بقلم د. ليلى حمدان
كيف أختم تفاصيل حياة كاملة قضيتها بين قوم كافرين!
كيف أوقع نهاية قصة لا تزال تضخ الخلاصات وتوثق النتائج وتحرر المفاهيم الحياتية بشكل متواتر متين!
كيف يمكن أن نصل إلى حد نهائي في حين أن قضيتنا مع الأمريكان لا نهاية لها تتجلى في الأفق.؟!
كيف يمكن أن أصل إلى شط الختام ولا زال في القلب الكثير من الإلمام..؟
ليس بدعا من القول أن يخشى الكاتب من كتابة خاتمة ما كخشيته من خاتمته ذاته، ذلك أن الخواتيم دائما هي خلاصات البشر ودليل حسن العمل أو سوءه والعياذ بالله.
لا زلت أذكر تلك السماء، حين تحولت زرقتها فجأة في وقت عصر إلى سواد كالح، لقد كان السواد مخيفا لدرجة أن الظلام كسى كل البيوت ولم يعد هناك من رؤية والساعة لاتزال عصرا!
خشيت كثيرا وأدركت أن العذاب قد يحل في أي حين ! ولكن كيف الفرار وأرض المسلمين تبعد الأميال والأميال ولابد من قطع المحيط!
حينها أقسمت ألا أبقى في أرض يتوعدها غضب الإله في كل حين، وأشاهد أماراته وليتني أراهم يتعظون!
فمن لم يذكر الله من المسلمين في ذلك اليوم! حتى الغافلين، لقد خشي الجميع غضبة الإله!
في الواقع لم تكن المرة الأولى التي أشاهد فيها أمارات الغضب الإلهي وفي كل مرة كنت أقول يا ويل نفسي أي مصير ينتظرني ولعنات المسلمين المستضعفين في الأرض، ترفع لرب يمهل ولا يهمل! كلها تلعن الأمريكان ..؟
وإن حلّ سخط الله بقوم لم ينج بينهم أحد!، لقد كان هذا ما يشغل فكري، ذلك أن سنن الربّ لا تحابي أحدا وأن الظلم إذا بلغ مداه، فلا تسأل عن موعد العقاب.. هذا حال الأمم الظالمة الأولى والتي تلتها إلى يومنا هذا.
لا أنكر أني اشتقت لشجر الزيتون ورائحة الياسمين وهبات النسيم عند تلال بلدي، وكل شبر من أرضها يروي قصص أقوام من قبلنا تعانقه ذكريات التضحية والفداء ويفوح منه أريج الانتصارات بعد الامتحان حتى إني لأكاد أسمع وقع حوافر الخيل في انسجام وتكبيرات صاعدة بابتهاج.
ولا أبالغ إن قلت أن لذة الطعام في الشام كانت عندي تفوق كل لذات المطاعم الراقية التي دخلتها أو أكلت فيها! وقس على هذا حال كل المتع الدنيوية! فلعلها البركة أو قل الحنين!
لم تسلبني الحياة الغربية شيئا واحدا بل أشياء كثيرة وجعلتني أعيش الغربة بأقصى أحوالها، هناك يكون المرء كالتائه يبحث عن حبل يربطه بالسماء، فلا يجد نفسه إلا منيبا لخالقه شديد الإقبال عليه هذا إن منّ الله عليه بالهداية وأرشده لسبيل الخلاص! ولقد شاهدت الكثير من نماذج الشباب المسلم الذي وصل لا يعرف للالتزام طريقا ولكنه بوقع الصدمة مما عايشه في أمريكا تحول بين يوم وليلة لطالب علم مجتهد وأطلق لحيته وبدت ملامح الحياء والإيمان تنير محياه! نعم هناك وجد الكثير من المسلمين ربهم! لأنهم أدركوا أن ما يعيشه الأمريكان دليل قاطع على أن الإسلام هو الدين الحق!
كثيرون خرجوا من أمريكا غير ما دخلوا، صحيح أن منهم من خسر دينه ودنياه، ولكن الأغلبية حنت لحضن الإسلام وطمأنينة التوحيد وربوع الإيمان.
وهذا كان كافيا بالنسبة لي كي انعطف انعطافة جادة في حياتي وأن أتخذ قرارات مصيرية في الرحيل من أرض فيها الكفر قد بلغ منتهاه، والظلم لا يزال يتأجج دخانه في السماء، وإن كنت وصلت لمرحلة مغرية لكل مغترب، فإن الشهادات العليا مهما كانت مهمة، لن تخدم بلدي، ولا أمتي بل سأصبح مجرد طوب بناء يبني عليه الأمريكان مجد أمتهم.
