د. تيسير التميمي يكتب: وجوب إفشال المؤامرة الصهيونية الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية
بعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية عن مؤامرتها لتصفية القضية الفلسطينية لصالح الكيان الصهيوني وجب على الشعب الفلسطيني بكل فصائله وقواه الحية وعلى كل الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم العمل على إفشالها والعمل على تحقيق آمال الشعب الفلسطيني في طرد الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال وإقامة دولته كاملة السيادة على أرضه وسائر تراب وطنه وأن تكون عاصمتها مدينة القدس المباركة.
لا يخفى على أحد أن التحالف التاريخي بين إسرائيل وأمريكا والدعم الأمريكي الدائم لإسرائيل عميق ومتين وليس بجديد، فعلى سبيل المثال لا الحصر دعمت أمريكا وعد بلفور عام 1917 في عهد رئيسها ويلسون المنسوب له تمسكه بحقوق الشعوب الخاضعة للاستعمار ومدافعته عنها، بل إن أكبر قضاتها هو الذي عدَّل وقرَّر الصيغة النهائية لوعد بلفور بما يرضي اليهود ويحقق أطماعهم في فلسطين. وفرضت أمريكا قرار تقسيم فلسطين على مجلس الأمن الدولي عام 1947 في عهد ترومان أيضاً برعاية من أكبر قضاتها في ذلك الحين، ولم تكتفِ بذلك، بل أصدرت بياناً بحماية إسرائيل بعد قيامها، ودعمت أمريكا العدوان الإسرائيلي على فلسطين والدول العربية عام 1967 في عهد جونسون، وأمدتها بالمال والسلاح والمؤازرة السياسية في كل المحافل الدولية وبالأخص في مجلس الأمن الدولي باستخدام حق النقض ضد أي قرار ينتقد إسرائيل أو يدين إجراءاتها التعسفية ضد مدينة القدس وغيرها.
على مدار الأعوام الماضية كانت الولايات المتحدة ـ كغيرها من دول العالم ـ ترفض رسمياً الاعتراف بقرار ضم مدينة القدس المحتلة، وعندما تبنى الكونغرس الأمريكي قراراً في العام 1995 بنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس المحتلة نتيجة تأثير قوى الضغط الصهيونية، لكن تم تجميد هذا القرار من قبل الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين، ويعود السبب في ذلك إلى الثغرة القانونية في القرار والتي تتمثل في النص على جواز تأجيل تنفيذ القرار لعدة مرات بهدف تحقيق المصلحة الأمنية للدولة، وبذلك أصبح القرار بيد الرئيس الأمريكي الذي يستخدم سلطاته فيؤجل القرار كل ستة شهور لأمور تتعلق بالأمن القومي، وللحرص على مصالح الولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي، وأول من اتخذ هذا القرار هو رونالد ريغان، ثم تبعه من بعده من الرؤساء.
نقلت أمريكا سفارتها إلى مدينة القدس المحتلة، واعترفت بشرعية المستوطنات، واتخذت قرارات أخرى ضد الفلسطينيين، ومن كان سيمنعها؟ هل هناك تأثير دولي يعيقها؟ هل الدول الإسلامية أو العربية في موقف يُمْكِنُها معه اتخاذ أي قرار يعارض الموقف الأمريكي؟ هذه الدول التي كان زعماؤها في الماضي يلوّحون بقطع كل العلاقات مع أية دولة تقدم على اتخاذ هذه الخطوة. لقد اهتز العالمان العربي والإسلامي وانتفضت شعوبهما يوم إحراق المسجد الأقصى المبارك على يد أحد الصهاينة عام ١٩٦٩، إلا أن هذا العالم لا يصنع اليوم شيئاً لمواجهة المؤامرات الفعلية ضد المسجد الأقصى المبارك وضد مدينة القدس المحتلة، بل إن كثيراً من أبناء الأمة يتماهون مع صفقة القرن الخبيثة التي تهدف إلى تصفية قضيتنا الفلسطينية العادلة.
يدرك أبناء الأمة جميعاً أن مدينة القدس المباركة ليست للفلسطينيين وحدهم، بل لكل المسلمين أينما كانوا، فقضيتها قضيتهم، وعلموا أيضاً على مدار تاريخهم العريق ما تمثله مدينة القدس المباركة في عقيدتهم؛ فحرسوها وسيَّجُوها بأرواحهم ورووها بدمائهم، فما تعرضت يوماً لغزو أو احتلال أو مساس إلاَّ هبَّو لتحريرها ورد العدوان عنها، لأن التخلي عنها تفريط في العقيدة، وطعنٌ لهم في عزتهم وكرامتهم ومظهرٌ لهوانهم، فكانت دوماً من أبرز عوامل وحدة الأمة.
إذا كانت هذه مكانة القدس عند المسلمين كافة فما هي عند الفلسطينيين؟ إنها عاصمتهم الوطنية والسياسية والروحية والدينية والقانونية على المستوى الدولي، وها هم يقاومون المحتل وحدهم نيابة عن الأمة جمعاء بصدورهم العارية دفاعاً عنها، ويبذلون أرواحهم ودماءهم الزكية حفاظاً على هويتها العربية والإسلامية، ويجاهدون بكل السبل المشروعة للوصول إلى حقوقهم المكفولة في الشرائع السماوية والمواثيق والقرارات الدولية في التحرر من الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال بإقامة دولتهم ذات السيادة الكاملة على تراب أرضهم وعاصمتها الأبدية مدينة القدس المباركة.
وهذا حقهم، فمن المعلوم قانونياً في عالم السياسة أن العاصمة عنوان سيادة الدولة ونظامها ومركز مؤسساتها، فالعاصمة في اللغة تعني الحامية، إذن فبقاء العاصمة وثباتها عنوان بقاء الدولة وصمودها، وسقوطها يعني سقوط النظام وانهيار الدولة، ففي ثورات الشعوب وفي الاحتلالات وفي حروب التحرير التي تعلمناها في التاريخ القديم والحديث والمعاصر كان التركيز الأكبر على العاصمة، لأنها من أكبر رموز الدولة والسلطة والسياسة والسيادة، وسقوطها بيد الأعداء إيذان بسقوط الدولة وانهيار النظام، فكيف لا نتحرك لحماية عاصمتنا ! كيف لا نهب للذود عنها ! وهل نستحقها بعد ذلك ! وهل من وزن لأية دولة بغير عاصمتها !
أما هذا الوهن والضعف الذي أصاب الأمة فهو ما حذرنا منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله {يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت} رواه أبو داود، لكن سلطات الاحتلال الإسرائيلية تحسن استغلال هذه الحالة المتردية التي بلغتها الأمة، فتصدر ما تشاء من القرارت الباطلة قانوناً، وتتخذ ما تشاء من الخطوات والإجراءات القمعية غير آبهة بأحد، وتتطاول على الدول الأخرى دون حسيب أو رقيب، ففي يوم صدور قرار مجلس الأمن الدولي بإدانة الاستيطان قبل أكثر من سنتين قام نتانياهو بتوبيخ الدول التي أيدت القرار وبمعاقبة الدول التي تمسكت بمناقشته. وقرر وقف مساعداته للسنغال مثلاً وألغى زيارة ممثلي مجلس الأمن الرسمية المقررة لإسرائيل، بل عاقب منظمة الأمم المتحدة ذاتها.
إن القدس بموجب ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن العديدة هي أرض محتلة، وإن كل ما تقوم به الإدارة الأمريكية من دعمها الكامل لسلطات الاحتلال في شتى المجالات والميادين، وإعلانها لما يسمى بصفقة القرن لا يعني فقط اعتراف أمريكا رسمياً بأن القدس عاصمة الدولة اليهودية فهذا حاصل منذ عقود، بل يعني أن أمريكا فقدت مركزها كوسيط نزيه في القضية الفلسطينية وأنها أصبحت خصماً فيها للفلسطينيين وللأمة كلها.
بل يعني ما هو أكبر من ذلك، يعني أن أمريكا ذاتها قد تسببت في انهيار الشرعية الدولية بشكل رسمي، وتكون بذلك أيضاً قد قضت على المرجعية الدولية للنزاعات في العالم وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والنزاع القائم فيها بين المحتلين الغاصبين والشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال، وتكون بذلك قد وسعت المواجهة العربية الإسلامية في هذه القضية العادلة لتشمل دولتها وكيانها، ولعل من أهم نتائجها إعادة العمق العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية.
وهنا أقول كلمة لأمتنا كلها: إذا أردنا مدينة القدس المحتلة حرة عربية إسلامية كما كانت وكما ستكون، وإذا أردنا فلسطين العربية الإسلامية بكل أراضيها التي هي وقف إسلامي خالص للأمة كلها؛ فليس من خيار أمامنا جميعاً إلا الوحدة الحقيقية الشاملة، ليس من سبيل أمامنا إلا أن يعلن أبناء الأمة جميعاً حكاماً وشعوباً وأفراداً وجماعات صراحة قولاً وفعلاً أنهم لا يقبلون هذه الاستهانة بكرامتهم والعدوان على أرضهم ومدينتهم وعقيدتهم، ولا يقبلون هذا الاستخفاف بوجودهم وحقوقهم وهويتهم.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)