بقلم منة التلاوي
يبدأ المشهد بجارية حسناء ترتدي رداء مفتوح الصدر وينسدل شعرها، تتراقص بغنج أمام أمير يتمايل معها وحولهم كؤوس الشراب، وفي مشهد آخر تأتي زوجة السلطان تدبر المكائد وتغري الجواسيس بالمال للعمل لحسابها ليتثنى لها العقد والحل وربما هي على علاقة برجل آخر، وفي مشهد ثالث ورابع وعاشر تجسد الأعمال التاريخية النساء أنهن سر البلاء وانهيار الممالك ورمز الغواية والشر.
تكاد تندثر سير النساء الصالحات من الأعمال التاريخية حتى ليخيل إليك أن المجتمع الإسلامي الأول قد قام بالرجال دون النساء فاستأثر الرجال بكل شيء وتركت النساء للبيوت وتربية الأولاد، ورغم أن ذلك دور عظيم أوكل إلى المسلمات بالفعل إلا أنه لم يكن دورهن الأوحد، لم تكن المسلمات كالدجاج في القن بل كن رائدات صاحبن الرجال في مسيرة الحضارة كتفا بكتف وقدما بقدم.
فالنساء اللواتي حضرن درس العلم في المسجد النبوي وكن جزءا فاعلا في النسيج المجتمعي للمجتمع الناشئ حتى ضجت غرف أمهات المؤمنين بالمتفاعلات والسائلات، فكانت تلك الغرف أشبه ما تكون بالمنتديات الثقافية تعج بالحياة والأسئلة والأفكار، حتى إن السيدة عائشة تقول “نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يكن يمنعهن حياؤهن أن يتفقهن في الدين”، حملن الرسالة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعملن على حمل العلم ونقله جيلا بعد جيل حتى وصل التفاعل الثقافي في المجتمع المسلم. ويروى أن رجلا ورد بغداد فسمع امرأتين تنشران غسيلهما وتتناقشان في مسألة الاستثناء في النحو متذكرتين مذهب سيبويه وغيره!
فبعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- استمر إقبال الصحابة على منزل النبي ليأخذوا دينهم عن السيدة عائشة ويسألوا عما غمض عنهم، فيقول عنها أبو موسى الأشعري: “ما أشكَل علينا أصحابَ رسول الله حديثٌ قط، فسأَلنا عائشةَ إلا وجَدنا عندها منه عِلمًا” واستمرت السيدة عائشة في رواية الحديث وجمعه بينما تفرغت السيدة أم سلمة للفقه تدرُسه وتُدرِسه.
أما السيدة شفاء بنت عبد الله فكانت أول معلمة في الإسلام؛ أجادت القراءة والكتابة وعلمتهما الصبية وشاع عنها رجحان العقل وحدة الذكاء وصواب الرأي حتى إن عمر بن الخطاب استعملها على شؤون من شؤون السوق، ذكر البعض أنه ولاها أمر الحسبة، وذكر البعض أنه استعملها ولم يُذكر يقينا فيم استعملها، ولكنها كانت أول امرأة مسلمة تعمل في الشأن الإداري للدولة على أي حال، وتتلمذت على يديها السيدة حفصة بنت عمر وكان لها براعة في الطب وهو ما أكسبها اسم شفاء.
وحفظت السيدة عُمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية حديث السيدة عائشة فكانت أعلم ثلاثة بحديث عائشة وأظهرت قدرة فائقة على الحفظ، لا يجرح في حديث روته، وروى عنها البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، ولم تكتف النساء بحفظ الأحاديث وتدوينها بل خرجن إلى ساحة العلم كمدرسات بمجالس علم إما في دورهن أو في المساجد.
وبدأت مجالسَ العلم السيدة زينب بنت علي، فبعد أن شهدت مقتل الحسين سافرت إلى المدينة ومنها إلى مصر لتقيم فيها وتعلم أهلها الفقه، وكان لها مجلس تحضره النساء اللواتي يردن تفقها في الدين، وكذلك الفقهاء من الرجال استزادة من فقه آل البيت، وحذت حذوها فاطمة بنت الحسين التي خلدت ذكر الحسين وما حل بآل البيت بالشعر، وطفقت تحكي للناس من سيرة الحسين ونكبة آل البيت وكذلك أختها السيدة سكينة بنت الحسين، غير أن سكينة عنت بالأدب والأدباء فكانت تحب اللغة والأدب حبا جما، وتجمع الأدباء حتى كان لها ما يعرف اليوم بالصالون الثقافي الذي يتناول أمور العلم والفقه والأدب والدين.
ولم تنحصر الريادة النسوية على آل البيت من النساء، بل تجاوزتهم إلى عموم المسلمين، فهذه الكاتبة شُهدة بنت أحمد بن الفرج الإبري التي اشتهرت بحسن الخط حتى أنها كانت تكتب للخليفة كما كتبت في الحديث والوعظ والتذكير واللغة والتاريخ والأدب، وأخذ عنها العلم مائة وثمانية وستين علما، ولقبت بفخر النساء وذاع صيتها وبعد ذكرها.
أما نفيسة العلم؛ السيدة نفيسة بنت الحسن، فكانت إحدى تلميذات الإمام مالك؛ تحضر مجلسه في المدينة حتى ارتحلت إلى مصر لتبدأ مجلس علمها الذي دأب على حضوره سادة علماء عصرها، حتى إن الشافعي قد عُد من تلاميذها ولم ينقطع عنها حتى وفاتها، أما تلميذة ابن تيمية فاطمة بنت عباس البغدادية فكانت سيدة عصرها بحق، فكانت عالمة فقيهة عابدة زاهدة يثني عليها ابن تيمية المرة إثر المرة، ويتعجب لذكائها وفطنتها ويستعد لها من كثرة أسئلتها، وتتلمذ على يدها ابن الجوزي.
علم الفتاة حصنها وطموح البنت هو طوق نجاتها، وأكثر ما قد يفزغ في هذا الزمن أن يأكل الفراغ أرواحنا فنهلك
وتضرب الفقيهة فاطمة بنت علاء الدين السمرقندي مثلا يحتذى في الجد والاجتهاد، فأحسنت التدريس وألفت المؤلفات في الفقه والحديث وعاصرت الملك العادل نور الدين الشهيد الذي استشارها في بعض الأمور، وأنفذ ما أشارت به عليه، وكان زوجها الكساني صاحب كتاب البدائع، فكانت ترده إلى الصواب إن أخطأ، وكانت الفتيا تصدر باسمها واسمه معا.
ولم يكن لنساء الشرق على نساء الغرب فضل، فتفوقت نساء الأندلس حتى إن ابن حزم قال فيهن: “وهن -أي النساء- علمنني القرآن وروينني كثيرا من الأشعار ودربنني في الخط”، فبرزت حفصة بنت الحاج الركونية وولادة بنت المستكفي وغيرهن، وكن يدرسن للرجال والنساء في المساجد وارتحلن كمعلمات إلى المغرب العربي.
أوردنا أسماء قليلات وغفلنا عن كثير لضيق المتسع، لكن جُل الغاية أن نضحد حجة من يجسدنا كجوار لا غير على الشاشات، أو كقوارير لا تبرح المنازل وينكر علينا طلب ما نريد العلم مُشهرا في وجوهنا أقوال ما يتخيل أنه من الدين، مبررا أن “منازلكن أهم” و”أنكن مفتونات لا محالة وستودين بالأمة إلى الهلاك”.
فأما المنزل فنحن أحرص عليه بحكم فطرتنا، وأما الفتنة وهلاك الأمة؛ فأيها أكثر هلاكا، أن نخرج لنتعلم العلم ونعلمه ونفقه ونفهم أم أن نغلق علينا بيوتنا تاركات أنفسنا للفراغ وما يقدمه التلفاز ووسائل التواصل؟ أي جيل سنربي إن فرغنا؟ أيكون خيرا لنا ولأبنائنا أن ندرس معهم وندرسهم أم أن نحشو أدمغتنا بالثرثرة والنميمة وأحوال العباد؟ علم الفتاة حصنها وطموح البنت هو طوق نجاتها، وأكثر ما قد يفزغ في هذا الزمن أن يأكل الفراغ أرواحنا فنهلك.
(المصدر: مدونات الجزيرة)