أوليست أمتي أولى بالبذل من هؤلاء الذين كادوا يقضون على أحلامنا!
أوليست أمتي أولى بالجهد من هؤلاء الذي استنزفوا طاقاتنا! لأجل ماذا؟ لأجل أمتهم هم ومستقبلهم ومجدهم لوحدهم!
لا أريد أن أكون أمة أجيرة في ديار الكفر، أعمل وأتكبد الصعاب لأدفع الضرائب ثم أشاهد أهلي وإخواني يقتلون برصاص دفعت منه سنتا واحدا!
أي ضمير سيتحمل هذا الظلم، وأنا أرى فلسطين تغتصب ويقتل أبناءها بدم بارد، ثم أسمع المعلق الأمريكي يتحدث عن الفلسطينيين كإرهابيين! وكذا حال الأفغان والعراقيين والسوريين وكل بلاد أهان قدسيتها جنود سام!
لا كرامة لي إن قبلت العيش في بلد أجادل الليل والنهار كي يقبلوا فكرة حجابي أو صومي أو صلاتي، وليتهم يقبلون!
في بلد للعارية حق العري وتحرم المحتشمة حق الستر! ثم يزعمون الحريات!
في بلد يخيرك بين هويتك وأصالتك وعقيدتك وبين عيشتهم المهلكة واندماج لن يكون أبدا..!
إننا كمسلمين لا نحمل إلا هذا الدين في قلوب مثقلة بالأمانات، إما أن نكون أهلا لحمله أو ألا نكون، ولن يكون الأمريكي الكافر أفضل منا همة في حفظ أمته، ذلك أننا أمة خير مرسل للبشر، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو قضينا عمرنا نأكل الزيت والخبز ولكننا نسهر على بناء مجد أمتنا لكانت الحياة في عيني ألذ من أرقى مستوى حياة في أمريكا يصله بشر!
ذلك أن العيش لأجل هدف سامق، لأجل إسلام عظيم ، لأجل نجدة أمة تدمى، لأجل نصرة الثكالى والمساكين واليتامي والمظلومين، لهو أعز عندنا من أن نخدم قاتلا مجرما يتمسح بالحريات والحضارة والرقي وهو يعتلي جبلا من الجماجم، بل سيبقى مجرما مهما تأزر بألوان الثياب وتوارى خلف أنواع الأقنعة.
إنه لمؤلم بعمق، ويدفع بالأسى للقلب، حين نرى بعضهم لا زال أسير الإعجاب بالأمريكان، وليتهم بحثوا عن شهادات المجربين، الذين انغمسوا في أمريكا فخرجوا منها يقتلهم الندم وتحييهم التوبة والإنابة!
وقد عرفت من كان يبجلهم لدرجة العبادة!!! بل ويحسبهم خير أمة أخرجت للناس، وحين عايشهم وانسلخ من دينه وتشبع من حضارتهم الزائفة، شعر بالاختناق ولم يستطع أن يكمل المشوار، لقد عرف أنه مجرد تمثيل وأن هؤلاء لم يكونوا أهلا لإعجابه! فرجع رويدا إلى هويته وأصالته وعقيدته وهو يذرف الدمع على عمر أضاعه في لهث خلف سراب لم يجن منه إلا الندم!
لقد اخترت أن أوجه كلمة لكل من لا زال يعيش في أمريكا، في هذه الحقبة المؤلمة، نعم أعلم أن منكم من اضطر للعيش هناك كرها، ولكن اختر لنفسك خاتمة تطيب لها النفوس، واخرج من منظومة الاستعباد البشري التي تنظر إليك كآلة منتجة لا غير، ابحث لنفسك عن مخرج، وإن قل مكسبه المادي، فوالله إن صوت الآذان في أذنك لهو خير من كثير مما تجمع! ثم هناك الكثير لتقدمه لمن يستحق فعلا لا من يخدعك.
أما من كبلته الظروف وعجز عن الخروج، فلا أقل من أن تساهم في نصرة أمتك وبناء مجدها من جديد، من المشاركة في حركة النهضة بكل ما تملك، وأن تعيش بقلبك وروحك عند أبواب الإسلام. لعلك تعذر! فمعارك الأمة مشتعلة في كل الجبهات، من معركة الوعي إلى معركة التحرير، فاختر لنفسك الثغر المناسب!
أما من خرج ومنّ الله عليه بالهروب من براثن الأمريكان، فإياك والانغماس في مستنقع الدنيا واللهث خلف ملذاتها، بل قد وهبك الله خبرة وتجربة وربما أكثر، فوظف طاقاتك في سبيل ربك، وإياك والتخلف عن ركب العاملين لنهضة الأمة، بكلك بإخلاصك، ثم لا تستهن بما تقدم فرب كلمة ألهمت قلبا ورب دينار أطعم جائعا ورب همة أحيت أمة!
