بقلم د. الصادق الغرياني
(أنتمْ أدرَى بشؤونِ دنياكمْ)
هذه هي الشبهة الثانية، للقائلينَ بأنّ علماءَ الشريعةِ أقوالُهم في غيرِ العباداتِ ليست فتاوَى، بل آراء كأقوالِ غيرِهم؛ لأنّ ما يتعلقُ بأمورِ الدنيا هو مصالحُ ومفاسدُ، تتبعُ المصلحةَ حيثُما وُجدت، ولا تحتاجُ إلى علماء بالشريعةِ ليقولُوا فيها: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ.
قالوا: بدليلِ قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهلِ المدينة، في مسألةِ تأبيرِ النخلِ: (أنتمْ أدرَى بشُؤونِ دنياكُم)، فليس في مثلِ هذا الأمرِ مِن شؤونِ الدنيا حلالٌ وحرامٌ.
فهل صحيحٌ أنّ ما عَدَا العبادات مِن شؤونِ الناسِ كلّها تحكمُهُ المصلحةُ والمفسدةُ، التي يُقدّرها أهلُ الخبرةِ، كما قَدّروها في تأبيرِ النخلِ، وأن هذا الحديثَ في تأبيرِ النخلِ قاعدةٌ عامةٌ، في كلِّ ما ينزلُ بالناسِ في الحياة العامة؟
للجوابِ على ذلك نحتاجُ إلى التذكيرِ بالمسلَّماتِ الآتية:
مِن المعلوم أن مصادرَ التشريعَ هيَ الكتابُ العزيزُ، والسنةُ المطهرةُ، والإجماعُ، وهذه الثلاثةُ مجمَعٌ عليها مِن المسلمين، ثم القياس، وهو أيضًا متفقٌ عليه، ولم يخالفْ فيه إلّا أهلُ الظاهرِ، وبعد ذلكَ تأتي مصادرُ أخرى، ومنها المصلحةُ، التي بعضُها يدخلُ في بابِ القياس، وبعضُها يتعلقُ بالمصلحةِ المرسَلَةِ.
ومعلومٌ أيضًا أنّ جميعَ المكلَّفين – جماعةً كانوا أو حزبًا أو حكومةً أو مجلسًا أو فردًا تاجرًا أو سائقَ سيارةٍ أو صانعًا أو بنَّاء أو رئيسَ حكومةٍ أو شيخًا – جميعُهم ما دامُوا مكلَّفينَ، أفعالُهم وتصرفاتُهم لابدَّ أنْ يكونَ لها حكمٌ شرعيّ، ولا تخرج أبدًا عن الأحكامِ الشرعيةِ الخمسة – التي مرَّ ذكرُها – بحالٍ من الأحوالِ، فقد اتفقتْ كلمةُ الأصوليينَ على تعريفِ الحكمِ الشرعيّ، بأنهُ خطابُ اللهِ المتعلقُ بأفعالِ المكلَّفين، بالاقتضاءِ أو التخييرِ أو الوضعِ، والمرادُ بخطابِ الله “هو وحيُه في الكتابِ والسنةِ”، وفي الأدلةِ التي دلَّ الكتابُ والسنةُ على أنّها حجةٌ؛ كالإجماعِ والقياسِ، أي أنَّ الأحكامَ الخمسةَ لأفعالِ المكلَّفين – عباداتٍ أو عاداتٍ – مصدرُها الوحيدُ هو خطابُ الله، الذي سبقَ بيانُه، فكلُّ مكلَّف في الدنيا، على ظهرِ الأرضِ أو على ظهرِ القمرِ؛ فعلُه لابدّ أن يكونَ واجبًا أو حرامًا أو مندوبًا أو مكروها أو مباحًا، ومصدرُ الحكمِ عليه هو خطابُ الله، أي الدليلُ الشرعيّ، على الترتيب السابقِ: الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والقياسُ والمصلحةُ.
إذا كانَ الأمرُ كذلك؛ فكيفَ نوفِّق بينَ هذا، وبينَ القولِ بأنّ أمورَ الدنيا الأحكامُ عليها متغيرةٌ، وتتْبعُ المصلحةَ، كما مرّ عن الأئمةِ فيما نُشر من قبل.
الكلامُ على المصلحةِ في هذا السياقِ، نحتاجُ معه إلى التفريقِ بين أمرينِ؛ المصلحة بالمعنى العامّ، التي يُقصد بها أنّ أحكام الشريعةِ كلّها أتتْ بتحقيقِ مصالحِ العبادِ، ورفعِ الحرجِ عنهم، وبما يعودُ عليهم بالنفعِ في العاجلِ والآجلِ، فهذا معنًى للمصلحةِ لاشكَّ أنّه واقعٌ.
فإنّ جميعَ أحكام الشريعة، مِن أولِها إلى آخرِها، بما فيها العباداتُ والغيبياتُ، كلّها مبنيةٌ على المصالحِ بهذا المعنَى، وهذا هو الذي عناه الشيخُ ابنُ القيِّمِ – رحمة الله عليه – عندما قال: “الشريعة عدلٌ كلّها ورحمةٌ كلُّها وصلاحٌ كلّها وحكمةٌ كلُّها، فما خرجَ منها مِن العدلِ إلى الجورِ، ومِن الرحمةِ إلى ضدِّها، ومِن الصلاحِ إلى الفسادِ، ومِن الحكمةِ إلى العبثِ، فليسَ مِن الشريعةِ في شيءٍ”.
فالمصلحةُ بهذا المعنى العامِّ هي مقصدٌ وغايةٌ وحكمةٌ لجميعِ الأحكامِ الشرعيةِ – عبادات وعادات – لكن ليستْ هي المصلحة التي يذكرها العلماء عندَ تعداد مصادرِ التشريعِ.
فعندما يقولون: هذه المسألةُ جائزةٌ للمصلحةِ، أو ممنوعةٌ لأنّ المصلحةَ فيها غيرُ معتبرةٍ، فهذا مصطلحٌ آخرُ خاصّ.
والتفريقُ بين المصلحَتينِ بالمعنى العام والخاصِّ في غايةِ الأهمية، وبدونِهِ يقعُ الخلطُ والتلبيس، فالمصلحة بالمعنى العامِّ ليست مِن مصادر التشريعِ، وإنما هي حكمةٌ ومقصدٌ عامٌّ مِن مقاصدِه، والمصلحةُ بالمعنَى الخاصِّ مصدرٌ مِن مصادرِ التشريعِ، وتأتي في آخرِ المصادرِ؛ كمَا تقدَّمَ، ومدرَكُها دقيقٌ، لا يُحسنُه إلَّا أهلُ الاختصاص.
لأّنهم عندما يقولون: هذا الفعلُ فيه مصلحةٌ، فمعناهُ عندهم أنّه مشتملٌ على وصفٍ مناسبٍ، وهذا الوصفُ المناسبُ قد يكونُ مُلائمًا، فيكونُ مُعتبَرًا، ويُبنَى عليه الحكمُ، كأن يوجد وصفِ الإسكارِ في النبيذِ مثلا، فيُحكم عليه بالتحريمِ كالخمرِ، وقد يكونُ الوصفُ مُرسَلًا غريبًا، فيكونُ مُلغًى.
وكونُ الوصفِ مُلغًى أو معتبَرًا قدْ يخفَى حتّى على العلماءِ، مِن أهلِ الاختصاصِ، فضلًا عن العامةِ، كما وقعَ لأحدِ علماءِ الأندلسِ، الذي دخلَ على عبد الرحمنِ بنِ الحكمِ أميرِ قرطبة، فسألهُ عن كفارةِ الجماعِ في نهارِ رمضانَ، فأفتاهُ بصيامِ شهرينِ، ورأَى أنّ ذلك مصلحةٌ، وقال: لو أفتيتُه بالعِتقِ لاستحقرَ العقوبةَ، ولانتهَكَ حُرمةَ الشهرِ كلَّ يومٍ؛ لأنّه يملكُ الرقابَ، ولا يزجرُهُ العتقُ.
لكنّ المصلحةَ التي رآها هذا الفقيه هيَ مِن قسم المرسَلِ الغريبِ، الملغَى بالاتفاقِ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعلَ كفارةَ الصيام إمَّا على التخييرِ، كما في روايةِ مالكٍ للحديثِ، وإمَّا على الترتيبِ، التي تبدأُ بالعتقِ، كما في روايةِ غيره، والأمرُ في الاختيارِ بين واحد من الثلاثة: العتق أو الصيام أو الصدقة هو للمُكَفّر، فإلزامهُ بالصومِ مراعاةً لمصلحةِ الزجرِ في حقِّه، وإن بدَت أنّها مصلحةٌ هي مصلحةٌ مُلغاة، لمخالفتها لنص الوحي، ولذلكَ أنكرَ سائِرُ العلماءِ هذه الفتوَى على صاحبِها، وأبطلُوها.
والذي يميزُ المصلحةَ المعتبرة مِن المصلحةِ الملغاةِ، هم أهلُ الاختصاصِ دونَ غيرِهم، فلا يمكنُ أن تطلبَ مِن مهندسٍ أو بنَّاءٍ أو حدادٍ عملًا، قبلَ أن تعلمَ أنه فعلا مِن أهلِ تلك الصنعة، ولو أسندْتَ قيادةَ الطائرةِ لسائقِ الحافلةِ، لقتلتَ الركابَ جميعًا.
(فَاسْأَلُوا أهْلَ الذّكرِ إنْ كُنتُمْ لَا تَعلَمُونَ).
وللحديث بقية …
(المصدر: جريدة الأمة الالكترونية)