دعوات للعبث بالحرم المكي وإزالة الرواق العثماني نكاية بتركيا
بقلم إحسان الفقيه
الرواق العثماني في المسجد الحرام والمنسوب إلى الخليفة عثمان بن عفان، لم يكن غريبا أن يتداول الناس الاعتقاد بأنه اكتسب هذه التسمية نسبة للدولة العثمانية، ذلك لأن العثمانيين قد أولوا المسجد الحرام عناية بالغة في الإعمار والتوسعة، حيث كان الحرمان الشريفان جوهر شرعية أي نظام إسلامي كانت له السيادة في الأمة.
بيْد أن هناك من دأب على النيل من تركيا حكومة وشعبًا، تاريخا وحاضرًا، فلم يكتفوا بتشويه إنجازات الأتراك في هذا العصر، بل تتبعوا إنجازات أسلافهم العثمانيين لإجحافها والنيل منها، إلى الحد الذي أُنكرت فيه جهود العثمانيين في إعمار البيت الحرام رغم شهرتها التاريخية، بل وصل حجم النكاية في تركيا إلى المطالبة بإزالة الرواق العثماني الذي يشهد على عناية العثمانيين بالمقدسات.
انبعث أحد المغردين السعوديين المعروفين بالعداء الشديد للأتراك، للمطالبة على موقع تويتر بإزالة الرواق العثماني، ما حدا بأقرانه للطنطنة حول الموضوع ودق الطبول عليه، وروّجوا خلال التعليقات والردود أن الدولة العثمانية لم تقدم شيئًا للحرم سوى القباب، وكان من ضمن المعلقين أحد أفراد عائلة الحكم في السعودية.
فما هي الحقيقة؟
كالعادة نميل في التوجه للرد إلى الاستناد على أقلام سعودية، وقد وقفنا على رسالة دكتوراة للباحث السعودي “محمد فهد عبد الله الفعر”، نشرتها جامعة أم القرى عام 1986م، وعنوانها “الكتابات والنقوش في الحجاز في العصرين المملوكي والعثماني من القرن الثامن الهجري حتى القرن الثاني عشر الهجري”.
وفي الرسالة خصص الباحث فصلا كاملًا لدراسة الكتابات والنقوش في الحجاز في العصر العثماني، في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، وأفاض فيه البيان عن جهود السلاطين العثمانيين في العناية بالحرمين وأهلهما وتخصيص الأوقاف لذلك، وخاصة إعمار المسجد الحرام، وتتبع إنجازاتهم في هذا المجال، وبدأ بأعمال السلطان سليمان القانوني في تجديد وإعمار باب السلام في المسجد الحرام استنادا إلى اللوحة التأسيسية للباب، والمؤرخة بسنة 931 هـ في عهد السلطان سليمان، كما استند إلى كتاب “درر الفوائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة” لعبد القادر بن محمد الجزيري المتوفي عام 977 هـ.
كما قام السلطان سليمان بتجديد وعمارة مآذن الحرم كمأذنة باب العمرة ومأذنة باب علي بالجانب الشرقي ولكنها أزيلت في التوسعة السعودية 1375هـ، كما قام بتجديد مقامي المالكي والحنبلي عام 932 هـ، وهي نفس السنة التي جعل فيها أساطين المطاف التي تعلق عليها القناديل من النحاس بعد أن كانت حجارة منحوتة، كما قال الجزيري.
وقام بإصلاح مقام إبراهيم عام 949 هـ، وكذلك إصلاح المطاف وتغيير بلاطه القديم، ووضع منبرا من الرخام الأبيض البراق في المسجد، ظل يُخطب عليه حتى عام 1400هـ بعدها نقل إلى متحف الحرم، إلى جانب العديد من أعمال التجديد والإعمار التي قام بها سليمان القانوني في الحرمين الشريفين، وهي أكثر بكثير مما يتسع له المقام هنا.
وأما ولده السلطان سليم الثاني بن سليمان، فله مآثر عظيمة في إصلاح وتجديد وعمارة المسجد الحرام، أبرزها العمارة الشاملة التي بدأت عام 980 هـ، وأتمها ولده السلطان مراد عام 984 هـ، وهو أول عمل قام به بعد توليه السلطنة بعد أبيه، وأمر كذلك بحفر مجرى السيل خارج المسجد من الناحية الجنوبية ومجرى آخر في الناحية الشمالية، وأنشأ سبيلا قرب باب الصفا.
وفي عهد السلطان سليم الثاني وولده مراد، تم استقدام نخبة من المهندسين للإشراف على إعمار المسجد الحرام، منهم “محمد جاوش المعمار” والذي كان يلقب بشيخ المهندسين في مصر، وأشاد به قطب الدين الحنفي المؤرخ الذي عاصر هذه الفترة في كتابه “الإعلام بأعلام بيت الله الحرام”.
وخلال هذا الإعمار الشامل للبيت الحرام، الذي بدأ في عهد سليم الثاني وانتهى في عهد مراد، أُحكم بناء المسجد الحرام وأصبح تاما بما فيه ذلك الرواق العثماني وذلك عام 984ه، وأدخل فيه نظام القباب لأول مرة في المسجد الحرام بدلا من السقوف الخشبية، وبنوا لهذا الغرض دعامات حجرية لتتحمل القباب، وبقي على الشكل الذي كان عليه قبل التوسعة السعودية عام 1434ه.
هذا التجديد الشامل لبناء المسجد الحرام، وصفه الباحث السعودي بقوله: “أكبر عمارة للمسجد الحرام على مدى العصور الإسلامية”.
وفي عهد السلطان أحمد بن محمد بن مراد بن سليم الثاني، كانت العديد من الإصلاحات ومظاهر الإعمار في المسجد الحرام، منها ترميم المقامات الأربعة، وشدّ جدران الكعبة بحزام من حديد مصفح بالفضة المطلية بالذهب لمّا بلغه تصدع جدرانها، وقام بترميم سقف الكعبة واستبدل ميزابها القديم بآخر جديد، ولا يزال السلاطين يتعاقبون من بعدهم على العناية الفائقة بالمسجد الحرام بما لا يتسع لذكره المقام.
وما تناولناه إنما هو إشارات لجهود سلاطين العثمانيين تجاه المسجد الحرام، وفي نطاق الإعمار في المسجد، وإلا فإن الحديث عن الأوقاف الخاصة بالحرمين وإعمار المسجد النبوي وإنشاء التكايا وإكرام أهل الحرمين وعلمائهما بالأعطيات، وتأمين سبل الحج، والعناية بكسوة الكعبة، لهو أكثر مما تتسع له هذه السطور.
لقد كان الحديث عن اهتمامات العثمانيين بالمسجد الحرام شائعا في السعودية قبل تأزّم العلاقات مع تركيا، وبعملية بحث بسيطة على الإنترنت، يمكن للقارئ أن يقف على ما كانت تنشره الصحف والمواقع لدى حديثها عن تاريخ المسجد الحرام وإعماره، ومنها موقع الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، والتي أقرت تلك الإنجازات العثمانية تحت عنوان “عمارة المسجد الحرام”، يجدها القارئ على هذا الرابط:
https://www.gph.gov.sa/ar-sa/alharamain/Pages/Building-mosque-Haram.aspx
الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي – عمارة المسجد الحرام
وفي الحديث المستفيض عن جهود العثمانيين في العناية بأروقة المسجد الحرام، كان لصحيفة “المدينة” السعودية هذا الجهد الكبير في ذكر تلك الإنجازات، ولكن بالطبع قبل نشوب الأزمة بين الدولتين كما يتضح من تاريخ المقال الذي نضع رابطه للقارئ:
https://www.al-madina.com/article/432558
صحيفة المدينة السعودية – أروقة المسجد الحرام من «العباسي» حتى التوسعات السعودية الكبرى
وأخيرًا، نود أن نطرح سؤالا على بعض المُغرّدين السعوديين وداعميهم “بإعادة التغريدة والتفضيل والتعليق (المُسيء)” من الذباب الألكتروني الذي كرّس نفسه للنيل من تركيا وتاريخها:
رأيناكم على تويتر تجاهدون لنفي نسبة الرواق العثماني للعثمانيين، وفي الوقت نفسه تقولون إن العثمانيين لم يفعلوا للرواق ولا المسجد الحرام سوى القباب، حسنا، فما مشكلتكم إذن مع الرواق العثماني؟ لماذا تنادون بإزالته؟!
وهل سوّغتم العبث بالمسجد الحرام والقيمة الأثرية للرواق لمجرد أن الناس يتداولون القول بنسبته للعثمانيين؟!
(المصدر: الاناضول / ترك بوست)