دعوة خاتم النبيين ﷺ ومواجهة الكفر والإلحاد
(المرحلة الجهرية)
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
بعد الإعداد العظيم الَّذي قام به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه، وبناء الجماعة المسلمة المنظَّمة الأولى على أسسٍ عقديَّةٍ، وتعبُّديَّةٍ، وخلقيَّةٍ رفيعة المستوى. حان موعدُ إعلان الدَّعوة، بنزول قول الله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [الشعراء: 214 – 216] .
فجمع قبيلته صلى الله عليه وسلم، وعشيرته، ودعاهم علانيةً إلى الإيمان بإلهٍ واحدٍ، وخوَّفهم من العذاب الشَّديد؛ إن عصوه، وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النَّار، وبيَّن لهم مسؤولية كلِّ إنسانٍ عن نفسه. (رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر، 3/46)
عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: لما نزلت صَعِدَ ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ صلى الله عليه وسلم على الصَّفا، فجعل ينادي: يا بني فِهْر! يا بني عَديٍّ – لبُطونِ قريش – حتَّى اجتمعوا، فجعل الرَّجل إذا لم يستطعْ أن يَخرج؛ أرسل رسولاً؛ لينظر ما هو، فجاء أبو لهبٍ، وقريشٌ، فقال: أرأيتَكم لو أخبرتُكم: أنَّ خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقيَّ؟ قالوا: نعم! ما جَرَّبْنا عليك إلا صِدقاً، قال: فإنِّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبَّاً لك سائرَ اليوم! ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [المسد: 1 – 2] [البخاري (4971) ومسلم (208)] وفي روايةٍ: ناداهم بطناً بطناً، ويقول لكلِّ بطن: «أنقذوا أنفسكم من النَّار……»، ثمَّ قال: «يا فاطمة! أنقذي نفسك من النَّار، فإنِّي لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأَبُلُّهَا بِبَلالِهَا» [البخاري (4771) ومسلم (204)] كان القرشيُّون واقعيِّين عمليِّين، فلـمَّا رأوا محمَّداً صلى الله عليه وسلم ، – وهو الصَّادق الأمين – قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم ما يرون إلا ما هو أمامهم، فهداهم إنصافهم، وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا: نعم.
ولما تمَّت هذه المرحلة الطَّبيعية البدائيَّة، وتحقَّقت شهادة المستمعين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنِّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفاً بمقام النُّبوَّة، وما ينفرد به من علمٍ بالحقائق الغيبيَّة، والعلوم الوهبيَّة، وموعظةً، وإنذاراً، في حكمةٍ وبلاغةٍ لا نظير لهما في تاريخ الدِّيانات، والنُّبوَّات، فلم تكن طريقٌ أقصر من هذه الطَّريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم، ولكنَّ أبا لهب قال: تبّاً لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟! وبهذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد وضع للأمَّة أسس الإعلام؛ فقد اختار مكاناً عالياً – وهو الجبل – ليقف عليه، وينادي على جميع النَّاس، فيصل صوته إلى الجميع، وهذا ما تفعله محطَّات الإرسال في عصرنا الحديث، لتزيد من عملية الانتشار الإذاعيِّ، ثمَّ اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصِّدق، وبهذا يكون صلى الله عليه وسلم قد علَّم رجال الإعلام والدَّعوة: أنَّ الاتصال بالنَّاس بهدف إعلامهم، أو دعوتهم يجب أن يعتمد – وبصفةٍ أساسية – على الثِّقة التَّامَّة بين المرسِل، والمستقبِل، أو بين مصدر الرِّسالة والجمهور الَّذي يتلقَّى الرِّسالة، كما أنَّ المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقاً لا كذب فيه. (الحرب النَّفسيَّة ضدَّ الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص 121)
«ومن الطَّبيعي أن يبدأ الرَّسول صلى الله عليه وسلم دعوته العلنيَّة بإنذار عشيرته الأقربين؛ إذ إنَّ مكَّة بلدٌ توغَّلت فيه الرُّوح القبليَّة، فبدء الدَّعوة بالعشيرة، قد يعين على نصرته، وتأييده، وحمايته، كما أنَّ القيام بالدَّعوة في مكَّة لابدَّ أن يكون له أثرٌ خاصٌّ؛ لما لهذا البلد من مركزٍ دينيٍّ خطيرٍ، فَجَلْبُهَا إلى حظيرة الإسلام لابدَّ أن يكون له وقعٌ كبيرٌ على بقيَّة القبائل؛ لأنَّ الإسلام – كما يتجلَّى من القرآن الكريم – اتَّخذ الدَّعوة في قريشٍ خطوةً أولى لتحقيق رسالته العالية»[(487)]، فقد جاءت الآيات المكِّيَّة تبيِّن عالمية الدَّعوة، قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28].
وجاءت مرحلةٌ أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كلَّ مَنْ يلتقي به من النَّاس على اختلاف قبائلهم، وبلدانهم، ويتبع النَّاس في أنديتهم، ومجامعهم، ومحافلهم، وفي المواسم، ومواقف الحجِّ، ويدعو من لقيه من حُرٍّ، وعبدٍّ، وقويٍّ، وضعيفٍ، وغنيٍّ، وفقير؛ حين نزول قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ *إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [الحجر: 94 – 97] (دراسة في السيرة، عماد الدين خليل، ص 66)
كانت النتيجة لهذا الصَّدْع هي الصَّدُّ، والإعراض، والسُّخرية، والإيذاء، والتَّكذيب، والكيد المدبَّر المدروس، وقد اشتدَّ الصِّراع بين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحبه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح النَّاس في مكَّة يتناقلون أخبار ذلك الصِّراع في كلِّ مكانٍ، وكان هذا في حدِّ ذاته مكسباً عظيماً للدَّعوة، ساهم فيه فّأشدُّ، وألدُّ أعدائها، ممَّن كان يشيع في القبائل قالة السُّوء عنها، فليس كلُّ الناس يسلِّمون بدعاوى زعماء الكفر، والشِّرك.
_________________________________________________
المصادر:
- ملاحظة: استقى المقال مادته من كتاب: “السيرة النبوية”، للدكتور علي محمد الصلابي.
- الحرب النَّفسيَّة ضدَّ الإسلام في عهد الرَّسول(ﷺ) في مكَّة، د. عبد الوهاب كحيل، عالم الكتب – بيروت، الطَّبعة الأولى، 1406هـ 1986م.
- دراسة في السيرة، عماد الدين خليل.
- رسالة الأنبياء لعمر أحمد عمر، دار الحكمة – دمشق، الطَّبعة الأولى، 1418هـ 1997م.
- السِّيرة النَّبويَّة لأبي الحسن النَّدويِّ، دار التَّوزيع والنَّشر الإسلاميَّة – القاهرة.
- السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي، الطبعة الأولى، 2005م.