د. محمود أبو السعود .. العالم الباحث الجاهد المجاهد في الاقتصاد الإسلامي | بقلم د. يوسف القرضاوي
د. محمود أبو السعود العالم الباحث الجاهد المجاهد في الاقتصاد الإسلامي (1331- 1413هـ= 1912م – 1993م)
في أفراد المسلمين, وفي الجماعات الإسلامية المتعددة, وفي جماعة الإخوان المسلمين: أعلام كُثُر, منهم أعلام في الفقه والتشريع, ومنهم في الاقتصاد والإدارة, ومنهم في التربية والثقافة, ومنهم في شتى العلوم والرياضيات, ومنهم في مناحي الحياة المختلفة, وبعضهم تفوق في اختصاصه, وغلب على المنافسين, وكان له شأن ودور في مجاله, وهم كثيرون, أدعو الله تعالى أن ينفع بهم حيثما حلُّوا, وأن يوجههم إلى نفع أوطانهم ومجتمعاتهم حيثما توجهوا.
في مجال الفقه والتشريع أعرف الأستاذ عبد القادر عودة, والأستاذ توفيق الشاوي, والأستاذ محمد سليم العوا, والأستاذ عبد العظيم الديب, والأستاذ صلاح سلطان, والأستاذ عجيل النشمي, وبعدهم: الشيخ شلتوت, وأبو زهرة, والخفيف, وخلاف, وشلبي, والزحيلي.
وأعرف في الاقتصاد الإسلامي: د. محمود أبو السعود, ود. عبده عيسى, والعربي, وأبو زهرة, ومحمد حامد عثمان, وسيد قطب, ود. منذر قحف, وأحمد النجار, ود. عبد الستار أبو غدة, ود. عبد الحميد الغزالي, ونظام يعقوبي, ومختار السلامي, وعبد الله بن منيع, وتفي الدين العثماني, ود.على القره داغي.
وعرفت في اختصاص العلوم والرياضيات أمثال الأستاذ: د. زغلول النجار و……
وهناك أسماء كثيرة أعرفها, ولكنها لا تحضرني الآن, وخصوصًا أني في هذه السن أصبحَت بعض الأسماء تغيب عني حينًا وتحضر أحيانًا, وبالعكس.
وهناك أسماء كثيرة من أبنائنا: أبناء العالم العربي والإسلامي, وأحيانا أجد من أبنائنا المسلمين المتفوقين على من هو في سنهم وظروفهم في بلاد أخرى.
وها أنا أقدِّم للإخوة الأحبَّة رجلًا أعرفه من السابقين والمجدِّين علمًا وعملًا في الاقتصاد الإسلامي, عمل مديرًا في أوساطه, وكتب فيه بحوثًا, وقدَّم أعمالًا, ولكن للأسف لم تتصل حلقته بحلقة غيره, ولم تتكوَّن من المجموعة كتيبة مجهَّزة تعمل في انتظام, وتسلم علمها لغيرها فتكمله إن كان ناقصًا, وتحسِّنه إن كان يحتاج إلى تحسين, وتضيف إليه ما يزيده قوة وبهجة. فالأعمال العلمية لا تولد كاملة, بل كل باحث يدلي فيها بدلوه, ويضع فيها بذرة أو حبة, وكثيرًا ما تنبت الحبة ورقة, وكثيرًا ما تتطور الورقة إلى جذع, ثم إلى غصن, فأغصان, فشجرة, لها فروع وثمار, تتطور حتى تنضج وتؤتي أكلها.
غيرنا من الأمم الحية الناهضة يستفيد من كل جهد جاد, حتى يتكامل ويصبح شجرة ذات ثمار, وهذه الشجرة تتكامل مع أشجار أخرى, فتصبح حديقة, وهذه الحديقة تتكامل مع جملة من الحدائق جنات من جنان الأرض: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24-25].
هذا الرجل الذي أقدمه في أعلام الإسلام اليوم هو الدكتور محمود أبو السعود, أحد المصريين الحقوقيين, الذين حصلوا على الحقوق من جامعة القاهرة, في الثلاثينيات.
((تعرف على دعوة الإخوان مبكرًا, وتعرف على مؤسس الدعوة الأستاذ حسن البنا، فانضم إلى الجماعة, وكان له فيها نشاط بارز فقد كان من قادة جوالة الإخوان المسلمين, وعضوًا في المجلس الأعلى للجوالة, وكان له نشاطه مع الطلبة, ثم مع الشباب والمهنيين، وكان عضوًا للهيئة التأسيسية.
وبعد محنة الإخوان الأولى التي انتهت بمقتل حسن البنا, واعتقال الآخرين, غادر مصر إلى ليبيا أيام الملك الراحل السنوسي, حيث عمل مستشارًا له, وظل في ليبيا إلى أن وقع انقلاب القذافي سنة 1969م, فغادر ليبيا إلى باكستان, ليعمل في الجانب الاقتصادي, ثم غادرها إلى بريطانيا وأمريكا, حيث استقر بها حتى وفاته, وكان له نشاط كبير مجال الاقتصاد الإسلامي، بدأه بالكتابة بالمجلات وإلقاء المحاضرات وعقد الندوات, أبرز في ذلك كله وجه الاقتصاد الإسلامي وتميُّزه على الاقتصاد المعاصر الذي قام على الربا والاحتكار وسطوة رأس المال, ثم أصبح مستشارًا لكثير من البنوك التي كان له إسهام في تأسيسها, ووضع معالم الاقتصاد الإسلامي في معاملاتها، وأصبح لها عنوان خاص بها, فسميت: البنوك والمصارف الإسلامية, وهي البنوك التي لا تقوم على الفائدة, ولا تتعامل بها بيعًا ولا شراء.
حصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من كلية الاقتصاد بجامعة لندن, وعمل بعد ذلك في التدريس, ثم عُيِّن مستشارًا لجامعة الدول العربية, وتولَّى عدة مناصب لتطوير الأنظمة المصرفية في كل من: أفغانستان, ومصر, وليبيا, وماليزيا, وباكستان، والكويت.
درس الاقتصاد في جامعة ميسوري, وبعض الجامعات الأمريكية الأخرى, وأمضى جل حياته في تحصيل العلم والكتابة حول الأنظمة الاقتصادية والسياسة الإسلامية, وله العديد من المساهمات الصحفية.
وكان مقيمًا في مدينة (باناما), حيث ترأَّس المجلس الإسلامي منذ تأسيسه عام (1990م)، ودأب خلال إقامته في باناما على إلقاء الخطب والدروس والمواعظ))( ).
ولما أتيح لي زيارة أمريكا وكندا في أوائل أو أواسط السبعينيات (1974) من القرن العشرين, استجابة لطلبات أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين بالمعروف باسم: (M.S.A), وكثر ترددي على تلك البلاد وعلى منتدياتها هناك, ومنها: رابطة الطلبة العرب, كانت فرصة لقائي بالدكتور أبو السعود وإخوانه من أهل العلم الاجتماعيين وغيرهم أكثر, وكانت المناقشة في موضوعات الدعوة أكثر حرية.
ومن المناقشات الكبيرة التي حضرناها: ما دعانا إليه الإخوة في لوجانو بسويسرا: يوسف ندا, وغالب همت, ومن معهما من الأحبة, وحضرت مجموعة كبيرة من مصر والمغرب وبلاد الخليج, وبلاد العرب, للمناقشة في موضوعات كبيرة وجديدة, وتحتاج إلى مباحثة حرة, وآراء شجاعة, وعلاقات متينة, وكان من المشاركين د. محمود, وعدد من الإخوة في أمريكا, مثل د. جمال برزنجي, ود. هشام الطالبي, ود. إسماعيل الفاروقي, ود. عبد الحميد أبو سليمان, وعرفت الدكتور طه جابر العلواني لأول مرة, والأخ أحمد العسال, وكان للأخ محمود أبو السعود رأيه المحترم دائمًا, وافقناه أم خالفناه, وتعرف عليَّ أكثر في هذه اللقاءات.
وكان أبو السعود يُظهر ما عنده من فكر اقتصادي فيما يطرحه علميًّا على المؤسسات الاقتصادية التي تستجيب لدعوة الإسلام, وفيما يصدره من كتب قيمة, مثل: (خطوة رئيسية في الاقتصاد الإسلامي), وهو من الكتب الأساسية التي بينت المعالم الرئيسية لما ينادي به الإسلام من أصول ومقاصد وأحكام تحدد اتجاه الاقتصاد الإسلامي, وتفرُّده عن غيره من الاتجاهات والنظم العالمية, كالرأسمالية والاشتراكية أو الشيوعية.
وكذلك كتابه عن الزكاة (فقه الزكاة المعاصر), وفيه ناقش بعض الأفكار والموضوعات التي له فيها فقه خاص.
وكما ترجم كتاب (ريتشارد ميتشل) (الإخوان المسلمون)- وهي دراسة نال ميتشل بها شهادة الدكتوراه من جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 1960م- من الإنجليزية, ولصديقينا الأخ الكريم الأصيل الأستاذ صالح أبو رقيق تعليق عليها، يعلق فيه على أحداث الإخوان الكبيرة, بما يلقي عليها الضوء, ويصوِّب الاتجاه, ويعدل أحيانا المسار, ويقول ما يعتقد أنه الحق.
وقد كتب الأستاذ أبو السعود في مجلة (المسلمون) التي كان يصدرها الداعية المعروف الدكتور سعيد رمضان في القاهرة ثم في دمشق: عدة مقالات علمية, عن استغلال الأرض في الإسلام, ورأي فقيه الظاهرية الإمام أبي محمد بن حزم في استغلال هذه الأرض, وتحريمه لتجارة الأرض البيضاء بالنقود, إلى آخر ما ذكره ونشره, وبينه في كتاباته.
وقد اجتمعنا في مؤتمر (الاقتصاد الإسلامي)، الذي جمع عددا كبيرا من الشخصيات والفئات العاملة من أجل الوجود الإسلامي, والكيان الإسلامي, والأمة الإسلامية, وكان هذا اللقاء في البلاد المقدسة, بالقرب من الحرمين الشريفين: مكة والمدينة, وفي رحاب جامعة الملك عبد العزيز, التي تضم جامعة جدة, وكلية الشريعة, وكلية التربية في مكة, اللتين تطورتا وأصبحتا مع ما أنشئ من كليات: جامعة أم القرى.
وممن اجتمع في هذا المؤتمر وحوله نفر من قادة الإخوان المسلمين, ومن روادها الأوائل.
أولهم: الدكتور محمد أبو السعود الاقتصادي الإسلامي المعروف.
والثاني: هو الأستاذ هارون المجددي, ابن الأستاذ صادق المجددي, السفير الأفغاني لدى جمهورية مصر العربية, والذي طال بقاؤه في مصر, وكان معه فيها ابنه وبكره هارون, الذي عرف دعوة الإخوان في وقت مبكر في حياته, واندمج في نشاطهم, فغدا كأنه واحد منهم, نحسه مصريًّا, وما هو بمصري.
ولقد كان معي وأنا طالب في كلية أصول الدين بالأزهر, طالب زميل من أفغانستان, ابن عم لهذا السفير وأبنائه, هو صبغة الله المجددي, الذي ودعته حين سافر إلى أفغانستان, وقد أصبح أحد الأعضاء المؤسسين للقيادة الأفغانية العامة.
كان هارون رجلا مثقفا ثقافة إسلامية عامة, ويعرف ماذا ينبغي أن يكون عليه العامة, وخصوصًا في أيام المحن وأيام الأزمات, وهو رجل رابط الجأش, شجاع القلب, حصيف، سلس, غير معقد ولا مضطرب, ولهذا قبله الإخوان خارج مصر, وهم متناثرون في العالم, وولَّوْه رئاستهم في تلك الفترة.
وكانت هذه المجموعة التي تجتمع في ذلك المكان, وذلك الزمان:
الأستاذ صالح أبو رقيق, ومجددي وأبو السعود، والأستاذ صالح أخ قديم له صلة بالإمام البنا, وهو من عرب الصحراء الذين لهم صلة بليبيا وغيرها, وهو يعمل في الجامعة العربية من زمن بعيد, وقد حوكم ووضع في السجن, حتى هيأ الله له الخروج, وعاد إلى مكانه في الجامعة. وقد هيأ الله لي الظروف لألقاه في مقره بالجامعة, وكان يعرف الدكتور أبو السعود, والأستاذ هارون المجددي, وقد اتفق الأستاذان أبو السعود والمجددي على أن يترجم أبو السعود كتاب ميتشل عن الإخوان إلى العربية, ويعقب الأستاذ أبو رقيق على النواحي الحساسة, التي يعرف أبو رقيق من خباياها وحقائقها ما لا يعرفه الكاتب, فاتفقا على أن يملأها أبو رقيق من معلوماته المحفوظة والمكتوبة, التي لم يطلع عليها المؤلف, وبذلك كانت ترجمة الكتاب بهذه الطريقة نافعة لمن يقرؤه ليعرف: أين هي الحقيقة؟
ولا بد لي أن أرجع إلى ما كتبت في مذكراتي (ابن القرية والكتاب: ملامح سيرة ومسيرة) عن هؤلاء الإخوة الثلاثة وما طلبوه مني, وما انتهى إليه الوضع, فأعتقد أن فيه خلاصة كافية. قلت:
((اجتماعي تاريخي للإخوان معي:
وكان من أهم الأحداث التي وقعت لي خلال هذا المؤتمر: أن التقى بي ثلاثة من كبار الإخوان، هم الأستاذ هارون المجددي، الذي كان مسؤولًا عن الإخوان المصريين في الخارج أيام محنة 1965م وأعقابها، والأستاذ صالح أبو رُقَيِّق عضو مكتب الإرشاد، وأحد القيادات التاريخية في الإخوان، والذي كان قريبًا من الأستاذ الهضيبي، والأستاذ محمود أبو السعود عضو الهيئة التأسيسية، وأحد الإخوان القدامى، والاقتصادي الإسلامي البارز، وقد عرضوا عليَّ أمرًا في غاية الأهمية، قالوا: إن الأستاذ الهضيبي المرشد الثاني قد انتقل إلى رحمة الله تعالى، وأصبحت الجماعة في فراغ من القيادة، والإخوان في هذه المرحلة في حاجة إلى قيادة شابة واعية مؤمنة، تجمع بين فقه الشرع، وفقه العصر، والإخلاص للدعوة، وتجتمع عليها كلمة الإخوان، ولم نجد أحدًا تجتمع فيه هذه الصفات غيرك، ونحن نتحدث بلسان مَن وراءنا من الإخوان، وهم كثيرون, فإن كنت حريصًا على مصلحة الدعوة التي نشأت فيها, وأفنيت زهرة شبابك في إعزازها ونشرها والذود عنها, حريصًا على جمع كلمة أبنائها, حريصًا على أن تستمر الدعوة وتتقدم إلى الأمام بوعي وبصيرة وثبات وقوة, فتوكل على الله, واقبل هذا الأمر, محتسبًا عند الله, مبتغيًا الأجر منه, لتكمل الطريق الذي بدأه حسن البنا, وخلفه حسن الهضيبي!
واستمر الإخوة يتحدثون بعضهم وراء بعض، ليقنعوني بقبول ما عرضوه عليَّ، وأن في ذلك الخير للإسلام ودعوته وأمته إن شاء الله, وإنما لكل امرئ ما نوى.
قلت للإخوة: إن ما عرضتموه علي ليس بالأمر الهين، بل هو أمر جلل، وهو قيادة دعوة عالمية في ظروف غير مواتية, وقد فاجأتموني بهذا الطلب, الذي ما فكرت فيه قط, فما كنت في الجماعة إلا جنديًّا من جنودها, لم أتطلع يومًا إلى زمام القيادة, لتكون في يدي, وهذه منة من الله عليَّ, أني لست من الذين يجرون خلف سراب الزعامة, وكأنها طبيعة فيَّ لا متكلفة ولا مفتعلة.
قال الإخوة: وهذا مما يزيدنا تمسكًا بك، وإصرارًا عليك، وأنت تعرف الحديث الذي يقول ما معناه: “إن أعطيتها بغير سؤال أعنت عليها، وإن أخذتها بسؤال وكلت إليها”.
قلت لهم: أعطوني مهلة أفكر فيها على مهل، أشاور نفسي، وأراجع حساباتي، وأستخير ربي، وأستشير بعض إخواني، ثم أرد عليكم. وإن كنت مبدئيًّا لا أراني أهلًا لهذا الأمر.
قالوا: نعطيك شهرين للتفكير والمراجعة.
قلت: لا بأس بذلك.
قالوا: وليكن ردك على الأستاذ أبو السعود؛ لأنه يعيش في أمريكا، فالرد عليه أضمن وأحوط من الرد على من يعيشون داخل مصر.
اعتذار عن عدم قبولي منصب المرشد العام:
وبعد طول تفكير، واستخارة، واستشارة، على ما جاء في الأثر: “ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار”. وإن كنت لم أستشر إلا قليلين جدا، لأن جُل من أستشيرهم يحثونني على القبول، ولكني لم ينشرح صدري لهذا الأمر وكتبت إلى الدكتور أبو السعود الرسالة التالية:
أخي الدكتور محمود أبو السعود حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(وبعد)
فلقد كانت فرصة طيبة تلك التي جمعتنا في ظل المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في رحاب مكة المكرمة، وبجوار بيت الله الحرام، وكانت أياما مباركة تلك التي سعدت فيها بلقائكم بعد غيبة أكثر من عشرين عاما، افترقت فيها الأبدان، ولم تفترق القلوب.
وأسأل الله تعالى أن يديم هذه الأخوة التي انعقدت أواصرها على دينه وفي سبيله، حتى يظلنا بها في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
هذا وقد فكرتُ طويلًا فيما عرضتم عليَّ عند لقائنا ذاك، وقلبت الأمر على وجوهه، كما استخرت الله تعالى في الأمر، وتبين لي بعد ذلك ما سبق أن أبديته لكم لأول وهلة، وهو أني لست الرجل المنتظر للمسؤولية التي تحدثتَ عنها، ولا أرى نفسي أهلا للقيام بها. ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
أخي، إن الله تعالى قد وزع المواهب والقدرات على عباده، فمنهم من فتح له في مجال العلم، ومنهم من فتح له في مجال السياسة، ومنهم من فتح له في مجال الإدارة، ومنهم من جمع له أكثر من موهبة، وهو سبحانه يختص برحمته من يشاء، وأحسب أني- إن كان لي موهبة- فهي في المجال الأول، والحمد لله على ذلك أولا وآخرا، وقد قيل: من بورك له في شيء فليلزمه، وذلك ليكون أقدر على إتقانه والتفوق فيه.
وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم خصائص أصحابه، فوضع كلًّا في المكان اللائق به، فلم يضع حسَّانًا ولا أبا هريرة في مكان خالد أو زيد بن حارثة، ولم يضع أبا ذر في مكان عمرو بن العاص، وإن كان أبو ذر أحبَّ إليه، وأعزَّ عليه، وآثر لديه.
ولما سأله أبو ذر أن يوليه على بعض أعماله، قال له بصراحة: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها( ).
فهذا توجيهه صلى الله عليه وسلم لأبي ذر، وهو الذي قال فيه: “ما أقلَّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبي ذر”( ).
إن دعوتنا- وان كانت دينية المصدر والغاية- فهي سياسية من حيث الوسيلة والمواجهة، ولذا تحتاج إلى رجل يعرف السياسة وألاعيبها وأغوارها، بجوار معرفته للدين ومصادره، وأنا لا أحسن هذا الفن، إلا في خطوطه العامة، ولم أتمرس به، ولا أظن طبيعتي تصلح له. ولا أرضى لنفسي- ولا ترضى لي أنت أيضًا- أن أكون جهازا في أيدي آخرين، يحركونه فيتحرك، ويوقفونه فيتوقف!
وفضلًا عن هذا كله، فإن هذه الدعوة الربانية التي جعلت شعارها من أول يوم (الله غايتنا) تحتاج أن يكون على قمتها رجل غامر الروحانية، عامر القلب بالخشية والتقوى، متألق الجوانح بمعاني اليقين والإنابة، ليستطيع أن يفيض من قلبه على قلوب من حوله، وأراني دون هذا الأفق بمراحل، وفاقد الشيء لا يعطيه.
لا تظن يا أخي أن ما أقوله لك من باب التواضع أو هضم النفس، فإنما هو من باب تقرير الحقائق، ووصف الأشياء بما هي عليه، وقديما قالوا: من سعادة جَدِّك، وقوفك عند حدك.
وقد تقول: إن تقدير كفايتك وأهليتك لعمل ما ليس من شأنك أنت، وإنما هو شأن أهل الحل والعقد الذين وكل إليهم الاختيار، وهم الذين يقولون: هذا يصلح، وهذا لا يصلح، فإذا رشَّحُوك فهم أعرف بك، وأقدر على تقويمك، وأقول: إن كل إنسان أدرى بعيوب نفسه، ونقاط ضعفه، والناس تحكم بما يطفو على السطح لا بما يرسب في الأعماق.
ومن النعم التي أحمد الله عليها أنه رزقني السلامة من الانتفاخ الكاذب، والغرور بالباطل، ولعل هذا هو فضلي الوحيد: أن مرآتي لم تصدأ ولم تتغير حتى أرى فيها وجها غير وجهي، أو شخصا غير شخصي، ولهذا أرى نفسي على حقيقتها بضعفها وغفلاتها وبمواهبها المحدودة، دون تضخيم أو تزييف.
وقد قال ابن عطاء في حكمه: الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذامًّا لنفسك لما تستيقنه منها. أجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس!
إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلًا بالعلم وبالبحث، لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله.
وقد أتيح لي الآن- من خلال موقعي ومعرفة الناس بي- أن أتصل بالجمعيات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى، ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فرضت عليَّ العزلة مدة طويلة في مكان قصيٍّ منعزل.
إن جماعتنا لم تخل- ولن تخلو إن شاء الله- من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا (القوي الأمين) أو (الحفيظ العليم) في صفوف الحركة، بعون الله.
والله يتولى الجماعة ويرعاها بعينه التي لا تنام، وهو ولي الصالحين.
أخوكم
يوسف القرضاوي
وقد علق الأستاذ محمود أبو السعود برسالة، جاء فيها:
الأخ الكريم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي،
وعليكم من الله السلام والرحمة والبركات، أعزك الله، ونفعك ونفع بك، وأعانك على ما فرغت له نفسك من خير وعلم، وجعلك أبدًا مهوَى القلوب، ومقصد الحق، وعقد واسطة الأخلاء.
يا أخي: “لقد أسكتَتْ جهيزةُ قولَ كل خطيب” ولم يعد لي ما أقول, وما حدثتك فيه أمر تمنَّاه غيري كما تمنيته، أمَا وقد قطعتَ فيه برأي، فالخيرة ما اختاره الله. وإني لأعلم- كما تعلم أنت- أن ليس لما دعوناك إليه من يرتضيه الخاص والعام، ولا من أوتي ما أوتيته من تجرد وفضل، وعلم وخلق، لا أمتدحك سعيا وراء مغنم، وإنما هكذا عهدناك وخبرناك. والأغلب أن يظل الوضع الراهن كما هو, حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. على كل حال يا أخي شكر الله لك، وجزاك بنيتك أضعاف ما يجزيك بحسن عملك.
الفقير إلى ربه
محمود أبو السعود
20 ربيع أول سنة 1396
20/4/1976))( ).
ما كتبت في مذكراتي عن اجتماع لوجانو :
ولقد رجعت إلى مذكراتي (ابن القرية والكتاب) لأطالع ما كتبته عن اجتماع لوجانو فوجدت فيه هذه الكلمات:
في صيف سنة 1977: تنادت مجموعة من المثقفين الإسلاميين المعنيين بأمر الدعوة والفكر، في ضوء مقتضيات العصر وتطوراته التي لا تتوقف ولا تتناهى، وفي إطار الثوابت الشرعية، التي لا يجوز الخروج عليها وإن تغير الزمان والمكان والإنسان.
تنادت هذه المجموعة بضرورة التلاقي لعدة أيام للحوار والمراجعة حول قضايا حية وجوهرية يدور حولها الجدل في كثير من الأقطار، ولدى كثير من الناس، وتستحق من أهل العلم والفكر والدعوة: البحث الدقيق، والفقه العميق، والنقاش الطويل، حتى تنضج حولها رؤية مستبصرة، وفكرة جلية، يمكن أن تنبثق منها أحكام شرعية اجتهادية لها اعتبارها وفق الأصول المتبعة، والقواعد المرعية، في الاستنباط والاجتهاد، تتحدد على ضوئها مواقف عملية، وتنشأ على أساسها هياكل ومؤسسات فكرية ودعوية وتربوية.
وكان من أهم هذه القضايا: (أسلمة( ) المعرفة) أو (إسلامية المعرفة) ولا سيما بالنسبة للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وأهمية هذا الموضوع وضرورة الإعداد له، وبذل الجهود العلمية من أهل الاختصاص، لإيجاد علوم إنسانية مؤسَّسة على منظور إسلامي.
كما بحثنا قضية (الوجود الإسلامي) في الغرب، في أوربا وأمريكا، وضرورة توطينه، وأهمية الربط بين المسلمين، وإزالة الخلافات والفجوات القائمة بينهم، ووجوب إدماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، وخروجهم من صومعة العزلة والتقوقع إلى باحة التفاعل والتأثير والتأثر، مع الاحتفاظ بالعقيدة والهوية الإسلامية، وضرورة تبني رؤية وسطية مستنيرة للإسلام، تقوم على التسامح لا التعصب، والانفتاح لا الانغلاق، والحوار لا الرفض، والاعتدال لا الغلو والتسيُّب.
وكان الذين فكروا في هذه اللقاء، ودعوا إليه، هم الإخوة في أمريكا، الذين كانوا في حالة نمو وتطور تسمح لهم بهذا النوع من التفكير (الإستراتيجي) والرؤية المستقبلية، وبخاصة (الجمعية الثقافية) التي كان يرأسها في ذلك الوقت- على ما أذكر- الدكتور محمود أبو السعود، ومن حوله الإخوة الذين قادوا أو يقودون (اتحاد الطلبة المسلمين) الذي انبثق عنه عدد من المؤسسات المهمة، مثل: الجمعية الطبية الإسلامية، وجمعية العلماء الاجتماعيين، وجمعية العلماء والمهندسين، ومؤسسة الوقف الإسلامي وغيرها.
وكانت (لوجانو) في سويسرا- المنطقة الإيطالية منها- هي المكان المختار للقاء، حيث يسكن في هذه المنطقة الأخوان الكريمان: يوسف ندا، وغالب همَّت، اللذان وفرا للمجموعة المنتقاة: المكان الملائم، والعون الملائم، والجو الملائم.
وقد حضر هذه الندوة أو هذا اللقاء عدد من الإخوة لم أعد أذكرهم كلهم، فاختلاف النهار والليل ينسي، كما قال شوقي رحمه الله. ولا أذكر أيضا كم كانوا. ولكني أذكر منهم: الدكتور الشهيد إسماعيل الفاروقي العالم الاجتماعي رحمه الله، والدكتور محمود أبو السعود العالم الاقتصادي رحمه الله، والدكتور خورشيد أحمد، والدكتور أحمد العسال، والدكتور التيجاني أبو غديري، والدكتور عبد الحميد أبو سليمان، والدكتور أحمد التوتنجي، والدكتور أحد القاضي، والدكتور جمال برزنجي، والدكتور هشام الطالب، والدكتور منذر قحف، والدكتور محمود رشدان، والدكتور رشيد بن عيسى تلميذ مالك بن نبي بالجزائر، والدكتور طه جابر العلواني، وكانت هذه أول مرة ألقاه فيها وأتعرف عليه. وأحسب أنه كان معنا المفكر السوري المعروف الأستاذ محمد المبارك.
وقد بقينا نحو ثلاثة أيام على ما أذكر في (لوجانو) انتهينا فيها إلى توصيات التقت عليها المجموعة المشتركة في الندوة، كان لها أثرها وصداها في العمل الدعوي والفكري فيما بعد.
وكان من ثمار هذا اللقاء: التفكير في إنشاء (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) الذي أسس في واشنطن برئاسة د.عبد الحميد أبو سليمان، ثم د. العلواني، وكان له فرع ناشط في القاهرة، قام عليه الدكتور جمال عطية لعدة سنوات)).
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)