
دساتير سوريا المفقودة: من الاستقلال الوطني إلى الانقلاب العسكري
بقلم: د. طالب عبد الجبّار الدغيم( خاص بمنتدى العلماء)
مع بداية مرحلة الاستقلال في سوريا عام 1946م، كانت الدساتير تُعدّ بمثابة أداة لإعادة تشكيل هوية الدولة بعد فترة طويلة من الانتداب الفرنسي، حيث أُعطيت القوانين الدستورية طابعاً مؤقتاً يعكس التحديات والظروف السياسية المحلية والدولية. كان الهدف من هذه الدساتير ليس فقط تنظيم العلاقات السياسية الداخلية، بل أيضاً التعبير عن تطلعات الشعب السوري نحو الحرية والسيادة الوطنية. ورغم ذلك، لم تخلُ هذه التجربة من التفاعلات المعقدة بين الفكر السياسي القومي أو الليبرالي الساعي للحرية والعدالة، والأفكار الإصلاحية التي تستهدف تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي.
في هذه المقالة، نستعرض مسار التجربة الدستورية السورية بعد الاستقلال الوطني على مدار أربع سنوات، ونناقش العلاقة بين القيم السياسية الحديثة والمتغيرات المحلية التي كان لها دور كبير في صياغة الواقع الدستوري في سوريا، وتأثيراتها التي امتدت إلى العقود التالية.
التطورات الدُّستورية في سورية في مرحلة الاستقلال الانتقالية حتى تعديل 1947م:
عُرفت الفترة الممتدة بين عامي 1943و1947 بأنها فترة الحكم الدستوري، ووصفها عادل أرسلان بأنها مرحلةً كان فيها الدستور سلطاناً في سورية. وكما وصفت تلك المرحلة بأنها مرحلة انتقالية، إذ بدأت مع انتخاب رئيس للجمهورية، ومجلسٍ نيابي مستقل جديد في عام 1943، وألغى خلالها البرلمان مادة الانتداب الفرنسي (م 116) من الدستور القديم. إلا أن البداية الفعلية لتلك المرحلة، بدأت مع عملية جلاء القوات الفرنسية في 16-17 نيسان/أبريل 1946، وتمتع سورية باستقلالها السياسي. واستمرت حتى إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية للدستور في أواخر عام 1949.
وقد ناقش المجلس النيابي السوري في تلك المرحلة، مجموعةً من القضايا الدستورية التي اعترضت الدولة الوطنية الناشئة، ومنها تسوية القضايا القديمة مع فرنسا، ولاسيما معاهدات الجيش واستقلال النقد، إذ كانت قضية الجيش قضيةً مصيريةً، فأَلحّ كثير من النواب في نقاشاتهم على ضرورة تصديق قانونٍ خاصٍ بإعادة هيكلة الجيش السوري وتدريبه وتسليحه، حتى لا يبق في حالةِ فوضى وسوء تنظيم دائمين.
كذلك نوقشت قوانين للإصلاح الزراعي، وأخرى لتنظيم العمل، والتي كانت تتعثر الخطى عند طرحها بسبب نفوذ البورجوازية السورية الكبير آنذاك. وطرحت مشاريع دستورية أخرى تتعلق بحرية النشر والرأي والتعبير. ولكن كان الحدث الدستوري الأكثر تأثيراً في تلك المرحلةً، هو تعديل الدستور بما يسمح للرئيس شكري القوتلي بتجديد رئاسته لولاية ثانية، والذي أثار ضجة داخل وخارج سورية. فالسؤال هنا: لماذا جرى تعديل الدستور السوري من قبل الحزب الوطني الحاكم؟ وما هي رهانات ذلك التعديل؟
١ ـ تعديل الدستور وتجديد رئاسة شكري القوتلي في عامي 1947 ـــ 1948
نتج عن ضغوط نواب البرلمان والنخب الحزبية المعارضة، إقرار تعديل قانون الانتخاب القديم “العثماني”، من نظام الانتخاب على مرحلتين إلى الانتخاب الشعبي المباشر عام1947 م، حيث كانت حكومة جميل مردم قانعةً بذلك التعديل، واعتبرته ضامناً لسلامة أيّ عملية انتخابية مسقبلية، ورأته ينسجم مع روح الحرية والديموقراطية لدى المواطن السوري.
وجرى تكليف الحقوقيين أسعد الكوراني وفؤاد شباط بوضع قانونِ الانتخابات الجديد. وبعد أن انتهيا منه، قدماه للمجلس النيابي في 14 نيسان/أبريل1947. فاختلف النواب حوله، ففي الوقت الذي وجد صبري العسلي (الحزب الوطني الحاكم) ضرورة التأني في إقراره لاختلاف الآراء حول المبادئ المتعلقة بانتخاب الدرجة الأولى، وفي تمثيل الطوائف الدينية، أَيَّده رشدي الكيخيا وأكرم الحوراني وناظم القدسي (الكتلة الدستورية المعارضة) بكل ثبات وإصرار. وفي نهاية المناقشات، أصدر البرلمان قانوناً انتخابياً مُعدلاً في 24 أيار/مايو 1947. ولكن على الفور، تكشفت مساوئ القانون الجديد، بسبب استثنائه العشائر العربية والكردية في منطقة الجزيرة السورية من شروط التسجيل في سجلات الدولة المدنية، لأن الدولة اعتمدت على الجداول الرسمية التي يحتفظ بها مخاتيرهم، وزعماء مناطقهم دون أيّ تدقيق حكومي رسمي فيها.
تزايد السخط على الرئيس القوتلي وحزبه الوطني، بعد انتخابات النيابة في 7 و8 تموز/يوليو 1947، فقد أسفرت الانتخابات في الجولة الانتخابية الأولى عن فوزٍ ساحقٍ للمعارضة، فأحدث ذلك توتراً لدى زعماء الحزب الوطني، الذين كانوا موقنين بالفوز، مما دفعهم إلى تزوير الانتخابات. ورأى المفكر رايسنر، بأن الرئيس القوتلي هو أول من أمر بالتزوير العلني للانتخابات في دمشق، وكَلف بذلك محافظ دمشق بهجت الشهابي بالتعاون مع ضباط الأمن المشرفين على الصناديق، مما رجح كفة مرشحي الحزب الوطني في نتيجة الجولة الثانية. أما في حلب، فازت المعارضة بزعامة رشدي الكيخيا خلال الجولتين، فيما سقطت لائحة الحزب الوطني فيها. وفي حماة تعادل المتنافسون، ففازت كتلة أكرم الحوراني الشبابية، ومرشحو الحزب الوطني أيضاً.
وبعد الانتخابات، تأكدت الأحزاب المعارضة من تلاعب الحزب الوطني بالنتائج، بعد أن فاز بنحو أربعةٍ وعشرين مقعداً، فيما فازت المعارضة بثلاثة وثلاثين. فأدى ذلك إلى اندلاع موجةِ احتجاجاتٍ صاخبةٍ، قادها الإخوان المسلمون وجمعية علماء دمشق، احتشدت في ميدان البرلمان، وهاجمت مراكز الاقتراع، ومكاتب الحزب الوطني. الأمر الذي دفع الحكومة إلى إغلاق مسجد دمشق، وتوقيف عمل الصحافة، ولا سيما جريدة المنار التابعة للإخوان، والتي شنت هجومها على الحكومة بجرأةٍ وتحدٍ كبيرين.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدث الدستوري، ففي أول جلسة برلمانية بعد الانتخابات، طرح نحو سبعة وثمانون نائباً (من أنصار الحزب الوطني في البرلمان)، مشروع تعديل الدستور، ولا سيما المادة الثامنة والستين التي كانت تَمنع تجديد رئاسة رئيس الجمهورية لولاية رئاسيةٍ ثانية مباشرة (حسب دستور 1930). وبعد بدء نقاشات التعديل انقسم النواب في فريقين، وهما:
ــ فريق أول، رأى التجديد إجراءاً ضرورياً لتأمين استقرار البلاد، وحتى لا يَحّدثَ أيُّ صراعٍ حزبي على رئاسة سورية في المستقبل.
ـــ فريق ثاني، اعتبر التعديل إجراءاً خاطئاً، واعتداء صارخاً على حُرمة الدستور، واتهم هؤلاء الفريق الأول بالانتهازية، وعدم الاكتراث بمصير سورية. ونتج عن تلك الخلافات إحالة المشروع إلى لجنة دستورية نيابية من أجل إقراره أو إلغائه. فناقشت اللجنة التي ترأسها الحقوقي هاني السباعي مواد التعديل في أكثر من جلسة، انتهت بإقرار تعديل المادة. وأصبح من حق رئيس الجمهورية الترشح لدورتين، عبر اقتراع شعبي وسري ومباشر، وبعد موافقة أكثرية أعضاء البرلمان.
تباينت ردود فعل النُّخبةِ السورية على قرار تعديل الدستور. فقد اعتبر الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي أن تعديل الحزب الوطني للدستور في 1947 ــ 1948، هو إدخال للرئيس في اللعبة الحزبية، وقد أفقد الدستور السوري قُدسيته ومكانته. وكذلك اعتبر أرسلان بأن التعديل هو “فاسدٌ ومفسدٌ للاستقرار في سورية”. وحسب رأي جوردن توري، فإن تعديلات القوتلي للدستور، لم تكن غايتها تحسين الواقع المواطني للشعب، بقدر ما كان الهدف هو إعادة تجديد حكم الرئيس ولاية ثانية لا أكثر.
ومع ذلك، فقد انهالت عشرات العرائض والرسائل من جميع مناطق سورية تؤيد تعديل الدستور، والتجديد للرئيس القوتلي. وقاربت ما يزيد عن مائتي عريضة من مختلف الفئات الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية، معتبرة يوم التعديل الدستوري يوماً تاريخياً في سورية. فكيف يمكن فهم رهانات تأييد الفئات الشعبية والنخب الحزبية للتعديل مع أنه شكل أولَ خرقٍ دستوري بعد نيل سورية الاستقلال؟
لقد شعرت الغالبية من السوريين، بأن سورية كانت بحاجةٍ إلى رجلٍ سياسي يتمكن من إدارة البلاد في تلك المرحلة المتأزمة، والتي أعقبت هزيمة الجيش السوري في فلسطين، وما رافقها من اضطرابات اجتماعية وسياسية واقتصادية داخلية. فكان لدى تلك الفئات الثقة، من قدرة الرئيس القوتلي في التوصل إلى توافق سياسي. وتنفيذ حركةِ إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية واسعة، نظراً لعلاقاته القوية مع القوى السياسية والاقتصادية في سورية، هذا إضافة لقدرته على توسيع علاقات سورية مع الدول العربية والعالمية، بما يحمي استقرار سورية، ويقوي علاقاتها الخارجية المتأزمة.
يمكن اعتبار التعديل الدستوري في عهد الرئيس شكري القوتلي، بداية عهد للتعديلات الدستورية المؤقتة الكبرى في سورية، والتي استمرت دون توقف حتى إقرار دستور سورية في عام 1973. فقد شكلت عملية تزوير الانتخابات، والتلاعب بأصوات الناخبين من قبل الحزب الوطني، ومن ثم تجديد رئاسة القوتلي خرقاً للتقاليد الدستورية الليبرالية التي عاشتها سورية، ولا سيما بعد انتخاب برلمان 1943. وربما كان الدافع الذي جعل الصحفي الأمريكي باتريك سيل، بأن يعد تجديد رئاسة القوتلي تحت ستارٍ حزبي ونيابي وشعبي، قد خلق تهديدات سياسية وأمنية داخلية وخارجية، ومنع بدوره نمو حركة دستورية ليبرالية في سورية خلال عقد الخمسينيات من القرن العشرين.
مراجع المقال:
- أسعد الكوراني، ذكريات وخواطر: مما رأيت وسمعت وفعلت (بيروت، رياض الريس، ط1 2000)، 169.
- باتريك سيل، الصراع على سورية (1945ـــ 1958)، تر سمير عبدو ومحمود فلاحة (دمشق، دار طلاس، 1986)، 26 ــ 27.
- برقيات ورسائل تؤيد تعديل دستور 1930، محاضر المجلس النيابي، الدور الاشتراعي الرابع، في 30 آذار/مارس 1948، 56 ـــ67.
- تعديل قانون الانتخاب 1948، محاضر المجلس النيابي، 19 مارس 1948، 14.
- عادل أرسلان، مذكرات، تح يوسف إيبش (بيروت، الدار التقدمية، ط1 1983)، ج2، 684.
- محمد رضوان الأتاسي، هاشم الأتاسي: حياته ـ عصره (دمشق، خاص، ط1 2005)، 335 ــ 336.
- نزار الكيالي، دراسة في تاريخ سورية المعاصر 1920 ـ 1950 (دمشق، دار طلاس، ط1 1997)، 313.
- نصوحي بخاري، محاضر المجلس النيابي السوري، الجلسات الختامية للجنة الدستورية، 22 أيار/مايو 1947، 452 ـــ 453.
- نقاشات تعديل الدستور، محاضر المجلس النيابي السوري، 17 تشرين الثاني/نوفمبر1947، 167 ـــ 171.
- يحيى قسام، موسوعة سورية بين المملكة والجمهورية (دمشق، دار العرب، ط1 2016)، ج3، 441 ـــ 442.
- يوهانس رايسنر، الحركات الاسلامية في سورية في الأربعينيات وحتى نهاية عهد الشيشكلي، تر محمد الأتاسي (بيروت، رياض الريس، 2005)، 211 ــ 215.
إقرأ أيضا: الفكر الدستوري العربي بين الإصلاحات العثمانية والتجربة السورية