حول سيرة القائد الإسلامي والصحابي الجليل خالد بن الوليد: شبهات وأباطيل (2)
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
ساء تقدير أهل الشبهات والأباطيل، وأصحاب التفكير الانتقائي والسطحي، وأهل الشهرة واللايكات على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك أعداء الأمة من فِرق باطلة وتيارات لا دينية، وأخفقت مخططاتهم في الطعن والتشويه، برموز وشخصيات أمتنا الإسلامية العظيمة. وربما وجد هؤلاء – من باب الحقد الدفين أو الأغراض الدنيوية الرخيصة – مجالاً مفتوحاً لتصيُّد الرِّوايات والأحداث الَّتي تتناول صحابة رسول الله (ﷺ)، وقراءتها بطرقهم وأيديولوجياتهم الخاصة، بهدف إظهار الصحابة والتابعين والسلف الصالح بمظهرٍ لا يليق بهم، ومحاولة زعزعة مكانتهم وقِيمتهم في نفوس المؤمنين، فإِذا لم يجدوا شفاءَ نفوسهم، اختلقوا ما ظنُّوه يجوز على أذهان القارئين، لكي يُصبح أساساً ثابتاً لما يتناقله الرُّواة، وتُسطِّره كتب المؤلفين المعاصرين.
ومن جملة من طالهم الاتهام والتشويه، فقد تعرَّض كلٌّ من أمير المؤمنين وفارق الإسلام عمر بن الخطاب، وسيف الله المسلول وقائد جيوش الفتح والدعوة إلى الله خالد بن الوليد (رضي الله عنهما)، لتشويه وافتراءات المبطلين وأهل الشبهة، فهؤلاء حاولوا تشويه تاريخهما المجيد، ووقفوا كثيراً عند أسباب عزل أمير المؤمنين الخليفة عمر لخالد بن الوليد (رضي الله عنهما)، وألصقوا التُّهم الباطلة بالرَّجلين العظيمين، وأتوا برواياتٍ لا تستند لأساس، ولا تقوم على البرهان أمام التَّحقيق العلميِّ النَّزيه. وِإليك قصَّة عزل خالد بن الوليد على حقيقتها بدون لفٍّ، أو تزويرٍ للحقائق، فقد مرَّ عزل خالد بن الوليد بمرحلتين، وكان لهذا العزل أسباب موضوعيَّة.
- العزل الأوَّل: لماذا عزل الفارق عمر بن الخطاب خالد بن الوليد (رضي الله عنهما)؟
عزل عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ خالد بن الوليد في المرَّة الأولى عن القيادة العامَّة، وإِمارة الأمراء بالشَّام، وكانت هذه المرَّة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة غداة تولِّي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصِّدِّيق عن الفاروق في التَّعامل مع الأمراء، والولاة، فالصِّدِّيق كان من سنَّته مع عمَّاله، وأمراء عمله أن يترك لهم حرِّيَّة التَّصرُّف كاملةً في حدود النِّظام العامِّ للدَّولة، مشروطاً ذلك بتحقيق العدل كاملاً بين الإفراد والجماعات، ثمَّ لا يبالي أن يكون لواء العدل منشوراً بيده، أو بيد عمَّاله، وولاته، فللوالي حقٌّ يستمدُّه من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوعٍ في الجزئيَّات إِلى أمر الخليفة. وكان أبو بكر لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مالٍ، أو غيره ما دام قائماً في رعيتهم.
وكان الفاروق قد أشار على الصِّدِّيق بأن يكتب لخالدٍ ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ: ألا يعطي شاةً، ولا بعيراً إِلا بأمره، فكتب أبو بكر إِلى خالدٍ بذلك، فكتب إِليه خالد: إِما أن تدعني وعملي، وإِلا فشأنُك، وعملُك، فأشار عليه بعزله، ولكنَّ الصِّدِّيق أقرَّ خالداً على عمله.
ولما تولَّى الفاروق الخلافة؛ كان يرى أنَّه يجب على الخليفة أن يحدِّد لأمرائه، وولاته طريقة سيرهم في حكم ولاياتهم، ويحتِّم عليهم أن يردُّوا إِليه ما يحدث حتَّى يكون هو الَّذي ينظر فيه، ثمَّ يأمرهم بأمره، وعليهم التَّنفيذ؛ لأنَّه يرى: أنَّ الخليفة مسؤولٌ عن عمله، وعن عمل ولاته في الرَّعية مسؤوليَّةً لا يرفعها عنه أنَّه اجتهد في اختيار الوالي. فلمَّا تولَّى الخلافة؛ خطب النَّاس، فقال: إِن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيءٌ من أمركم فيليه أحدٌ دوني، ولا يتغيَّب عنِّي، فالوا فيه عن الجزاء، والأمانة، ولئن أحسن الولاة؛ لأحسنَنَّ إِليهم، ولئن أساؤوا لأنكلنَّ بهم، وكان يقول: أرأيتم إِذا استعملت عليكم خير مَنْ أعلم، ثمَّ أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ؟ قالوا: نعم. قال: لا! حتَّى أنظر في عمله، أَعمِل بما أمرته، أم لا ؟، فعندما تولَّى الفاروق الخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ إِلى منهجه، وسيرته، فرضي بعضهم، وأبى اخرون، وكان ممَّن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد. فعن مالك بن أنسٍ: أنَّ عمر لمَّا ولِّي الخلافة كتب إِلى خالد: ألا تعطي شاةً، ولا بعيراً إِلا بأمري. فكتب إِليه خالد: إِمَّا أن تدعني وعملي، وإِلا فشأنك بعملك. فقال عمر: ما صدقتُ الله إِن كنت أشرت على أبي بكرٍ بأمرٍ، فلم أنفِّذه. فعزله. ثمَّ كان يدعوه إِلى العمل، فيأبى إِلا أن يخلِّيه يفعل ما يشاء، فيأبى عليه. (خالد بن الوليد، صادق عرجون، ص (332).
فعزل عمر خالداً من وجهةٍ سياسة الحكم، وحقُّ الحاكم في تصريف شؤون الدَّولة ومسؤوليَّته عنها، وطبيعيٌّ أن يقع كلَّ يومٍ مثله في الحياة، ولا يبدو فيه شيءٌ غريبٌ يحتاج إِلى بيان أسباب تتجاذبها رواياتٌ، واراء، وميولٌ، وأهواءٌ، ونزعاتٌ، فعمر بن الخطَّاب خليفة المسلمين في عصرٍ كان الناس فيه ناساً لا يزالون يستروحون روح النُّبوَّة، له من الحقوق الأوَّليَّة أن يختار من الولاة والقادة من ينسجم معه في سياسته، ومذهبه في الحكم، ليعمل في سلطانه ما دامت الأمَّة غنيةً بالكفايات الرَّاجحة، فليس لعاملٍ، ولا قائدٍ أن يتأبَّد في منصبه، ولا سيَّما إِذا اختلفت مناهج السِّياسة بين الحاكم والولاة ما كان هناك مَنْ يغني غناءه، ويجزي عنه، وقد أثبت الواقع التَّاريخي: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ كان موفقاً أتمَّ التَّوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النَّظير، فعزل، وولَّى، فلم يكن من ولاه أقلَّ كفايةً ممَّن عزله، ومردُّ ذلك لروح التَّربية الإِسلاميَّة الَّتي قامت على أن تضمن دائماً للأمَّة رصيداً مذخوراً من البطولة، والكفاية السِّياسيَّة الفاضلة. وقد استقبل خالدٌ هذا العزل بدون اعتراضٍ، وظلَّ رضي الله عنه تحت قيادة أبي عبيدة رضي الله عنه حتَّى فتح الله عليه قنَّسرين، فولاه أبو عبيدة عليها، وكتب إِلى أمير المؤمنين يصف له الفتح، وبلاء خالد فيه، فقال عمر قولته المشهورة: أمَّر خالد نفسه، رحم الله أبا بكر! هو كان أعلم بالرِّجال منِّي. (نظام الحكم في عهد الخلفاء الرَّاشدين، ص84).
ويعني عمر بمقولته هذه: أنَّ خالداً فيما أتى به من أفانين الشَّجاعة، وضروب البطولة قد وضع نفسه في موضعها الَّذي ألفته في المواقع الخطيرة من الإِقدام والمخاطرة، وكأنَّما يعني عمر بذلك: أنَّ استمساك أبي بكر بخالدٍ، وعدم موافقته على عزله برغم الإِلحاح عليه إِنَّما كان عن يقين في مقدرة خالدٍ، وعبقريَّته العسكريَّة، الَّتي لا يغني غناءه فيها إِلا احاد الأفذاذ من أبطال الأمم. (أباطيل يجب أن تمحى من التَّاريخ، ص 132).
هذا وقد عمل خالد تحت إِمرة أبي عبيدة نحواً من أربع سنوات، فلم يعرف عنه: أنَّه اختلف عليه مرَّةً واحدةً، ولا ينكر فضل أبي عبيدة، وسمو أخلاقه في تحقيق وقع الحادث على خالدٍ، فقد كان لحفاوته به، وعرفانه لقدره، وملازمته صحبته، والأخذ بمشورته، وإِعظامه لآرائه، وتقديمه في الوقائع الَّتي حدثت بعد إِمارته الجديدة أحسن الأثر في صفاء قلبه، صفاءً جعله يصنع البطولات العسكريَّة النَّادرة، وعمله في فتح دمشق، وقنَّسرين، وفحل شاهدُ صدقٍ على روحه السَّامية الَّتي قابل بها حادث العزل، وكان في حاليه سيف الله خالد بن الوليد، ويحفظ لنا التَّاريخ ما قاله أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله:.. وما سلطان الدُّنيا أريد، وما للدُّنيا أعمل، وإِنَّ ما ترى سيصير إِلى زوالٍ وانقطاعٍ، وإِنَّما نحن أخوان، وقُوَّامٌ بأمر الله عزَّ وجل، وما يضير الرَّجل أن يلي عليه أخوه في دينه، ودنياه، بل يعلم الوالي: أنَّه يكاد يكون أدناهما إِلى الفتنة، وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إِلا من عصم الله عزَّ وجل، وقليل ما هم.
وعندما طلب أبو عبيدة من خالدٍ أن ينفِّذ مهمَّة قتاليَّةً تحت إِمرته؛ أجابه خالد قائلاً: أنا لها ـ إِن شاء الله تعالى ـ وما كنت أنتظر إِلا أن تأمرني! فقال أبو عبيدة: استحييت منك يا أبا سليمان! فقال خالد: والله لو أُمِّر عليَّ طفلٌ صغيرٌ لأُطيعنَّ له، فكيف أخالفك وأنت أقدم منِّي إِيمانًا، وأسبق إِسلاماً، سبقت بإِسلامك مع السَّابقين، وأسرعت بإِيمانك مع المسارعين، وسمَّاك رسول الله (ص) بالأمين، فكيف ألحقك، وأنال درجتك، والان أُشهدك أنِّي قد جعلت نفسي حبساً في سبيل الله تعالى، ولا أخالفك أبداً، ولا وليتُ إِمارةً بعدها أبداً. ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل أتبع قوله بالفعل، وقام على الفور بتنفيذ المهمَّة المطلوبة منه.
ويظهر بوضوحٍ من قول خالد، وتصرُّفه هذا: أنَّ الوازع الدِّيني والأخلاقي كان مهيمناً على تصرُّفات خالدٍ، وأبي عبيدة رضي الله عنهما. وقد بقي خالدٌ محافظاً على مبدأ طاعة الخليفة، والوالي بالرُّغم من أنَّ حالته الشَّخصيَّة قد تغيَّرت من حاكمٍ إِلى محكوم بسبب عزله عن قيادة الجيوش. (خالد بن الوليد، صادق عرجون، ص 324).
إِنَّ عزل خالد هذه المرَّة (الأولى)، لم يكن عن شكٍّ من الخليفة، ولا عن ضغائن جاهليَّة، ولا عن اتِّهامه بانتهاك حرمات الشَّريعة، ولا عن طعنٍ في تقوى، وعدل خالدٍ، ولكن كان هناك منهجان لرجلين عظيمين، وشخصيَّتين قويَّتين، كان يرى كلٌّ منهما ضرورة تطبيق منهجه، فإِذا كان لابدَّ لأحدهما أن يتنحَّى؛ فلابدَّ أن يتنحَّى أمير الجيوش لأمير المؤمنين من غير عنادٍ، ولا حقدٍ، ولا ضغينةٍ.
إِنَّ من توفيق الله للفاروق تولية أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ لجيوش الشام، فذلك الميدان بعد معركة اليرموك كان يحتاج إِلى المسالمة، واستلال الأحقاد، وتضميد الجراح، وتقريب القلوب، فأبو عبيدة ـ رضي الله عنه ـ يسرع إِلى المسالمة إِذا فتحت أبوابها، ولا يبطأ عن الحرب إِذا وجبت عليه أسبابها، فإِن كانت بالمسالمة جدوى؛ فذاك وإِلا فالاستعداد للقتال على أهبته، وقد كان أبناء الأمصار الشَّاميَّة يتسامعون بحلم أبي عبيدة، فيقبلون على التَّسليم إِليه، ويؤثرون خطابهم له على غيره، فولاية أبي عبيدة سنَّةٌ عمريَّةٌ، وكانت ولايته للشَّام في تلك المرحلة أصلح الولايات لها. (خالد بن الوليد، صادق عرجون، ص 324).
- العزل الثاني: قصة عزل سيف الله خالد بن الوليد بالمرة الثانية
وفي (قنِّسرين) جاء العزل الثاني لخالدٍ، وذلك في السَّنة السَّابعة عشرة، فقد بلغ أمير المؤمنين: أنَّ خالداً وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم، وتوغَّلا في دروبهما، ورجعا بغنائم عظيمةٍ، وأنَّ رجالاً من أهل الافاق قصدوا خالداً لمعروفه، منهم الأشعثُ بن قيسٍ الكندي، فأجازه خالدٌ بعشرة الاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيءٌ في عمله، فكتب عمر إِلى قائده العامِّ أبي عبيدة يأمره بالتَّحقيق مع خالد في مصدر المال الَّذي أجاز منه الأشعث تلك الإِجازة العامرة، وعزله عن العمل في الجيش إِطلاقًا، واستقدمه المدينة، وتم استجواب خالد، وقد تمَّ استجواب خالد بحضور أبي عبيدة، وترك بريد الخلافة يتولَّى التحقيق، وترك إِلى مولى أبي بكر يقوم بالتَّنفيذ، وانتهى الأمر ببراءة خالدٍ أن يكون مدَّ يده إِلى غنائم المسلمين، فأجاز منها بعشرة الاف ولما علم خالد بعزله، ودَّع أهل الشَّام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إِظهار أسفه على هذا العزل الَّذي فرَّق بين القائد وجنوده أن قال للنَّاس: إِن أمير المؤمنين استعملني على الشَّام حتَّى إِذا كانت بثينةً، وعسلاً؛ عزلني. فقام إِليه رجلٌ فقام: اصبر أيها الأمير! فإِنَّها الفتنة. فقال خالد: أما وابن الخطَّاب حيٌّ، فلا.
وهذا لون من الإِيمان القاهر الغلاب، لم يرزقه إِلا المصطفون من أخصَّاء أصحاب محمَّدٍ (ص)، فأيَّة قوَّةٍ روحيَّة سيطرت على أعصاب خالد في الموقف الخطير؟ وأيُّ إِلهامٍ ألقى على لسان خالدٍ ذلك الردّ الهادئ الحكيم. (الدَّولة الإِسلاميَّة في عصر الخلفاء الرَّاشدين، حمدي شاهين، ص 149).
سكن الناس، وهدأت نفوسهم بعد أن سمعوا كلمة خالد في توطيد قواعد الخلافة العمريَّة، وعرفوا: أنَّ قائدهم المعزول ليس من طراز الرِّجال الَّذين يبنون عروش عظمتهم على أشلاء الفتن، والثَّورات الهدَّامة، وإِنَّما هو من أولئك الرِّجال الذين خلقوا للبناء، والتشييد، فإِن أرادتهم الحياة على هدم ما بنوا؛ تساموا بأنفسهم أن يذلَّها الغرور المفتون. (عبقرية عمر، ص، 158).
ورحل خالد إِلى المدينة، فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين، فقال عمر متمثلاً:
صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعَ كُصُنْعِكَ صَانِعٌ وَمَا يَصْنَعُ الأقوامُ فَالله يَصْنَعُ.
وقال خالدٌ لعمر: لقد شكوتُك إِلى المسلمين، وبالله إِنَّك في أمري غير مُجملٍ يا عمر! فقال عمر: من أين هذا الثَّراء؟ قال: من الأنفال، والسُّهمان، ما زاد على السِّتين ألفًا فلك، فقوَّم عمر عروضه فخرجت إِليه عشرون ألفًا، فأدخلها بين المال. ثمَّ قال: يا خالد! والله إِنَّك عليَّ لكريمٌ، وإِنَّك إِليَّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيءٍ. (أباطيل يجب أن تمحى من التَّاريخ، ص 134).
وكتب عمر إِلى الأمصار: إِنِّي لم أعزل خالداً عن سخطةٍ، ولا خيانةٍ، ولكنَّ النَّاس فُتنوا به، فخفت أن يوكلوا إِليه، ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا: أنَّ الله هو الصَّانع، وألا يكونوا بعرض فتنةٍ. (البداية والنِّهاية ،7/115).
- مجمل أسباب العزل، وبعض الفوائد:
ومن خلال سيرة الفاروق يمكننا أن نجمل أسباب عزل خالدٍ ـ رضي الله عنه ـ في الأمور التَّالية:
- حماية التَّوحيد: ففي قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: ولكنَّ النَّاس فتنوا به، فخفت أن يُوكَلوا إِليه، ويُبتلَوا به، يظهر خشية عمر من فتنة النَّاس بخالدٍ، وظنِّهم أنَّ النَّصر يسير في ركاب خالدٍ، فيضعف اليقين بأنَّ النَّصر من عند الله، سواءٌ كان خالدٌ على رأس الجيوش، أم لا، وهذا الوازع يتَّفق مع حرص عمر على صبغ إِدارته للدَّولة العقائديَّة الخالصة، بخاصَّةٍ وهي تحارب أعداءها حرباً ضروساً متطاولةً باسم العقيدة، وقوَّتها، وقد يقود الافتتان بقائدٍ كبيرٍ مثل خالد خالداً نفسه إِلى الافتتان بالرَّعية، وأن يرى نفسه يوماً في مركز قوَّة لا يرتقي إِليها أحدٌ، بخاصَّةٍ أنَّه عبقرية حربٍ، ومنفق أموالٍ، فيجرُّ ذلك عليه وعلى الدَّولة أمر خسرٍ، وهو إِن كان احتمالاً بعيداً في ظلِّ ارتباط النَّاس بخليفتهم عمر، وإعجابهم به، وفي ظلِّ انضباط خالدٍ العسكريِّ وتقواه، فقد يحدث يوماً بعد عمر، ومع قائدٍ كخالد، ممَّا يستدعي التَّأصيل لها في ذلك العصر، ومع أمثال هؤلاء الرِّجال، والخوف في هذا الأمر من القائد الكفء أعظم من الخوف من قائدٍ صغيرٍ لم يبل أحسن البلاء، ولم تتساير بذكره الأنباء. (التاريخ الإِسلامي 11/147).
كان عمر يرى أنَّ فترة تأليف القلوب، وإِغراء ضعفاء العقيدة بالمال، والعطاء قد انتهت، وصار الإِسلام في غير حاجةٍ إِلى هؤلاء، وأنَّه يجب أن يوكل النَّاس إِلى إِيمانهم، وضمائرهم، حتَّى تؤدِّي التَّربية الإِسلاميَّة رسالتها في تخريج نماذج كاملةٍ لمدى تغلغل الإِيمان في القلوب، بينما يرى خالدٌ: أنَّ ممَّن معه من ذوي البأس، والمجاهدين في ميدانه من لم تخلص نيَّتهم لمحض ثواب الله، وأنَّ أمثال هؤلاء في حاجةٍ إِلى من يقوِّي عزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال (الدَّولة الإِسلاميَّة في عصر الخلفاء الرَّاشدين، ص،151).
كما أنَّ عمر يرى: أنَّ ضَعفة المهاجرين أحقُّ بالمال من غيرهم، فعندما اعتذر إِلى النَّاس بالجابية من عزل خالدٍ، قال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضَعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس، ولا شكَّ: أن عمر، وخالداً مجتهدان فيما ذهبا إِليه، ولكن عمر أدرك أموراً لم يدركها خالدٌ رضي الله عنهما. (صحيح التَّوثيق في سيرة وحياة الفاروق، ص، 219).
- اختلاف منهج الفاروق عمر عن منهج سيف الله خالد في السياسة العامَّة:
فقد كان عمر يصرُّ على أن يستأذن الولاة منه في كلِّ صغيرةٍ، وكبيرةٍ، بينما يرى خالدٌ: أنَّ من حقه أن يُعطى الحرِّيَّة كاملةً من غير الرُّجوع لأحدٍ في الميدان الجهادي، وتطلق يده في كلِّ التَّصرُّفات إِيماناً منه بأنَّ الشَّاهد يرى ما لا يراه الغائب. (خالد بن الوليد، صادق عرجون، 349)
ولعلَّ من الأسباب أيضاً: إِفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات حتَّى تتوافر في المسلمين نماذج كثيرةٌ من أمثال خالد، والمثنَّى، وعمرو بن العاص، ثمَّ ليدرك النَّاس: أنَّ النَّصر ليس رهنًا برجلٍ واحدٍ، مهما كان هذا الرَّجل (الطريق إِلى المدائن، ص (367).
ملاحظة: استقى المقال مادته من كتاب: “عمر بن الخطاب”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد كثيرا من مادته من كتاب: “خالد بن الوليد”، للدكتور صادق عرجون.
للاطلاع أكثر على سيرة خالد بن الوليد (رضي الله عنه) يمكن الاطلاع على:
- خالد بن الوليد، صادق عرجون، الدَّار السُّعوديَّة، الطَّبعة الرَّابعة 1407ه/ 1987م.
- نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإِسلامي، ظافر القاسمي، دار النَّفائس، بيروت، الطَّبعة الثَّالثة 1407 هـ/1987 م.
- أباطيل يجب أن تمحى من التَّاريخ، إِبراهيم شعوط، المكتب الإِسلامي، الطَّبعة السَّادسة 1408 هـ/1988 م.
- عبقريَّة خالد، عبَّاس محمود العقاد، المكتبة العصريَّة ـ بيروت.
- الدَّولة الإِسلاميَّة في عصر الخلفاء الرَّاشدين، حمدي شاهين، دار القاهرة بدون تاريخ الطَّبعة.
- حروب الإِسلام في الشَّام في عهود الخلفاء الرَّاشدين، محمَّد أحمد باشميل، الطَّبعة الأولى 1400 هـ/ 1980 م.
- صحيح التَّوثيق في سيرة وحياة الفاروق عمر بن الخطَّاب، مجدي فتحي السَّيِّد، دار الصَّحابة للتُّراث بطنطا، الطَّبعة الأولى 1417 هـ/1996 م.
- الطَّريق إِلى المدائن، أحمد عادل كمال، دار النَّفائس، الطَّبعة السَّادسة 1406 هـ /1986 م
- عمر بن الخطاب، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2003م.