مقالاتمقالات المنتدى

دعاء الصديق وشدَّة تضرُّعه: نماذج، دروس، وعبر

دعاء الصديق وشدَّة تضرُّعه: نماذج، دروس، وعبر

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

إنَّ الدُّعاء بابٌ عظيمٌ، فإذا فُتِحَ للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات، ولذلك حرص الصِّدِّيق على حسن الصِّلة بالله، وكثرة الدُّعاء، كما أنَّ الدُّعاء من أعظم وأقوى عوامل النَّصر على الأعداء، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ *} [غافر: 60]. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *} [البقرة: 186].

ولقد لازم الصِّدِّيقُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ورأى كيف كان رسول الله يستغيث بالله، ويستنصر، ويطلب المدد منه، وقد حرص الصِّدِّيق على أن يتعلَّم هذه العبادة من رسول الله، وأن يكون دعاؤه وتسبيحه على الصِّيغة التي يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرتضيها؛ إذ ليس للمسلم أن يفضِّل على الصِّيغة المأثورة في الدُّعاء والتسبيح والصَّلاة على النبيِّ صيغاً أخرى، مهما كانت في ظاهرها حسنة اللَّفظ، جيدة المعنى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو معلِّم الخير، والهادي إلى الصراط المستقيم، وهو أعرف بالأفضل، والأكمل(الطنطاوي،1986، ص207)، وقد جاء في الصَّحيحين: أنَّ أبا بكرٍ الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قال: يراسل الله! علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: «قل: اللهمَّ إنِّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفور الرحيم ».

ففي هذا الدُّعاء وصف العبد لنفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربِّه الذي يوجب: أنَّه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التَّصريح بسؤال العبد لمطلوبة، وفيه بيان المقتضى للإجابة، وهو وصف الرَّب بالمغفرة، والرَّحمة، ونحوه أكملُ أنواع الطَّلَب.(ابن تيميه، 1997، ج 9 ص 146)

وجاء في السُّنن عن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: يراسل الله! علِّمني دعاءً أدعو به إذا أصبحت، وإذا أمسيت، فقال: « قل: اللهم فاطر السَّموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربَّ كُلِّ شيءٍ ومليكة، أشهد أن لا إله إلا أنتَ، أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شر الشَّيطان، وشِرْكِه، وأن أقترفَ على نفسي سوءاً، أو أجرَّه إلى مسلمٍ، قُلْهُ إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك ».

فقد تعلم الصِّدِّيق من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّه ليس لأحدٍ أن يظنَّ استغناءه عن التَّوبة إلى الله، والاستغفار من الذُّنوب، بل كُلُّ أحدٍ محتاجٌ إلى ذلك دائماً . قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً *لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *} [الأحزاب: 72، 73] فالإنسان ظالمٌ جاهلٌ، وغاية المؤمنين والمؤمنات التَّوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصَّالحين، ومغفرته لهم .

وثبت في الصَّحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: « لن يدخل الجنَّة أحدٌ بعمله » . قالوا: ولا أنتَ يراسل الله ؟ قال: « ولا أنا إلا أن يتغمدن اللهُ برحمته ». وهذا لا ينافي قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ *} [الحاقة: 24].

فإن الرسول نفى باء المقابلة، والمعادلة، والقران أثبت باء السَّبب، وقول مَنْ قال: إذا أحبَّ الله عبداً لم تضرَّه الذُّنوب. معناه: أنَّه إذا أحبَّ عبداً ألهمه التوبة، والاستغفار، فلم يصرَّ على الذُّنوب، ومن ظنَّ أن الذُّنوب لا تضرُّ من أصرَّ عليها؛ فهو ضالٌّ مخالفٌ للكتاب، والسُّنَّة، وإجماع السَّلف، والأئمَّة. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}.

كان أبو بكرٍ دائم الذِّكر لله تعالى، شديد التَّضرُّع، كثير التَّوجُّه لله، لا ينفكُّ عن الدُّعاء في كُلِّ أحيانه، وقد نقل إلينا بعض أدعيته، وتضرعاته، ومنها:

أ ـ أسألك تمام النعمة في الأشياء كلِّها، والشُّكر لك عليها حتى ترضى، وبعد الرِّضا، والخيرة في جميع ما تكون إليه الخِيَرَةُ، بجميع ميسور الأمور كلِّها، لا بمعسورها يا كريم! .

ب ـ وكان يقول في دعائه: الّلهمَّ إنِّي أسألك الذي هو خيرٌ لي في عاقبة الخير، الّلهمَّ اجعل اخر ما تعطيني من الخير رضواك والدَّرجات العُلى من جنات النعيم.(عاشور، ص139)

ج ـ وكان يقول في دعائه: الّلهمَّ اجعل خير عمري اخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك.

د ـ وكان إذا سمع أحداً يمدحه من الناس، يقول: الّلهمَّ أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، الّلهمَّ اجعلني خيراً ممّا يظنُّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.(عاشور، 139)

هذه بعض أهمِّ صفاته، وشيءٌ من فضائله مررنا عليها بالإيجاز، وسوف نرى أثر التَّربية النبويَّة على الصِّدِّيق بعد وفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكيف قام مقاماً لم يقمه غيره بفضل الله، وتوفيقه، ثمَّ تربيته العميقة، وإيمانه العظيم، وعلمه الرَّاسخ وتتلمذه على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أحسن الجندية، وقطع مراحلها، وأشواطها برفقة قائده العظيم، عليه أفضل الصَّلاة والسلام، فلمّا أصبح خليفةً للأُمَّة؛ استطاع أن يقود سفينة الإسلام إلى شاطئ الأمان، رغم العواصف الشَّديدة، والأمواج المتلاطمة، والفتن المظلمة.

 

 

___________________________________________________

مراجع البحث

علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م

على الطنطاوي، أبو بكرٍ الصِّدِّيق، دار المنارة، جدَّة، السُّعوديَّة، الطبعة الثَّالثة 1406هـ- 1986م.

تقي الدِّين أحمد بن تيميَّة الحَرَّاني، مجموعة الفتاوى، دار الوفاء، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1418هـ- 1997م.

محمَّد أحمد عاشور، جمال عبد المنعم الكومي، خطب أبي بكرٍ الصِّدِّيق، دار الاعتصام.القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى