د. صفية الودغيري تكتب: محن العلماء
قد يبتلي العالم ويمتحن امتحانًا شديدًا لأيِّ سبب من أسباب الدُّنيا الحمَّالة للخير والشَّر، ولاختلاف طبائع الناس في السلوك والمعاملات، وما يختص ببيئتهم وواقع حياتهم في زمن ظهوره وأوان سطوع شمسه، فهم بين محِبٍّ مريدٍ لمجلس علمه، ومقبِلٍ على خُطبه ودُروسه، وبين كارِهٍ مُبغِضٍ لسمته وحسن سيرته وسلوكه، وحاسدٍ ناقِمٍ على ما آتاه الله من عطاياه وفضائله، وما أسبغ عليه من نعمه وأرزاقه، وعلوِّ شأنه ومكانته، وذيوع صيته وشهرته، أو متعصِّبٍ جاهل بفضله وعِلمه، ومخالفٍ لمذهبه ومنهجه، ومنكِرٍ لرأي قال به أو حُكم حكم به في مسألة من مسائل العلم، أو فتوى أفتى بها في قضية من قضايا الدين أو فيما يستجِدُّ من الأمور والنَّوازل..
يقول الحق سبحانه وتعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) سورة العنكبوت.
ويقول تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) ) سورة البقرة.
ويزخر تراثنا التاريخي وكتب التراجم وسِيَر الأعلام بمادة ثرية في ذكر الوقائع والأحداث، وأخبار من نزلت بساحتهم الشَّدائد والمحن، وألمَّت بهم المُلمَّات والفتن، وأحاطت بهم الابتلاءات الشَّديدة والمصائب العظيمة، وهم من أخيار الناس ومن العلماء الفضلاء والدُّعاة الشُّرفاء، لأنهم كانوا لا ينفخون السُّموم في أبواق الباطل، ولا يزيِّنون الشَّهوات في أعين من يلهثون خلفها، ولأنهم من عظماء الرِّجال وأبطال هذه الأمة، أو لأنّ ظهورهم وانبعاثهم في زمن وتاريخ قد سادت فيه الفوضى، وكثُر فيه الاستبداد والعنف، وانقطع فيه حبل الأمن والسِّلم، فصار وجودهم منبوذا، وصاروا يُتَخطَّفون بأيدي الأعادي والظَّالمين، ولأن أبناء عصرهم ومجتمعهم لم يكونوا على قدر تحمُّل واجب الرِّعاية والمسؤولية، ومناط التَّكليف الذي يلزمهم إتعاب خواطرهم وإيقاظ ضمائرهم، وبعث قرائح أذهانهم، وتشغيل ملكة عقولهم لاستقبال أفكارهم واحتواء آرائهم النيِّرة، واستخراج الفوائد من خُطبهم ودُروسهم العلمية، والانتفاع بخلاصتها واجتناء ثمرتها، أو لأنهم لم يكونوا على وعي تام وإدراك واسع بعظمة رسالتهم، وقيمة ما يحملونه من مشارق العلوم والمعارف، والأفكار المضيئة التي تستحِقُّ رفع درجاتهم وإكرام وِفادتهم، أو لما كانوا عليه من جهل وضلال وعمى مطبق على عقولهم، انحرف بهم عن انتهاج المنهج الصحيح في الفهم والاعتقاد، وصرفهم عن امتلاك أسباب الشرح والتحليل، فصاروا لا يزِنون ما يستقبلونه بميزان المنطق والعقل السَّليم، ولا بميزان الدِّين والاحتكام إلى سياسته الرَّشيدة، ليميِّزوا بين الهدى والضَّلال، ويفرِّقوا بين الحقِّ والباطل، ويؤمنوا بسِعَة الاختلاف، ويفسحوا صدورهم وعقولهم لحرية الفكر المنضبط بضوابط العِلم والشَّرع..
وهذا حال علمائنا اليوم كما كان حال علمائنا بالأمس، فالجهل إذا قوي في مجتمع من المجتمعات أو في زمن من الأزمنة المتعاقبة علينا، ينكِّس راية العِلم ويستبدُّ بأهله، ولا ترتفع كلمتهم إلا بعد أن يذوقوا ألوانا من العذاب بأيدي الظالمين، ويُمْتحنوا امتحانا عسيرا، ويتعَرَّضوا للإذلال والتَّخويف والتَّنكيل من أعوان الجور والبطش، ممَّن امتهنوا تخريج العبيد الضُّعفاء، لا الأحرار الأقوياء، وتخريج الأشقياء المكدودين المقهورين، لا السُّعداء المنعَّمين المطمئنِّين، وإعداد التُّهم والأباطيل والأراجيف لإلحاقها بالصَّادقين المخلصين، وأصحاب كلِّ فكر حر، وكل إصلاح وتجديد وانبعاث حقيقي، للطَّعن في دينهم وعقيدتهم، والإساءة إلى شرفهم وعرضهم وكرامتهم، وخرم مروءتهم بما ينسبون إليهم من فساد، وانحلال الطَّوية وسوء الأخلاق، أو لإهدار دمهم بسبب كلمة حق أو رسالة بلَّغوا أمانتها التي ائتمنهم الله على حفظها وأدائها بصدق وإخلاص.
وسأختار -إن شاء الله تعالى- من هؤلاء الصالحين الصابرين من يُلْتمس بذكر محنهم وابتلاءاتهم أن يكونوا أسوة وعزاء لكلِّ ممتحن في الصَّبر على الشَّدائد وتحمُّل الأذى، دفاعا عن عقيدتهم وحفظًا لكرامتهم، وصَوْنًا لشرف رسالتهم وأمانة كلمتهم، فنالوا بذاك العمل الجليل خلود ذكرهم وخلود آثارهم، وصاروا بتضحياتهم مُثُلاً سامية للاقتداء والاتِّباع، ويحسن في هذا المقام أن أردد ما قاله أبو العرب في كتابه “المحن”: “وأنا أذكر بعد هذا من ابتُلِي من خِيار هذه الأمة، وأهل العلم وأشراف الناس، بأن حُبِس أو ضُرِب، أو تُهدِّد أو امْتُحِن، ليكون ذلك عزاءً لمن ابتُلِي بمثل ما ابتُلِي به الصالحون من صدر هذه الأمة”.
(المصدر: هوية بريس)