مقالات

خلافات المؤسسات الاسلامية وآثارها في الدعوة

بقلم الشيخ د. مثنی الزيدي – داعية وكاتب اسلامي

على أَيِّ مستوىً نظر القارئ، ومن أَيِّ مستوىً كان، وجد نار الخلاف مسعَّرة بين مؤسسات اسلامية، ذات الدين والعقيدة والمذهب الواحد، ولا يكاد يجد جامحاً لردعها من نفسٍ، أَو كيان، أَو جماعة.

إِذ أصبح الخلاف هو السبب الوحيد الذي تجمَّعت حولَهُ كُلُّ خيوط النتائج الباقية مهما ساءت.

وهذا سرُّ دعوة الله تعالى لنا بالصورة المباشرة لترك التنازع، إِذ أَنَّه المؤدي الى ما ذُكِر، قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].

وليس معنى ذلك الاختلاف، وانما هو الخلاف الذي يكون أساسه الهوى ومجانبة الحق لموازينَ عارضةٍ ليس للدين فيها نسبة ونَسَب، وقد ذكَرَ سيد قطب في الظلال أَسباباً للخلاف المؤدي للنزاع ومنها قوله: “ولا يتنازع الناس إلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأَفكار… فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إِنما هو الهوى الذي يجعل كلَّ صاحب وجهة يُصرُّ عليها مهما تبيَّن له وجه الحق فيها! وإِنما هو وضع “الذات” في كفة، والحقَّ في كفة وترجيح الذات على الحق ابتداءً”، سوى الصحابة الذي كان خلافهم مهماً فكان للاجتهاد في أَسبابه ونتائجه موطن.

وتأَخر تقدُّم الامة، وأَضعف تماسكها، ووضع البداية لمسير التجريء عليها، هو النزاعات الداخلية التي بدأَت منذ العهد الراشدي، وإِلى هذا اليوم بأمثلته التي يستحضرها كل قاريء.

ولو قلنا ان المسلمين الصادقين خارجين عن شبك المسؤولية الشاملة فيه بسبب المؤامرة، لا نستطيع القول بانهم غير مسؤولين فيما لو ضاق الأَمر قليلاً أَكثر مما تقدَّم، عندما يكون بين دين واحد، ومعتقد واحد، وهدف واحد، وحياة واحدة، ومصير واحد، ومؤسسات ذات هدف واحد والكلُّ يراه بعينيه، إِلا اذا كان أَعور البصر والبصيرة، أَعمى الايمان والصدق، وللمثال اقول: على ماذا يُبنى اختلاف اهل السنة فيما بينهم اليوم حتى يصل الحال بعلمائهم أَن لا يجلسوا او يجتمعوا في اعظم نوازلهم؟ وهل يمكن اخراجهم من مسؤولية تاريخية دينية حضارية اخلاقية وانسانية؟

وعلى ماذا يستقر اختلاف الهيئات والمجامع والروابط والمجالس؟ وفي مثل هذا الظرف؟ وخلاف هذه الهيئات والمجامع والروابط والمجالس خلافٌ أَعمىً ناتجٌ عن هوىً وحقد، وحسد، والطمع بالرياسة، حتی لو كانت الرياسة تلك شرعية فقهية، أَو دعوية للإسلام، والايمان، الذي يُفترض ان تكون اسسها وفروعها قائمة على ترك هذه الامراض التي اصبحت اسسا تقوم عليها وليس بذل كلِّ جهد من اجل الرقي في تركها ولهذا يصبح في أَوقات القائمين على هذه الخلافات وإِنشائها مساهمين في مساواة الدين أَو على الاقل التأَثير على سمعته مع ما هو دونه مما يتمثل فيه هذا الخلاف كأَساس في أُصوله كالسياسة مثلاً، والانحراف الديني عن معاييره ثانياً، وما يترتب على هذا وينتج من تراجع فردي وجماعي، حتى على المستوى الدعوي، وهذا ما نعيشه اليوم، في امثلة لا تحصر وهي حقيقة مبكية على الارض، مصاحبة لأمور مهمة كأَلم الصادقين في النفس، وانزواء الكثير من افضل العاملين في حقول الدعوة الى الله ومبدعيها خشيةً من اتهامهم فيما لو عملوا ضمن هيئة او جماعة انَّهم منها، و من ثمَّ فهم مشاركون بكلِّ ما تؤول اليه قرارات المتخالفين، مما يؤدي بالنتيجة الى توقف دعوي فردي مسبِّب عن التوقف الجماعي لاقوی الدعاة تأثيرا، أو الى لَصقِكَ مع فريقٍ منها كون الفريق الاخر حكم عليك بالإبعاد لعملك مع الطرف المخالف له، او الى اتهام في الميول والفكر عند عملك مع احد الاطراف، ثم اذا ما اتخذت قرار الانتصاف والعمل مع الجميع في مسافة واحدة كلُّهم اتهموك بانك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء، وقد ظنَّ هذا بأنك توصل اخباراً لذاك، وبالمقابل ظن ذاك انك توصل اخباراً لهذا فخسرت الجميع، كما لو لم تعمل بأَي عمل يخسرك العمل لله ويخسرك الجميع ايضاً، أو قد تكون على اختيار البعض ربحت الجميع مع القطع بخسارة العمل لله، فتنقضي السنوات بين شد النفس والغيرة على نصرة الدين، وجذب رايات العمل المؤذنة لك افعالها -بسبب الاختلاف الذي لا تحتمله طبعا- بالتوقف، او عليك ان تختار التوقيع مع احدهم على المعية في المنشط والمكره الذي يفسر اليوم “بالخير والشر”، فتصبح حينها ذو وجهة واحدة لا تعارض أحدا حتى لو رأيت الخطأَ بعينيك.

