مقالاتمقالات مختارة

حماس والنقاش حول إيران

حماس والنقاش حول إيران

بقلم عبدالله عقرباوي

على وقع أنباء اقتراب تشكيل “ناتو عربي” لمواجهة نفوذ إيران في المنطقة، واشتداد الخناق الأمريكي على طهران، تطفو على السطح مجددًا سجالات تحديد “أولويات العمل العربي المشترك”، كما يسميها البعض؛ ومن ثم “تقييم” أداء الفاعلين في المنطقة بناءً عليها. ولمناقشة تلك القضية، كغيرها من القضايا السياسية، في إطار بحثي وأكاديمي، فإنه يتوجب الالتزام بضوابط أهمها الموضوعية القائمة على الحقائق والتجرد بأعلى مستوياته الممكنة.

كما يتطلب هذا النقاش “السياسي العلمي الأكاديمي” تأجيلاً -غير مرتبط بالأهمية- للأبعاد العاطفية والأخلاقية، كونها تصنف تحت بند “الذاتية والانطباعية، لا “الموضوعية”، فضلًا عن كون “النسبية” صفة لازمة لتلك الأبعاد؛ ومن ثم فإن وضعها في مقدمة النقاش قد يؤثر بشكل كبير على علميته وموضوعيته ونتائجه. إلا أن بحث قضية “إيران” تتعقد فيه مهمة الفصل بين المفاهيم المُشار إليها، لاعتبارات عديدة بينها حساسية القضية في الأوساط العربية المتفاعلة مع إيران سلبًا وإيجابًا؛ ما يجعل الالتزام بالعلمية والموضوعية والتجرد مهمة صعبة، ويحتم تعقيد النقاش وشكل في المقابل.

إن تغليف أو تأطير الحديث حول إيران ومشروعها في المنطقة بغلاف أحد أوجه سلوك طهران في المنطقة (ما ترتكبه أو ينسب لها من أدوار سلبية على غرار أحد أشكال دورها في سوريا والعراق واليمن) هو تأطير المنهج العلمي الذي يسعى إلى الوصول لفهم شامل ودقيق لذلك “المشروع”، ويغلق الباب مبكراً جداً أمام تعاطٍ متكامل مع مكون إقليمي لا يختلف اثنان على أهميته في المنطقة.

طبيعة الدولة الإيرانية

يمكن الزعم أن إيران حالة استثنائية فريدة في العديد من الجوانب مقارنة بغيرها من القوى الإقليمية (تركيا، السعودية، مصر، والكيان الصهيوني). فشكل النظام السياسي في البلاد فريد من حيث وجود رأس للنظام فوق كل السلطات، وهو “الولي الفقيه”. كما يحوي ذلك النظام منظومتين فاعلتين في الشأنين الداخلي والخارجي، أولها “الحكومة”، ويقودها رئيس الجمهورية (وهو اليوم حسن روحاني)، والثانية هي “الحركة الإسلامية الشيعية” (الحرس الثوري).

وعلى الرغم أن الولي الفقيه يعد رأس المنظومتين، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تطابق أو تشارك أفعالهما دائماً، الأمر الذي يلعب دورًا في توسيع خيارات البلاد السياسية، سيما الخارجية (أو الحد منها في بعض الأحيان)؛ وهي معادلة تتميز بها إيران في المنطقة، ويصل الأمر عند بعض المختصيين إلى حد اعتبار ذلك تمرداً على شكل الدولة الحالية Nation State.

ويكمن الاستثناء الثاني لإيران في امتلاكها مشروعًا ذا بعد أيديولوجي (قد ينظر له كمشروع طائفي) عابر للحدود، بمعنى أن الانتماء له لا يتوقف عند الحدود السياسية للدول، وترعاه الحركة الإسلامية الشيعية الإيرانية (الحرس الثوري)؛ وهو ما ينقلنا إلى الاستثنائية الإيرانية في النظر لحلفائها من غير الدول في المنطقة، كحزب الله في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن، والعديد من التنظيمات في العراق، وربما في سوريا لاحقاً، وهو نموذج “الوحدة الاستراتيجية” الذي تفتقد إليه بقية القوى الإقليمية.

علاقات طهران الخارجية ومشهد ما بعد 2010

وفي العلاقة مع النظام الدولي، بدأت الدولة الإيرانية الحديثة (الجمهورية الإسلامية) في حالة من التمرد عليه، وتعزز ذلك بعد تغير شكل النظام الدولي ليصبح أحادي القطب، بهيمنة أمريكية. وعلى الرغم من أن هذه النقطة تفتح أبواب نقاش أوسع، وتتعدد فيها وجهات النظر، إلا أن أشكال التمرد الإيراني على النظام الدولي في المحصلة هي الأوسع والأكثر بروزاً مقارنة بالقوى الإقليمية الأخرى، على الأقل، ويساعد في فهم ذلك “استثنائية” الدولة الإيرانية، المشار إليها أعلاه.

