مقالاتمقالات مختارة

حينما تتبرقع الباطنية بشعارات التجديد (2-3)

حينما تتبرقع الباطنية بشعارات التجديد (2-3)

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

تستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات والإجابة عن أسئلة العصر، في الوقت الذي تتطلّع فيه شعوبنا إلى من ينتشلها من وهدتها ويوقظها من رقدتها، حيث راح الباطنيون الجدد يلوّحون للشباب أننا هنا نفسّر لكم القرآن تفسيراً تجديدياً، ونقدّم لكم الإسلام على الطريقة العصرية التي تريح كواهلكم وتفتح الأبواب أمام نزواتكم بلا قيود ولا حدود.
يجهدون أنفسهم ليثبتوا أن شرب الخمر ليس حراماً، وأن ظهور المرأة عارية أمام أبيها ليس حراماً، وإنما هو من باب العيب الاجتماعي، وأن الإسلام لا يفرّق بين من يعبد الله وبين من يعبد البقر، ولا بين من يعتقد أن عيسى -عليه السلام- عبد لله، وبين الذي يعتقد أنه ابن لله، فهذا عندهم هو التفسير الصحيح لقوله تعالى: «لا إكراه في الدين»، بل زاد بعضهم أن الديانات السماوية كلها -على ما هي عليه اليوم- داخلة في مسمّى الإسلام، الذي قال الله تعالى فيه: «إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ» و»وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَاِم دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ»، ومع نكرانهم الصريح للسنة ولحجّيتها، لكنهم جميعاً يحفظون حديث «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بَأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»، لأنهم يفسّرونه بمعنى أن الناس هم الذين يشرّعون لأنفسهم القوانين والأحكام التي يحتاجونها في كل شأن من شؤون حياتهم، فصار هذا الحديث -بالفهم السقيم هذا- عدتهم في نسخ كل النصوص التشريعية الثابتة في القرآن والسنة، مع أن الحديث ليس له علاقة بأية مسألة تشريعية لا من قريب ولا من بعيد، فالحديث إنما ورد في مسألة تلقيح النخل، ومدى فائدة التلقيح من عدمها، وكان -عليه الصلاة والسلام- لا علم له بالفلاحة، فقال: «مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئاً» وهذه ليست صيغة وحي، ولا هي صيغة تشريعية، يؤكّد هذا أنه لما بان أن التلقيح ضروري للنخل قال -عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَناً، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئاً فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»، فبأيّ منهج علمي أو عقلي أو حيادي يكون القول المصرّح فيه بالظن دليلاً لنفي النصوص القطعية، وكيف يكون القول المبني على الخبرة البشرية المجردة دليلاً على نقض الأحكام الشرعية الثابتة بالوحي، وحديث التلقيح نفسه يؤكّد وجوب التمسك بشريعة الله، فلماذا يبتر أوله عن آخره؟
إن هذا التلاعب في الاستدلال بالروايات -وهو تلاعب مكشوف ومفضوح كما ترى- تبعه تلاعب في الدلالات اللغوية، فالكلمة لم تعد عندهم تحمل المعنى الذي يعرفه العرب والمثبت في دواوينهم ومعجماتهم، بل يجري تفكيكها وإرجاعها إلى المعاني التي يحتملها الجذر، وهذا التلاعب الغبي قد ينطلي على بعض من ليست له صلة بعلوم اللغة، خاصة إذا اقترن بوهج التجديد، ومؤداه حقيقة إشاعة الفوضى ليس في الدلالات الشرعية والفقهية فحسب، بل إشاعة الفوضى في المصطلحات العلمية كلها وفي مختلف المجالات والتخصصات، كما سنرى.

(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى