مقالاتمقالات مختارة

دواعش الليبرالية .. بقلم رياض المسيبلي

بقلم رياض المسيبلي

لا يختار الضحية طريقة موته، ولا السلاح الذي يرسل به إلى أعماق الأرض، أو ليصبح أشلاء تأبى أن تعترف بملامحها، لا يختار الضحية طريقه إلى النسيان. لكن يبدو أنّ طرق الموت أضحت معروفة لدينا في عالمنا العربي التعيس، فالقتلة كثر، وطرائق الموت أكثر منهم، والذين يفرحون ويحرضون على الموت صاروا يباعون على قارعة الطريق. وهكذا صرنا نذبح باسم الدين تارة وباسم الوطن تارات.

في البدء، كانت حركات اليسار والقومية وغيرها تقوم بما تقوم به الجماعات الإرهابية، حذو الضحية بالضحية، والرصاصة بأختها. ثم ارتدى الإرهاب ثيابه الجديدة، ليصبح هدية للشرق والغرب؛ يقتلنا أحدهم بأننا كفار، ويقتلنا الآخر بأننا إرهابيون. إن الضحية لا تختار جحيمها.

طفق خصوم الإسلاميين يستخدمون وجه الإرهاب الجديد لإرسال خصومهم إلى غيابات السجون، وضرب الحركات الإسلامية، التي تتحمل جزءا من توحش الأفكار المدمرة، خدمة لهدوء بال أولي الأمر وسحقا لكل من يخالفهم. ولكن للأزمات في أوطاننا العربية وجوهاً قبيحة تأبى على الوصف والفهم معاً.

وفي الأزمة الخليجية الأخيرة خرج معاشر الوطنجية، ودمج الوطن في السلطة، وعبادة الحاكم بأمر الله أو بأمر الشيطان، ليقودوا حملة قذرة تستهدف كل من يختلف معهم، فيصمونه بالخيانة والعمالة وكل الأوصاف التي كان الإسلاميون يرمون بها خصومهم، ولكنها الآن متلبسة بمسوح المدنية وتقديس الأوطان ومحاربة الإرهاب!

هكذا أظهر الليبراليون وجههم الداعشي؛ اقتصرت الحرية لديهم على مظاهر حرية السفه والإلحاد (نسي عبيد الاستبداد أن الإلحاد سيقود حتما إلى التمرد على كل سلطة)، وبناء المسارح ودور السينما دون الالتفات إلى الرقي بذائفة ووعي الجماهير، وغير ذلك من دعوات طفولية لا تُلمس فيها أسسٌ فلسفية وفكرية راسخة، ولا تعي بتطور وتغير المجتمعات.

إن الليبرالي العربي اليوم، وقد اتضح تواطؤه مع السلطة، يفهم التغيير بصورته الفوقية السلطوية؛ أوامر وتغيير بالإكراه يأتي من رأس الهرم ويضرب بحر الركود عندنا لينفلق ويقودنا إلى مرحلة الخلاص.

لا علاقة للأمر هنا بمحاولة شرح حالة الليبرالية العربية وكيف صارت سوطا بيد الحكومات؛ فما ينبغي مناقشته هو مدى تمثيل النسخة العربية المشوهة والتهريجية لفكر مثل الفكر الليبرالي. يبدو أن التصنيفات عندنا هي من الرخص بمكان فيستطيع الأستاذ شعبوللا، مثلا، القول بأنه يمثل مدرسة فلسفية ما، ويخرج علينا الواعظ تركي الحمد بسخافات لا تختلف عن سخافات الوعاظ الإسلاميين، ولكن مواعظ الحمد (تنويرية)!

يبدو أن العلماني العربي عندنا يملك من الجرأة ما يجعله ينادي بتنحية الله عن كل شيء، وفصل الدين عن الحكم، ولكن لديه من الذل ما يمنعه من القول بفصل العسكر عن الحكم.

وإذا كان ذاك الإسلامي الذي يقف مع استبداد السلطة منسجما مع نفسه؛ لأنه لم يخرج عن البنية الفكرية لنظرته للحاكم والدولة وقيم الحرية، فكيف نفسر موقف من يرفع راية الحرية ليقمع جميع مخالفيه، بل ويتشفى بذلك؟

إنه زمن التهريج بامتياز؛ حيث يمكن اليوم لطفل، أو غبي من نجوم مواقع التواصل، أن يقود وينظّر. لكن التهريج هذا موجود في كل مجتمع، ولا حاجة لنا هنا إلى المزيد من جلد الذات الذي تعودنا عليه. ولكن المخيف في عالمنا العربي هو حالة التهريج هذه لدى كثير من المثقفين والسطحية المدمرة التي يتناولون بها مصير دول ومجتمعات بأكملها.

قد لا ننتظر ظهور من يدفع حياته ثمنا لحرية خصمه (حسب مقولة فولتير التي يشكك في صحة نسبتها إليه)، فنحن في غنى عن ذهاب المزيد من الأرواح، ولكننا كنا نأمل في أن يكون الخلاف بين مثقفينا فيه من الشرف والعقل ما يمنعه من النزول القذر الذي شهدناه في الفترة الأخيرة.

إنه من البؤس الشديد أن تجد كلا طرفي المشهد الفكري عندنا ذميم الوجه والعقل. إذ لا يتوقف خصوم الإسلاميين من القول بأن الصحوة دمرت براءة المجتمعات ونقاءها (كما يحلو دوما للأستاذ أحمد أبو دهمان التأكيد على ذلك)، وهو أمر سيجد أنصار الصحوة صعوبة في إنكاره، ولكن ما هو الحال عند خصوم الصحوة كذلك؟ ما الذي بقي من ملامح المجتمعات العربية عند هؤلاء؟

فالصحوي وخصمه ينظران إلى مجتمعاتنا كما يريد كل منهما لها أن تكون؛ مجتمعات معاصرة ترتدي ثياب المماليك عند الصحوي، وأخرى ترتاد البارات لتثبت أنها حرة عند ليبرالية الميني جيب، وللسلطة بعدها فعل ما تريد بالصورتين. هكذا تتحول مجتمعات بأسرها لدى الموهومين إلى كتل من الصلصال يشكلها أمير المؤمنين حينا، أو ترامب ونتنياهو أحيانا أخر، ويتحول المشهد إلى مسخٍ أبطاله هذه النخب المراهقة، وجيوش الوعاظ والوطنجية والمتصهينة العرب.

عندما تشيع ثقافة القهر يتسابق المقهورون في إقصاء بعضهم، يكون الرد على الكبت بتكميم أفواه الآخرين، يتسمم كل شيء فتغدو أفعال البشر المقهورين سبيلا لنجاة المرء برقبته، وليذهب الآخرون إلى الجحيم. ومتى ما كان الآخر هذا مختلفا وخصماً؛ فساعتها يكون الإجهاز عليه مشرعناً بشتى الأوهام، ولا حاجة حينئذ للتروي أو اللجوء إلى المبادئ، أياً كانت، حتى لا ينفضح أمر الجاني مع الضحية…وهكذا تتآكل المجتمعات وتغدو أطلالاً لا تجد من يقف عليها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى