بقلم حسن الدغيم
مع نكسة 1967، وهجوم إسرائيل على البلدان العربيّة وجيوشها القوميّة، التي كانت تتبنّى ما يمكن اعتباره نهجاً علمانيّاً في الحكم، ظهرت موجة ما سمّيَ بـ (الصحوة الإسلاميّة)، وتوجّه الناس للتديّن، على اعتبار أنّ سبب الهزيمة بحسب ما تشكّل في العقل الجمعيّ آنذاك، هو البعد عن الله وطاعته، والارتكاس في المعاصي والمجون، وبخاصّة مع ما تردّد على ألسنة بعض الخطباء المشهورين أمثال الشيخ: ( عبد الحميد كشك) رحمه الله أنّ الضبّاط العرب كانوا مخمورين في ليلة الهجوم على الجيش المصريّ والسوريّ..
الحاصل.. ومع انتشار دعوات الرجوع إلى الدّين، وباعتبار أنّ الغالبيّة الحركيّة الإسلاميّة تعتقد أنّ الإسلام هو دين ودولة، شريعة وعقيدة ومنهج حياة، ولا ينفصل جانب عن جانب، فقد تجدّدت الدعوات لإحياء النظام الإسلاميّ في الحكم، وأنّه لا بدّ من إعادة الخلافة وتنصيب خليفة على المسلمين، والسبيل إلى ذلك هو الجهاد، وقتال الحكّام المرتدّين عن الدّين، لأنّهم لا يحكمون بالشريعة الإسلاميّة، وظهرت جماعات: (الهجرة والقتال والتكفير) وظهر تنظيم الجهاد، وكتاب الفريضة الغائبة والجماعة الإسلاميّة.. وكلّها في مصر وتنظيم الطليعة المقاتلة في سوريّة، ومن ثمّ تنظيرات (أبي مصعب السوريّ) في المقاومة الإسلاميّة العالميّة، وهدم النظام العالميّ ومن ثمّ تطوّرت مع أفغانستان إلى مواجهة عالميّة، ومن ثمّ تمّ اختصارها إلى إدارة التوحّش، إلى أن تمّ إعلان الدولة في العراق، وتطويرها إلى الخلافة، التي كان على رأسها البغداديّ !!
السؤال الذي يهمّنا من هذا: كيف استطاع النظام الاستبداديّ صرف الجهود الرّامية للتغيير والإصلاح، من معركة بين الشعوب وجلّاديها الانقلابيين، وأنظمتهم البوليسيّة، إلى معركة بين الشعوب نفسها، تتصارع على الاختيارات الفقهيّةى والانتماءات المذهبيّة…
هنا يأتي دور الدعاة المساكين الذين يمزجون بين معارك الحريّة وبين معارك الشريعة، حيث يطوّعهم النظام المستبدّ ضمن خدمة برامجه وسياساته الأمنيّة، بفتح المعارك الجانبيّة بين حركات الإصلاح والتغيير، فبدلاً من أن يصرف النظام المستبدّ جهداً عظيماً في قمع الحركات الإسلاميّة المسلّحة، ما عليه إلّا أن يخترق هذه التنظيمات، بشخصيّات مخابراتيّة، تعمل ضمن أدبيّات هذه التنظيمات على خلق صدام بينها وبين الحاضنة الشعبيّة، بحيث يصبح الشعب في حال تخوّف شديد من هذه التنظيمات، التي سوف تتدخّل في حرّيّاتهم الشخصيّة، فضلاً عن السياسيّة، وعندما يرون الجماعة الإسلاميّة كيف بدأت تكسر دور السينما وحانات الخمر في بعض نواحي مصر، وكيف بدأت التضييق على ألبسة النساء، بحجّة عدم التزامها الحجاب، بل كيف بدأ الدعاة في هذه الحركات ينبشون مسائل الجدل والكلام عن ولاية المرأة، وحقّها في الانتخاب والترشّح، وعن حكم الموسيقا وسماعها ومن هذا القبيل، ومع تراكم هذه الظواهر، وخروج من يقول: بوجوب تنظيم جمعيّات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة، مع العلم أنّ هذه التصرّفات في ثورات الحريّة، ليس لها ضابط مرجعيّ، ولا معرفيّ، وإنّما يقوم عليها دعاةٌ مختلفو التوجّه والمذهب والاختيار الفقهيّ، فتنشئ الاضطرابات والمشاحنات بين الدعاة أنفسهم وبين الحركات والشعب، وهنا يظهر المستبدّ كبطلٍ مخلص، حامٍ للمرأة من تسلّط الرجل، وحامٍ للأقلّيّات من تسلّط الأكثريّة، وحامٍ للحرّيّات من تسلّط الحركات المتطرّفة، فينحاز له من ضعاف النفوس والحيارى وأصحاب المصالح، والغاضبين من حركات التغيير ومن دعاة التديّن الملزم، ويصطفون مع المستبد ليشغلهم في منظومته ضدّ التغيير والإصلاح، والنتيجة ترسيخ للحكم العسكريّ الاستبداديّ، وشرعنةٌ للانقلاب، وتبريرٌ للظلم، ويخرج الطيف الثاني من الدعاة لحمد الله على نعمة الاستقرار والأمن الممنوحة من ولاة الأمور لشعوبهم !!
هؤلاء الدعاة المساكين هم أنفسهم يرتكبون جريمة أخرى، وهيَ مساعدة المستبدّ على تحطيم المعارضة والثورة، عندما يقومون بزجّ اختياراتهم الفقهيّة في معارك الحريّة، ويريدون من الجميع أن يتابعوهم عليها، ولاسيّما تكفير الديمقراطيّة، والهجوم على أنصارها، وهذا بدا واضحاً في الربيع العربيّ عامّةً، والثورة السوريّة بخاص!ة، عندما ترى المنابر الحركيّة، وحتّى التقليديّة تصدح ليلاً ونهاراً بتكفير الديمقراطيّة، كوسيلة للوصول للحكم، بل ويصل الأمر لتكفير من يتبنّى ذلك مشروعاً سياسيّاً، وقد يصل الأمر إلى قتاله، كما حدث من مبرّرات داعش في قتال الجيش الحرّ، وتكفير زعيم النصرة سابقاً للمجلس العسكريّ والأركان المنبثقة عن الثورة، بأنّها مؤسّسات مرتدّة لوجود برامج مدنيّة وديمقراطيّة !
ما أسعد المستبدّين بهؤلاء الدعاة الذين يساعدونه في حربه، وتثبيت عرشه، وشرعنة تغلّبه، بل يجعل منهم قوّات مجانيّة، بدون تمويل، ليحطّم بهم سفينة الحريّة، ويخرقها لتغوص في أعماق البحار، بينما تبقى بوارجه تمخر بحر الظلمات،
ونحن في معركة الحريّة الكبرى ضدّ الاستبداد السياسيّ يحاول بعضهم جرّ الثورة إلى معارك جانبيّة مع أبناء شعبها، بينما يستريح المستبدّ من عناء المواجهة، بعد أن قامت قوى الثورة أو المحسوبة عليها، بالتكفّل بإنهاكها اقتتالاً ونزاعاً، فنصيحة لكلّ غيور على دين الله؛ لا تخض معركة الشريعة والدعوة، قبل حسم معركة الحريّة، لأنّ أيّ دعوة بلا حريّة ستنقلب غطاء للاستبداد وشرعنةً للتغلّب.
(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)