مضطرة أن أوقف سيل الكلمات وإن كنت حين ألتفت إلى الوراء أجدني لم أوف هذا الكتاب حقه، ولكن حسبي أنني نظمت جهدي لينضم لصفحات سيد قطب رحمه الله تعالى لعلني أرسم المشهد الحقيقي “لأمريكا التي رأيت” وتصبح الشهادة شهادتين فتثقل في ميزان الحكم، لا زلت أتذكر كلمات سيد وهو يصف تلك الأرض، لكنني اليوم بعد كل الفارق الزمني أجدني أصفها بأشد من وصفه ذاك! ذلك أن الظلم حين يزداد له مآلات ، والتمادي حين يتضاعف، له مضاعفات، ولو أن سيد عاش في عصرنا اليوم ووصف أمريكا لا أخاله كان سيتسعمل إلا أشد العبارات تعتصرها الآلام وأقسى الأوصاف تؤزها الأحزان وصرخات المظلومين والآهات. لأن ما وصل له الأمريكان اليوم من كبر وظلم في الأرض! لهو بحق من آمارات السقوط، وإنني والله لأراه قريبا بإذن الله ذلك أن ما يحدث في هذه الأيام من اختلاف وانقسام في أمريكا في داخلها وبين حلفاءها فضلا عن ضعف واضح في قوى الهيمنة الأمريكية وبروز المنافسين بلا خشية، يدعو للاستبشار ، وإن كنت أتمنى أن نشاهد آية سقوط أمريكا الدولة الظالمة، فإني في ذات الوقت أريد أن نكون قد أعددنا وجمعنا ما يؤهلنا لأن نكون الأمة المستعملة، التي ستقدم للعالم حضارة ماجدة عظيمة عادلة، وحتى نحقق ذلك، لابد أن نقدم كل ما نملك، لا نصفه ولا ربعه، بل كل ما نملكه من طاقات وجهود ومحبة لهذا الدين، فإن لم نخلص في عطاءنا وتضحياتنا، فلن نقدم شيئا. ولن نغير واقعا، لقد كان الفيتناميون كفارا ولكن أيقظتهم القومية وبذلوا أنفسهم في سبيل إعادة بناء بلادهم التي حطمها الأمريكان، وقد نجحوا في تحقيق الكثير من البناء والنهضة. مع ألم عميق في كل مرة يذكر فيها الأمريكان.
لقد أخبرتني الدكتورة فونغ وكانت طبيبة فيتنامية تعمل في المهجر لأجل جمع المال وإرساله للفيتنام، أنها أحد سبعة أطباء في عائلتها كل واحد منهم هاجر لبلد آخر حتى يعمل ويجمع المال ويرسله لبناء الفيتنام! وحتى تحسن الجمع كانت حياتها زاهدة، أكلها أكل فقراء ، وملابسها تكاد تهترئ! ولكنها طبيبة من أمهر الأطباء تحمل في قلبها همّ آلام بلادها..!
أما نحن فآلامنا أكبر من حجم آلام الفيتناميين، ونحمل عقيدة ورصيدا روحيا أعظم مما يحمله الفيتناميون، فهل ننتظر أداء نجاحه أقل! بل لا بد أن يكون نجاحنا بحجم معاناتنا وحجم قتلانا وجرحانا وكل نفس متوجعة!
لنستعن بالله ولا نعجز، لنبذل ما نقدر ثم لنستبشر بمعية الله وفضله، لنرتق فوق ماديات الأرض وإن كنا في أضعف ظرف حتى يرفعنا الله بقوته وقدرته ومن أعذر عند ربه فلا عتب!
الحديث عن أمريكا يسحبنا تلقائيا للحديث عن أمة الإسلام ذلك أنها لا زلت تمثل العدو الأول لنا، والتحدي الأكبر لنهوضنا، فإن تخلصنا من حبالها ، سنعرف طعم الحرية وسنكسر أغلال الخنوع وسنتنسم عبق الريادة من جديد!
ومن يتجاوز عقبة الأمريكان لن ترهقه عقبة أخرى في المسير!
فاللهم لا تجعل للأمريكان علينا سبيلا ولا لبلادنا طريقا ولا لأمتنا تأثيرا ولا لنهضتنا تضعيفا!
والحمد لله على نعمة الإيمان والهداية والاستعمال، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
(المصدر: موقع تبيان)