وليس الأمر منحصراً في النتائج السلبية لإيقاف الدعوة لدين الاسلام واعطاء رسالة سوداء عن حقيقته البيضاء، وليس الامر منحصراً أَيضاً بالضعف والعجز والتخلف المشاهَد اليوم عند الخطوب واحتدامها، وإِنَّما يتوسع للهلاك الشامل-لا سامح الله- والادلة المعروفة في الهلاك بسبب الاختلاف كثيرة ومحفوظة، اختار منها ما قاله عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: “جلسنا مجلساً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأَنه أَشد اغتباطاً فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر- يعني مسألة علمية تتعلق بالعقيدة – فلما رأيناهم اعتزلناهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغضَباً يُعرَف في وجهه الغضب حتى وقف عليهم وقال: “يا قوم بهذا ضلَّت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن يصدِّق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به، ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين فغبطْنا أنفسَنا أن لا يكون رآنا معهم”، قال البخاري رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن عبدالله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

وهذا الاختلاف في مسائل علمية وإِن كانت عقدية، لكنها اذا اثَّرت فإِنها واقعة بطرفي الخلاف كأَفراد دون شمولها على جماعة المسلمين بالضرورة، كما لو كان احد طرفيها حاكما أَو خليفة كما حصل مع الإمام أحمد رحمه الله في فتنة خلق القران المشهورة، فعندئذٍ يختلف الأمر لأنه قد توسَّع، فما بالك عما إذا كان الخلاف بين أقطاب مرجعيات يملكون مصير المسلمين عند القرار؟ وماذا نقول لو كان الخلاف قائماً على مسميات واتهامات وظنون غالبها لا صحة له، وماذا لو كان بسبب مادي أو تعداد تَبَعي؟.

ولا نعيش اليوم عقوبة الهلاك المحتملة -لا سامح الله- وانما نعيش عقوبة معنوية، وهي أيضاً من  أسباب الخلاف ولكنَّها تكون أخفُّ من الهلاك، فإِذا ما استمرَّ الخلاف أصبحت العقوبات المعنوية أَول طريق الهلاك، أَو ينقطع الخلاف فينقطع الهلاك، فهي كالمنذرة، ولمَّا تلاحى رجلان، ايضاً فردان، وليس جماعتان، في مسألة ليلة القدر كانت العقوبة المعنوية رفع تحديد ليلة القدر حتى مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين اظهرهم، وكانت العقوبة المعنوية هناك هي “الحرمان”، وكم حرمان نعيشه اليوم؟، وقد قال الامام النووي في شرحه لحادثة التلاحي في ليلة القدر: “وفيه –أي الحديث- أن المخاصمة والمنازعة مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية”.

 اذا ما علمنا هذا لا بد ان نعلم ان الله تعالى ينذر اولئك مهما بلغوا منازل الظواهر والمسميات بقوله: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، واوجب على النبي صلى الله عليه وسلم البراءة منهم بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159].

المصدر: مجلة رؤيا – العدد 2.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى