بقلم د. عامر الهوشان
لا شك ان الناظر في حال الدعوة إلى الله تعالى في هذا العصر الذي نعيش فيه , يمكنه أن يلاحظ بوضوح تراجع العمل الدعوي عموما في الآونة الأخيرة , وفتور الفعاليات الدعوية على جميع المستويات , سواء منها الفردي أو الأسري أو حتى الاجتماعي , فلم تعد ترى ذلك الزخم في الدروس العامة في المساجد , ولا ذلك الاجتماع الأسري الشهري الذي كان يستثمره الحريصون على هداية ذويهم و أرحامهم في الدعوة إلى الله , ناهيك عن تراجع دور الدعوة الفردية بشكل صارخ .
ومع كثرة الأسباب التي قد تكون وراء هذه الظاهرة السلبية في المجتمع الإسلامي , فإن غياب الدافع للدعوة إلى الله تعالى من نفوس كثير من أتباع الدين الخاتم , وانحرافه عند بعض الدعاة في حالات أخرى …. هو سبب من تلك الأسباب , وقد يكون الأهم برأيي والله أعلم .
وأقصد بالدافع هنا المحرك والمحفز لهداية الناس ودلالتهم على الله وصراطه المستقيم , والذي يشبهه البعض بالوقود اللازم للسيارة حتى تسير وتقطع المسافات , وإلا بقيت – من دون ذلك الوقود – في مكانها رغم سلامتها من العيوب والأعطال , وجاهزيتها التامة للسير والانطلاق .
والحقيقة أن خير مثال يحتذى به في هذا الأمر , هو ما ورد في كتاب الله تعالى عن سمة وصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله وتبليغ رسالته , فقد واساه ربه سبحانه وتعالى بخصوص الكفار والمشركين الذين لم يؤمنوا بدعوته ولم يهتدوا لتوحيده سبحانه بالعبادة , بعد أن أرهق خاتم الأنبياء والمرسلين نفسه لهدايتهم , وكلف نفسه ما لا تطيق في سبيل إيمانهم , فقال تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } الكهف/6 , وقال تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } الشعراء/3 .
قال ابن كثير في تفسير الآية : أي مهلك { نفسك } مما تحرص عليهم وتحزن عليهم { أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } ، وهذه تسلية من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، في عدم إيمان مَنْ لم يؤمن به من الكفار . تفسير ابن كثير 6/135
وقال الطبري : لعلك يا محمد قاتل نفسك ومهلكها إن لم يؤمن قومك بك ، ويصدقوك على ما جئتهم به , والبخْع : هو القتل والإهلاك في كلام العرب . تفسير الطبري 19/329
وما يعنينا في هذا المقام هو ذلك الحرص الشديد منه صلى الله عليه وسلم على هداية قومه ودعوة الناس أجمعين إلى الله رب العالمين , والحزن العميق على كل من لم يؤمن بدعوته و لم يتبع رسالته , لعلمه بالحساب الذي ينتظره يوم القيامه , و بالعذاب الذي لن ينجيه منه إلا الإيمان والتوحيد مع العمل الصالح .
لقد كان ذلك الشعور النفسي المتمثل بالحزن الشديد على مصير من يعرض عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم , هو المحرك والمحفز الذي يدفع الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم لا للقيام بواجبه الدعوي كرسول مرسل من الله تعالى إلى العالمين فحسب , بل إلى المبالغة في الحرص على إيمانهم والخوف من إعراضهم والإصرار على كفرهم وشركهم , وهو ما أظن أن الكثير من المسلمين الدعاة يفتقرون إليه في هذا الزمن , ويحتاجون إلى التزود منه أيما حاجة .
يمكن للقارئ الكريم أن يستشعر ذلك الحرص النبوي على هداية قومه والناس أجمعين في كثير من مشاهد سيرته الشريفة صلى الله عليه وسلم , لعل أبلغها حادثة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بهداية قومه رغم إيذائهم الشديد له , ففي الحديث عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ : ( لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ) صحيح البخاري برقم/3231
تخيل معي وتصور أن شخصا ما رأى إنسانا ضريرا يتجه دون أن يعلم إلى حافة هاوية أو واد سحيق أو خطر عظيم محقق , لا شك أنه سيتحرك بفطرته السلمية ومشاعر الخوف والخشية على هذا الضرير لإنقاذه وتنبيهه مما هو مقبل عليه , سواء بالصراخ لتنبيهه أو بالإسراع للأخذ بيده وإنقاذه من المهلكة التي كاد يهوي إليها ……..وهكذا يكون حرص الداعي إلى الله بحق على هداية من يدعوهم إلى الله , تدفعه لذلك الشفقة على مصير كل من يخالف أوامر الله ويقع في نواهيه .
إن غياب هذا الدافع والمحرك لدعوة الناس إلى الله…. هو في الحقيقة سبب من أهم أسباب ذلك الفتور في العمل الدعوي الذي يلحظه كل من له شيء من النظر او البصيرة .
ولطالما وقع على مسامعي وأنا في مقتبل العمر وريعان الشباب كلمات في الدعوة إلى الله تكتب بماء الذهب , من ذلك الشيخ والداعية الوقور المهيب الذي كنت أتردد على دروسه في دمشق , حيث كان يؤكد على ضرورة وجود ذلك الدافع والمحرك الذي أتحدث عنه , ليس بالكلمات والألفاظ في الدروس فحسب , بل بالممارسة والأفعال من خلال تلمس واستشعار حرصه الشديد على هداية الناس وتعريفهم بدين الله .
بقي أن أنبه إلى أن الحرص على هداية المدعوين – الذي يمثل الدافع والمحرك للدعوة – قد ينحرف عند بعض الدعاة , فتحل الأهواء والسمعة وحب الظهور محل الإخلاص لله في الدعوة وابتغاء ما عنده من ثواب وأجر عظيم , وهنا تكون الآثار والنتائج السلبية على حقل الدعوة إلى الله عموما أشد وأخطر , إذ لا تقتصر تداعياتها على غياب مظاهر الدعوة الحقيقة فحسب , بل تمتد إلى إصابة العمود الفقري للدعوة إلى الله في مقتل , لما لذلك من تأثير سلبي على مصداقية الدعاة أمام المدعوين .
ومن هنا يمكن فهم تكرار آيات القرآن الكريم وتأكيدها على خلو دعوة الأنبياء والمرسلين من الأغراض والمنافع الشخصية , قال تعالى : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } الأنعام/90 , وقال تعالى : { يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ } هود/51
(موقع المسلم)