مقالاتمقالات مختارة

خلق القرآن.. حين وقف الإمام أحمد في وجه السلطان(2)

بقلم محمود جميل

“طلب العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم”
(أبو يوسف القاضي)

لقد قررنا في المقال السابق انتصار المعتزلة فكريًّا ونظريًّا على أهل الحديث، والحقيقة أننا لم نذهب إلى ما ذهبنا إليه حُبًّا في المعتزلة أو كرهًا لأهل الحديث؛ فما كنا يومًا نبغض أيّ فرقة صنعت جزءًا من ميراثنا الثقافي والفكري، إنما ذهبنا إلى ذلك أولاً: لأن أعلامنا من أمثال الأستاذ أحمد أمين والشيخ محمد أبو زهرة قد ذهبوا قبلنا إلى ما ذهبنا إليه وقرروا ما قررناه، وأضاف إليَّ قارئ كريم أن الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره قد ذهب إلى ما ذهب إليه أمين وأبو زهرة، وثانيًا: لأننا بمراجعة المناظرات التي دارت رحاها بين المعتزلة وأهل الحديث أثناء المحنة كان رجال المعتزلة أكثر إقناعًا وحجةً من أهل الحديث؛ ومن الممكن أن يذهب إليها أيّ قارئ ويراجعها في كتب التاريخ. ذلك ما ذهبنا إليه ورجحناه، ومن الممكن أن يذهب أيّ كاتب ويميل إلى أن المنطق والعقل كان في جانب أهل الحديث دون المعتزلة، ومن الممكن أن يذهب كاتب آخر إلى ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن الفصل في هذه القضية صعب للغاية، تلك كلها طرق ولكل وجهة هو موليها، وأينما كنتم فولوا وجوهكم.

في محنة خلق القرآن تصارعت السلطة والجماهير كما قلنا، المعتزلة في جانب السلطة وأهل الحديث مع الجماهير، ونود أن نضيف أن المعتزلة ما انتصرت يومًا على خصومهم من أهل الحديث إلا وكانت السلطة معهم؛ حدث ذلك في أيام محنة خلق القرآن، وحدث ذلك أيضًا أيام الصاحب بن عباد وأيام الوزير أبي نصر محمد بن منصور الكندري المعروف بعميد الملك، وإن كانت قوة حجتهم في أيام المحنة أكبر منها فيما بعدُ؛ بل نكاد نقول إنهم في محنة خلق القرآن كانوا قد وصلوا إلى قمة نضجهم الفكري، وإنهم بعد ذلك ما كانوا إلا مقلدين لأئمتهم المتقدمين وسائرين على خطاهم، وأيضًا ما انتصر أهل الحديث على المعتزلة إلا بوجود السلطة في رحابهم تؤيدهم وتدافع عنهم وعن معتقداتهم، حدث ذلك في أيام المتوكل على الله وأيام محمود بن سبكتكين.

مثّل يزيد بن هارون رجل الدين الشعبي، الذي يخافه ولاة الأمر عند طرح أيّ قضية قد تمس القيم الموروثة للمجتمع، أيًّا كانت القضية وأيًّا كانت صحتها، حتى لو كان النصر حليفًا لولاة الأمر في النهاية

نريد أن نستعرض لشخصين لعبا في المحنة دورًا مهمًّا للغاية، ونحن لا نختار هذين الرجلين جُزافًا؛ إنما نختارهما لأنهما كانا في موقعين مختلفين: فأحدهما كان مع الدولة وأحد رجالها، والآخر كان مع الجمهور وأحد أعلام أهل الحديث، وأنا وإن كنت أستعرض دورهما فليس ذلك لأبين هل كانا على الصواب فيما ذهبا إليه أم لا؟ فليس ذلك من عملي ولا من دوري؛ بل إنني ما كتبت في المحنة من بابها لأبين أيّ الفريقين كان على الصواب وأيهما كان على الخطأ -وإن ملت نظريًّا وفكريًّا لأحدهما- إنما كتبت عن القضية كمحنة اجتماعية اختبرت فيها ضمائر المدرستين الفكريتين ونفوسهما، ولأبين موقع كل منهما تجاه السلطة والجماهير.

أحد هذين الرجلين هو (يحيى بن أكثم) قاضي القضاة وأحد أكبر رجال المأمون، فلقد حاول بجهد كبير أن يقف حجر عثرة في ألا تُثار القضية، وأن تظل أفكارًا قابلة للأخذ والرد فقط في بلاط الحكم المأموني؛ فذلك أصلح للدولة والمجتمع، ويقرر الأستاذ أحمد أمين أن المأمون ما أثار قضية خلق القرآن إلا بعد أن تخلص من يحيى بن أكثم كقاضٍ للقضاة، وهو شيء لا يُستغرب من يحيى بن أكثم، فلقد حال بين المأمون والمجتمع في لحظة أن قرر المأمون إجازة زواج المتعة، وبالفعل صدر مرسوم من المأمون بإجازته وكتب بذلك إلى الأمصار، فأخذ يحيى يروي للمأمون الأحاديث في حرمته ويقيم له البراهين على عدم جوازه حتى اقتنع المأمون وعدل عن رأيه، وحال أيضًا بين المأمون والمجتمع حينما هَمَّ بلعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، فقال للمأمون: (والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفِرَق، فإن ذلك أصلح للسياسة وأحرى في التدبير).

شيء ما بات واضحًا فيما مثَّله يحيى بن أكثم باعتباره يعبر عن رجل الدين الرسمي وواجبه تجاه المجتمع قبل الدولة، فلا يعني وإن كنتُ رجل دين رسمي بما أمثله كقاضٍ للقضاة أن يكون كل همي الترويج لقضايا الدولة وأفكارها بعيدًا عن نظم المجتمع وتقاليده وأفكاره؛ بل المسؤولية أن تسير أفكار الدولة ونظمها جنبًا إلى جنب مع أفكار المجتمع ونظمه.

الرجل الآخر هو يزيد بن هارون العالم الحافظ وشيخ الإسلام في عصره، وواحد من الأئمة الثقات، الذي وضع له المأمون حسابًا قبل إثارة قضية خلق القرآن، فلقد رُوِيَ أن المأمون قال: (لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت القول بخلق القرآن، فقيل له ومن يزيد حتى يخشاه أمير المؤمنين، فقال المأمون: أخاف إن أظهرته يرد عليّ فيختلف الناس وتكون فتنة). كان من الممكن أن يطرح المأمون تلك القضية الفكرية ويتجادل مع يزيد وينتصر عليه فكريًّا، لكن الأمر عند المأمون ليس مجرد انتصار فكري يحرزه على المجتمع، إنها عملية إخضاع المجتمع فكريًّا وسياسيًّا بدون المساس بهيبة أمير المؤمنين، وبالفعل لم يظهر المأمون القول بخلق القرآن إلا بعد موت يزيد بن هارون، وكأنه هرب من يزيد ليصطدم بأحمد بن حنبل. مثّل يزيد بن هارون رجل الدين الشعبي، الذي يخافه ولاة الأمر عند طرح أيّ قضية قد تمس القيم الموروثة للمجتمع، أيًّا كانت القضية وأيًّا كانت صحتها، حتى لو كان النصر حليفًا لولاة الأمر في النهاية.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى