دور الحج في تجسير المسافة بين حقوق الله وحقوق الإنسان!
بقلم أ. د. فؤاد البنا (خاص بالمنتدى)
بسبب التكوين الترابي للإنسان ظل الناس يعانون من آثار التراب التي تظهر على شكل آفات عديدة، ومنها الجحود والكنود، وظهر من بين أتباع الأديان السابقة من قاموا بكل جرأة بتحريف مللهم وتبديل أديانهم في ظل صمت وسلبية البقية؛ حتى استحالت مع المدى من ملل سماوية إلى نحل أرضية، وبدت من خلال خارطة تعاليمها كأنها أديان لاهوتية صرفة، بمعنى أنها جعلت أكبر همها ومبلغ علمها إقامة بعض الأواصر بين الله وعبيده، وابتعدت عن تنظيم شؤون الناس ولا سيما في ما يتصل بالشؤون الجمعية العامة!
وكانت علل المتدينين السابقين قد سرت إلى تدين المسلمين، باستثناء تحريف القرآن الكريم، بعد أن تعهد الله بحفظه لكونه الكتاب المهيمن ودستور الدين الخاتم، ولهذا فقد ظهر انفصام كبير في صرح العبودية الشامخ لله تعالى، بحيث وجدنا مسلمين كثيرين ينفعلون إذا انتهك١ أبسط حق لله لكنهم قد يمارسون بأنفسهم انتهاكات فظيعة لحقوق الناس بكل برود ودون أن تهتز لأحدهم شعرة!
ومن هنا فقد كانت إحدى المقاصد العظيمة لفريضة الحج، تجسير المسافة بين شقي العبودية لله، والربط الوثيق بين وجهي الحقوق المفروضة: حقوق الله وحقوق الإنسان.
وعلى سبيل المثال كم من آيات وأحاديث أشارت إلى عظمة الكعبة المشرفة، حتى أنها سميت بالبيت الحرام والكعبة المشرفة وبيت الله الأعظم، وأعطيت من الفضائل والمكارم ما لم يُعط لأي مكان أو مبنى في الأرض بل في الكون كله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حرمة المسلم أشد من حرمة الكعبة المشرفة، واعتبر بأن هدم الكعبة حجراً حجراً عن سبق إصرار وترصد، أهون على الله من إراقة دم مسلم واحد!
وفي هذا الشأن روى ابن ماجة أن رسول الله وقف أمام الكعبة ذات يوم وقال: “ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه وعرضه”!
ومن منافع الحج في هذا الشأن، تدريب الحجاج عمليا على تجسيد حقوق الإنسان وتهويل أمر النيل من أي منها؛ أموالاً ودماء وأعراضا، حيث لا بد من الحساسية الشديدة نحو حقوق الآخرين، والانشغال بالذات تخلية وتحلية، بمعالجة نواقص النفس ومحاسبتها على تقصيرها، والاتصال بالله لطلب المدد المحقق للنصر المؤزر على النفس الأمّارة بالسوء، حتى يتحقق الحج المبرور، ويعود الحاج كيوم ولدته أمه، مع العلم أن الحج يمحو الذنوب التي بين العبد وربه، أما ما بينه وبين الناس فتظل حاضرة حتى تتم التوبة بشروطها المعروفة مع إعادة الحقوق لأصحابها أو استسماحهم. وكافة الشعائر مثل الحج تماما، ذلك أن حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق الناس مبنية على المشاححة!
ومن تأمل معاني الحج وتفحص شروطه وأركانه وآدابه وجد أن الحج المبرور هو الذي يجعل صاحبه أكثر تعظيما لحقوق الله وحقوق الناس مما كان قبل الحج.
وقد حرّم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الإطار على الأقوياء مزاحمة الضعفاء عند استلام الحجر الأسود، كما فعل مع عمر بن الخطاب الذي كان جسيماً قويا فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن مزاحمة الناس، وحرّم التزاحم عند رمي الجمار، وكذا في سائر المناسك.
وفي ذات السياق حرّم بعض العلماء على الأمراء والأغنياء الحج في مواسم الكوارث وانتشار الفقر، وأوجبوا عليهم دفع الأموال للفقراء والمحتاجين، وحرّموا الحجّ على المصاب بأمراض معدية، حتى لا تنتقل العدوى إلى المسلمين، كما فعل الفاروق عمر مع المرأة المجذومة، حينما أمرها أن تلتزم بيتها ولا تختلط بالناس.
وفي ذات السياق أجاز الإسلام للحجاج ممارسة البيع والشراء في مكة أثناء الحج، وأوجب عليهم التزود بالأكل والشرب: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}؛ حيث ربط ربطا وثيقا بين زادي الجسم والروح، ذلك أن الفعل (تزودوا) موجه للزاد المادي، أما اسم (الزاد) فمن الواضح أنه خاص بالزاد الأخروي وهو التقوى، ثم زاوج بين وسيلتي الحصول على الدنيا والآخرة جاعلاً من فردسة الدنيا وسيلة لاستعادة الفردوس الأخروي!