مباشرة أو غير رسمية بين الشخصيات السياسية أو كبار المسؤولين، خاصة الأطراف أو الشخصيات الخارجية أو الدولية، وذلك للتعرف على أطروحاتهم أو آرائهم السياسية وطبيعة اهتمامهم، وذلك بهدف معرفة اتجاهاتهم السائدة في مجال قضايا اقتصادية أو سياسية أو غيرها، أو دعوة مثل تلك الشخصيات للمشاركة في المؤتمرات أو الندوات التي تعقدها هذه المراكز البحثية.
فعلى سبيل المثال دعوة المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات) وفداً من الفصائل الفلسطينية بالتعاون مع مبادرة إدارة الأزمات الفنلندية بهدف مناقشة عدة مقترحات عملية لإزالة العراقيل التي تحول دون إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية. فضلاً عن ذلك فقد تشكل مصدراً هاماً للمعلومات أو المعرفة للمسؤولين أو القيادات العليا الفلسطينية من خلال القدرة على متابعة أحدث الدراسات وترجمة المنشورات والمؤلفات التي تصدر عن المؤسسات والمراكز البحثية في الدول الأخرى.
في هذا الإطار يشكل مركز القدس نموذجاً هاماً لترجمة المنشورات الصادرة عن الدولة الإسرائيلية وتقديمها للرأي العام الفلسطيني، أو للمسؤولين الفلسطينيين في شكل تقارير مترجمة في مواضيع مختلفة قد تكون ذو طابع سياسي، أو اقتصادي، أو أمني وتقديمها للراي العام الفلسطيني، أو المسؤولين الفلسطينيين في شكل مادة إعلامية، إلى جانب ذلك يقدم المركز الفلسطيني للأبحاث ودراسة السياسات العديد من الاصدارات البحثية سواء فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، أو دراسة المشروع الصهيوني، أو دراسة المنظومة العربية أو الدولية.
إلى جانب ذلك تشكل مراكز الأبحاث مصدراً مهماً للمعلومات والمعرفة للمسؤولين وصانعي القرار، فقد تؤدي أحياناً دور النخبة المعولمة التي تسعى دوماً لتقديم الخدمات الاستشارية للقطاع الحكومي ومؤسساته في العديد من القضايا التي تتطلب معرفة متخصصة وسرعة في الانجاز والقرار، حيثُ أن المراكز البحثية عادةً ما تتوفر لها مجموعة أو شبكة من الخبراء أو الباحثين الذين يملكون القدرة على توفير البيانات البحثية اللازمة لصناع القرار أو المسؤولين عند الحاجة.
فعلى سبيل المثال قد يتم تكليف باحثين متخصصين من مراكز فلسطينية لإعداد تقارير مختصرة لصناع القرار والقيادات العليا حول قضايا معينة منها تتعلق بالمفاوضات الفلسطينية، أو عملية السلام، أو طرح مشروع إنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق الوحدة الوطنية. فعلى سبيل المثال المبادرة التي قدمها مركز مسارات لإنهاء الانقسام الفلسطيني من خلال الضغط على شخصيات فلسطينية موثوقة لضمان تنفيذها.
تعتمد الحكومة الفلسطينية أو بعض المسؤولين فيها على بعض المراكز البحثية المقربة من صناع القرار، أو على بعض الخبراء والباحثين العاملين فيها لإجراء المقابلات الاعلامية، وذلك للتعبير عن رسائل فورية، أو إشارات دبلوماسية غير مباشرة، أو للتعبير عن مواقف استباقية معينة إلى بعض الأطراف حول قضايا جدلية أو أزمات سياسية.
في هذا الإطار تستضيف الفضائيات الإعلامية بعض العاملين في مراكز الأبحاث الفلسطينية، منهم على سبيل المثال هاني المصري، عمر شعبان، بهدف تقديم إشارات سياسية أو اقتصادية، أو اجتماعية، للشارع الفلسطيني، أو حتى في غالبية الأحيان التعبير عن مواقف أما أن تكون جديدة وجدلية تهم الشارع الفلسطيني مثل: مسألة المصالحة الفلسطينية، وقضية الضمان الاجتماعي مؤخراً التي أثارت جدلاً إعلامياً وسياسياً على كافة الأطر والمستويات داخل المجتمع الفلسطيني.
أهمية اعتماد الحكومة الفلسطينية على بعض الخبراء أو العاملين في التعبير عن بعض القضايا أو الأزمات السياسية التي تحدث داخل الشارع الفلسطيني، إنما ينمُ عن أهمية تلك المراكز ومصداقيتها أمام الراي العام الفلسطيني، إلى جانب قدرتها على مواكبة كافة التطورات السياسية والاجتماعية وإيصالها للشارع الفلسطيني بكفاءة ومهنية إلى حدٍ ما.
دراسة مثل تلك الموضوعات وتبينها من قبل بعض مراكز الفكر ستؤدي فيما بعد سواء على المدى القريب، أو الطويل إلى إحداث تغيير مهم في الشارع الفلسطيني، خاصة في مجال زيادة الوعي السياسي للمواطنين
يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار في مسألة الوعي السياسي أمرين في غاية الأهمية:
أولهما: طبيعة البرامج والدراسات والمقالات البحثية التي تصدرها تلك المراكز، والتي بجب أـن تكون في الغالب ملامسة للواقع المحلي بكل تفاصيله وحيثياته، وهذا فعلاً ما تطبقه بعض المراكز البحثية في فلسطين سواء مركز بال ثنيك للدارسات الاستراتيجية، مركز مسارات، ومعهد فلسطين للدراسات الاستراتيجية وغيرها التي تحرص دوماً على أن تكون أنشطتها متعددة ومتنوعة وليست محصورة في اتجاه واحد.
ثانيهما: طبيعة الشخوض العاملين في المؤسسات البحثية والذين بقع عليهم عبء ثقيل في تطوير تلك البرامج والدراسات البحثية بحيث تصل لصناع القرار والمسؤولين في الشأن الفلسطيني بطريقة أـكثر مهنية وواقعية. علاوة عما سبق لا ينحصر الوعي السياسي في المثالين السابقين، بل قد يتعدى في تعاطي المجتمع المحلي مع مخرجات تلك البرامج من حيث جودتها وكفاءتها وأهميتها على أرض الواقع، في خلق برامج جديدة أكثر حيوية وإنتاجاً كما هو متعارف عليه سابقاً بأن أغلب المراكز البحثية تركز على دراسات المرأة، والشباب بشكل عام. ليتعدى ذلك فيما بعد إلى دراسة موضوعات جديدة وحيوية مثل بناء القدرات الاستراتيجية للمؤسسات الأهلية في فلسطين، تعزيز التثقيف المتبادل، فلسفة وثقافة اللاعنف، بناء القدرات.
إن دراسة مثل تلك الموضوعات وتبينها من قبل بعض مراكز الفكر ستؤدي فيما بعد سواء على المدى القريب، أو الطويل إلى إحداث تغيير مهم في الشارع الفلسطيني، خاصة في مجال زيادة الوعي السياسي للمواطنين والخروج عن النمط التقليدي المتعارف عليه، أو في كيفية تعاطي صانع القرار الفلسطيني مع تلك المواضيع خاصة في الممارسة الميدانية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)