ربما تكون هذه القضية ليست جديدة في طرحها، وإنما تأتي أهمية الحديث عنها في ظل بعض الأمور الآخذة في التصاعد في هذه الآونة، والتي استغلت بعض النشاطات ذات الطابع العنيف في أوروبا ودول العالم العربي والإسلامي، في توطيد دعائم صورة ذهنية خاطئة عن الإسلام والشريعة الإسلامية، مع ارتباط هذه النشاطات في الغالب بجماعات تعلن نفسها جماعات إسلامية.
في هذا السياق، وقع خلط رهيب –يبدو مقصودًا في بعض الأحيان– بين الشريعة الإسلامية وتعاليمها، وبين ما يقول البعض إنه تطبيق لها.
ومن بين أبرز أوجه هذا الخلط، الدعوات غير الرشيدة لتجديد الخطاب الديني بصورة تضع ما يتم من تجاوزات وانتهاكات، أو أية أعمال إرهاب وعنف باسم الدين، في صورة أنها أمور من تعاليم الشريعة، أو قصور في نقاط فنية تتصل بالدين ذاته، بينما الأمر ينحصر في شيئَيْن أساسيَّيْن: الأول- هو مخططات حكومات ودول وأجهزة استخبارات؛ لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وزعزعة الاستقرار في مناطق مختلفة من أنحاء العالم، مثل أوروبا والشرق الأوسط؛ لتحقيق مصالح قوى عظمى.
الشيء الثاني- هو أن النظرية لا تُحاسَب بأخطاء الفهم والتطبيق.
حتى الشباب الذي قد ينخرط في هذه الجماعة أو تلك مما تتبنى أفكار السلفية الجهادية، وتمارس العنف أو الإرهاب باسم الدين؛ هو لا يتحمل وحده مسؤولية أخطاء الفهم والتطبيق هذه؛ حيث إنه مفرخة لعقود طويلة من إهمال التعليم الديني، وعلمنة المجتمعات، وضعف دور الدولة في مجال التنوير والتعليم والثقافة، وغير ذلك مما يقي المجتمعات من الأفكار الهدامة.
ولذلك؛ فإن أوَّل الأطراف التي تتحمل مسؤولية بهذه الأزمات جميعها، هي الحكومات التي تتنصل الآن من المسؤولية، وتظهِر نفسها كضحية بالرغم من أنها من الجُناة.
أوَّل الأطراف التي تتحمل مسؤولية بهذه الأزمات جميعها، هي الحكومات التي تتنصل الآن من المسؤولية، وتظهِر نفسها كضحية بالرغم من أنها من الجُناة
في المقابل؛ فإنه لاستكمال الصورة، فإن هناك العديد من الواجبات التي هي من المفترض أنها من صميم جهد قادة العمل الدعوي والتربوي في الحركة الإسلامية أو في الطليعة المسلمة في أي مكان.
هذا الجهد يتعلق بأمر أساسي لا يُعطَى الاهتمام الكافي في مناهج التعليم الديني، أو في مسارات التلقين والتنشئة الثقافية الإسلامية ذات الطابع الجماهيري لو صح التعبير؛ حيث لا نجده إلا في المناهج التعليمية في المؤسسات التي تعطي مناهج التعليم الدينية فحسب، وربما كذلك في مراحل معينة منها، لا تتصل بالمرحلة السِّنِّية الدنيا، والتي تتكون فيها مدارك ومعارف الإنسان الأساسية، وهي المرحلة الأهم التي تخرج منها نوعية الشباب التي تقوم بأعمال تخدم خصوم الأمة، وتضر بالأمة ولا تنفعها.
هذه القضية هي ماهية خصائص الشريعة الإسلامية، وقضية الثابت والمتغير في الحكم الشرعي على أي موقف، أو أي أمرٍ يُعرَض على الإنسان والمجتمع.
فهناك تصور شائع لدى عموم المسلمين، بأن الحكم الشرعي واجب النفاذ، وأنه يجب تطبيقه في مختلف الأحوال بشكل مطلق، من دون فهم أن أول عامل يرتبط به الحكم الشرعي، ويؤثر فيه، هو هذه الأحوال ذاتها، وأنه حتى الشريعة الإسلامية لم يرد فيها حكمٌ شرعيٌّ واحد مطلق التطبيق في كل الظروف والأحوال.
هناك تصور شائع لدى عموم المسلمين، بأن الحكم الشرعي واجب النفاذ، وأنه يجب تطبيقه في مختلف الأحوال بشكل مطلق، من دون فهم أن أول عامل يرتبط به الحكم الشرعي، ويؤثر فيه، هو هذه الأحوال ذاتها
حتى الصلاة والصيام والعبادات الخالصة لله تعالى، هناك قيود عليها في بعض الأحيان، فهناك أوقات مُنِعت الصلاة فيها أصلاً، وذلك بدوره حكمٌ شرعي، وهناك أيامٌ مُنِع فيها الصيام، وهذا بدوره كذلك حكم شرعي.
وهناك أحكامٌ شرعية يمكن، بل من الواجب تعطيلها، إذا ما توافرت أو غابت –بحسب الحالة– شروط معينة، أو تعارضت مع مصلحة أكبر، وهناك أحكام شرعية لا يجب تطبيقها بسبب عدم انطباقها على الحالة المعروضة.
وتزداد أهمية هذا الحقل من الدراسات الشرعية، في ظل عوامل عدة، أولها- الجدل حول فوضى الفتوى وقضية الإرهاب والتطرف، وكذا مما يتفاعل في الوقت الراهن على مستوى العالم العربي والإسلامي، وفي الغرب، وفاقم من أزمة المسلمين هناك، في ظل تصاعد مشاعر العداء ضدهم أو ما يُعرف بالإسلاموفوبيا.
العامل الثاني- طرح قضية تجديد الخطاب الديني، هو بدوره متفاعل في مصر وبعض دول الخليج العربي، ومتفاعل في أوروبا كذلك بسبب العمليات الإرهابية غير الواضحة المعالم، التي تحدث لديهم، وترتبط بالفكر الإسلامي والعقيدة، في النقل الإعلامي لها.
ويقول الدكتور علي بادحدح في ذلك: “إن هناك أمرَيْن اثنَيْن لابد منهما للمسلم دائمًا وأبدًا عند تعامله مع أي حدث، أو النظر إلى أية قضية، أن يراعيهما:
الأمر الأول -وفق بادحدح-: الحكم القائم في النصوص الشرعية من كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فما ورد فيه نهي لا ينبغي فعله بالتأويلات الباطلة، ولا بالمفاهيم الخاطئة ولا بالممارسات المجترئة، لأن ذلك عدوان على شرع الله عز وجل، ونقض له، ومخالفة لما فيه من الأوامر والنواهي.
والأمر الثاني، هو تنزيل الحكم على الواقع بمراعاة المصلحة الشرعية؛ لأنه قد يكون ثمَّة أمر مطلوب ومندوب إليه، لكن فعله في هذا الزمان والمكان قد تترتب عليه مفسدة، فيُترك لأجل ذلك.
ويُستَدَل على ذلك بالعديد من الأدلة الشرعية من الكتاب والسُّنَّة، ومن ذلك قول رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأم المؤمنين عائشة رضي اللهُ عنها: “لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين”.
هنا النبي الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ترك خلاف الأَوْلى لما قد يترتب عليه من مفسدة.
وبالتالي فإن هناك مهمة داخلية –لو صح التعبير– تخص العلماء والتربويين في أوساط الصف الإسلامي، وهي تبيان خصائص الشريعة الإسلامية، وخصوصاً كيفية فهم الحكم الشرعي، وملابسات تطبيقه؛ حيث الأمر أعقد بكثير من العبارات ذات الطابع المطلق.
هناك مهمة داخلية –لو صح التعبير– تخص العلماء والتربويين في أوساط الصف الإسلامي، وهي تبيان خصائص الشريعة الإسلامية، وخصوصاً كيفية فهم الحكم الشرعي، وملابسات تطبيقه
وهو موجود في قواعد فقهية مهمة، هناك إجماع عليها من العلماء، وهي أن “القرآن الكريم حمَّال أوجه”، وكذلك أن “القرآن الكريم يفسِّر نفسه”، و”يُفسَّر كذلك بالسُّنَّة النبوية”، ولاسيما فِعْل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ونختم بتساؤل يشرح ذلك كله: هل كان عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه، والذي وافق القرآن الكريم رؤاه في بعض الأحيان بعد نزوله، عن اجتهادات المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هل كان عمر مخطئاً، عندما عطَّل سهم المؤلفة قلوبهم في الصدقات، باعتبار أن الوقت قد تجاوزه! وهل كان مخطئاً عندما عطَّل حدَّ السرقة في عام الرمادة! حاشاه ذلك، خصوصاً وقد وافقه في ذلك الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وتبقى دلالات ذلك المهمة في أنه إنما يعكس حقيقة فهم عمر –الذي تلقى دينه عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرةً– لحقيقة خصائص الشريعة الإسلامية، وأنه من دون هذه المرونة ما تحقق هدف الشارع الأعظم سبحانه وتعالى، من أن تكون الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان!
(المصدر: موقع بصائر)