دور رمضان في التدرب على الصبر الجميل
بقلم أ.د.فؤاد البنا
لقد عَظّم المولى عز وجل قيمة الصبر فقال تعالى: {إني جزيتهم اليوم بما صبروا}، فقد رتّب الجزاء على الصبر ولم يتطرق إلى أركان الإسلام ومكارمه ولا إلى أركان الإيمان وقيمه رغم عظمتها؛ ذلك أن الصبر عبادة جليلة ترتبط مباشرة بالخَلقْ وصناعة الحياة، وتحتاج إلى طاقة هائلة من تَحمّل المَكاره والمشاق، وذلك عبر القبض بكفي الألم على جمرات الابتلاء، والعضّ بنواجذ الاستمساك على الفرائض، والتمسك بثياب الفضائل في مناخ تعصف به رياح الرذائل! وتشير عبارة {جزيتهم} إلى الطاقة الهائلة للصابرين، كأن الجزاء العظيم قد كافأ الصبر العظيم، بينما الثواب عطاءٌ يفوق العمل! فالصبر عطاء عميم حتى لو بدا الأمر غير ذلك، ولهذا كان جزاؤه عظيماً. ثم إن الصبر يختزل سائر العبادات، منض الصبر على التمسك بالقيم وإقامة الفرائض، إلى الصبر عن المعاصي والمطالب المحرمة والتي يُزينها شياطين الإنس والجن وتأمر بها النفس الترابية، وصولا إلى الصبر على العداوات والابتلاءات وعلى مكابدة الغصص والآلام. ولا شك أن رمضان يلعب دوراً كبيراً في تدريب أصحابه على امتلاك كنز الصبر بكل ما فيه من مزايا وعطايا، وبكل ما يتضمن من عبادات تحتاج إلى جهد واجتهاد وجهاد، وأهمها الصوم الذي يمتنع فيه المؤمن عن التمتع بالطيبات التي أحلها الله في الأصل؛ حيث يجوع ويعطش وتلح عليه الكثير من الرغائب التي تتضمنها سليقته الخَلقية وغالبا ما تكون في متناول يديه ولا يحول بينه وبينها إلا رقابته الإيمانية وإحساسه بمعية الله له ورقابته عليه؛ فيصبح قويا في تحمل المكاره، مقداماً في مغالبة التحديات . إن تأمل مجريات رمضان تثبت بجلاء أنه يقوم بتدريب الصائمين على الصبر الذي يجعل صاحبه قويا لا يتزعزع أمام النوائب والمصائب، وجسورا لا يتضعضع أمام الخطوب والتحديات، ويمنحهم نفاذ العزيمة التي لا تعرف التردد أو الانكسار، وقوة الإرادة التي لا يتسلل إليها الكلل أو الملل. ويتولى رمضان تقوية الوازع الإيماني حتى يصبح دولة تسكن ضمير الفرد ولا تفارقه في أي ظرف، بحيث لا ينسى المؤمن رقابة الله أمام النزعات النفسية وإزاء النزغات الشيطانية، ولا يضعف أمام الإغراءات والإغواءات التي تغزوه من خارج الذات. لقد خلق الله الحياة وأوجد فيها عوامل الفتنة المختلفة وأوجد في عباده إمكانيات القوة والضعف لمن شاء منهم أن يتقدم أو يتأخر، وذلك من أجل ابتلاء عباده، ولا تزال تعتمل في الحياة أسباب الخير والشر، ولا يزال الحق والباطل يصطرعان وسط المجتمعات كما يختلجان داخل النفوس. ومن طبائع الباطل أنه ضعيف رغم مكائده القوية وأسلحته الوفيرة ورغم أن طريقه محفوفة بالشهوات والرغائب، ودليل ذلك أنه يَزْهق بسرعة إذا حضر الحق، لكن ذلك لا يتحقق بأمر غيبي وإنما عبر حِرابِ الحق وسيوف العدل، وعبر تضحيات الصالحين ومصابرتهم، وإعداد المجاهدين وبطولاتهم، ولهذا قال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}، فرتّب زهيق الباطل على مجيء الحق، وكأن الأمر يحدث بطريقة آلية نتيجة القوة الذاتية للحق ووهن الباطل. ولأن رمضان موسم بالغ الأهمية في اكتساب طاقة الصبر والتدرب على المصابرة بعيدا عن المحرمات والمرابطة في ثغور الواجبات، فقد أخبرنا التأريخ أن المؤمنين صالوا فيه وجالوا ممرغين أنوف الظالمين في التراب، وذلك في عصور الاستمساك بالحق والانتماء للخير والانحياز للعدل. وكم جاء الحق في رمضان من حيث لا يحتسب الأعداء، وكم أُزهق المؤمنون فيه من باطل، وذلك کيوم بدر وفتح مكة وفتح الأندلس ومعركتي حِطّين وعين جالوت الفاصلتين على أخطر عدوين واجها الأمة في تاريخها وهما الصليبيين والمغول ….!