ولعلاقة طهران مع القوى الإقليمية الأخرى خارطة شديدة التعقيد وغير ثابتة، إلا أن لها ميزتان أساسيتان: التنافس على الهيمنة، مع تركيا والسعودية ومصر، والعداء مع الكيان الصهيوني، وهو ما يجب الرجوع إليه دائمًا في سياق تفسير سلوك إيران الإقليمي. ومع التحولات الإقليمية الكبرى، منذ أواخر عام 2010، باتت الإجابة على التساؤلات بشأن السلوك الإيراني أكثر إلحاحًا؛ وتعددت التفسيرات وردات الفعل.

ويمكن الزعم هنا أن لإيران نظرية منسجمة مع طبيعتها ونظرتها لنفسها، في التعامل مع تلك التحولات الإقليمية، وتعتمد تلك النظرية بالدرجة الأولى (مع وجود أسس أخرى عديدة) على قناعة بأن حالة “السيولة” في المنطقة ستدفع بالعامل الدولي (الولايات المتحدة) إلى العمل على تغيير المعادلة في المنطقة، وربما خارطتها، بتعزيز نفوذ حلفاء مناهضين لطهران (الكيان الصهيوني والسعودية وحلفائها)، وهو ما ثبت فعلاً خلال السنوات التسع الماضية.

أكثر من ذلك، فقد استطاع “العامل الدولي” دفع القوى الإقليمية الحليفة له إلى التقارب بينها، وضبط إيقاع مشترك في مواجهة إيران ومصالحها في المنطقة. هذه النظرية الإيرانية نجم عنها سلوك وضع طهران بشكل أو بآخر في مواجهة ما بدا طموحاً لدى شعوب بعض الدول للتغيير والتخلص من أنظمة توصف بالمستبدة.

وبالنظر إلى موقع سوريا المركزي في ما يسمى “الأمن القومي العربي”، وأهميتها الكبيرة بالنسبة لإيران، وتأثير الوضع فيها على أمن الكيان الصهيوني؛ فقد حظيت بالقدر الأكبر من التجاذبات، بل يمكن القول أن الموقف إزاء الملف السوري تحديداً بات مفصلياً لدى الكثير من القوى السياسية والشعبية، وامتد ليصبح نقطة التمحور السياسي في المنطقة في فترة من الفترات، عوض الموقف من الكيان الصهيوني قبل عام 2010، الذي تسبب بتقسيم النظام الإقليمي إلى “محور اعتدال” و”محور ممانعة”.

موقع حماس في الصورة

بالنظر إلى تموضع حماس الإقليمي قبل 2010، ووجودها في ما يشبه التحالف مع إيران وسوريا وحزب الله في مواجهة الكيان الصهيوني (وجهة هذا التمحور مهم جداً في هذا السياق)؛ فقد وقعت الحركة أمام تحد هو الأهم، برأيي، في تاريخها، منذ بروزها كقوة سياسية فاعلة على الساحة الفلسطينية (بعد 2006).

لحماس طبيعتها الخاصة في تشكيلها الفكري والسياسي وهي طبيعة معقدة يتطلب شرحها مساحة أوسع، ولكن في المحصلة فإن قيادتها أخذت قرارها الأصعب في الخروج من سوريا، وهو ما تدحرج لاحقاً ليصبح موقفاً سلبياً من إيران، وتموضعاً في مربع جديد بدا يتشكل ولم ينجح (تركيا وقطر وقوى التغيير في المنطقة)- وتلك الخطوة أيضًا تتطلب نقاشاً واسعاً.

ومهما تعقدت طبيعة حماس، إلا أن الثابت الأصيل فيها أنها حركة تحرر وطني في صراع وجودي مع الكيان الصهيوني، ومن المرجح دائماً أن يضبط ذلك سلوكها السياسي وخياراتها الإستراتيجية، إلا أن ذلك، ونظراً لطبيعتها المعقدة، لم يكن العامل الوحيد في سياستها تجاه الأزمة السورية. ولتجاوز الغرق في التفاصيل، فإن حماس في النهاية، وكما يمكن لأي مراقب أن يرى بوضوح؛ تعيش اليوم واحدة من أصعب المراحل، إن لم تكن الأصعب على الإطلاق، وقد يكون لها تأثيرات عميقة على شكلها وتأثيرها، وربما وجودها.

وقد كان لتراجع علاقتها مع إيران التأثير الأكبر، إذ لم يقتصر على إفقاد الحركة داعماً مادياً أوعسكرياً، بل وحليفاً إقليمياً، ميزته الأساسية، بالنسبة لحماس، أنه في حالة عداء (يصفها البعض بالوجودية) مع الكيان الصهيوني. إن المقصود من النقاش أعلاه أن النظرة إلى إيران من قبل أي قوة في المنطقة، تريد لعب دور في المرحلة الحالية أو مستقبلاً؛ يجب أن تكون شاملة متعددة الزوايا، ولا يغلفها سلوك طهران العملياتي في سوريا والعراق أو غيرها.

في المقابل، فإن هذه السردية قد لا تكون مفيدة لمن لا يعتبر الكيان الصهيوني عدواً للأمة العربية والإسلامية، ومانعاً أساسياً لنهضتها وتحررها من هيمنة القوى الدولية على مقدراتها، ومشروعاً توسعياً على حسابها. وفي السياق، لا يعني دائماً أن تتحد رؤية حماس، كحركة تحرر وطني تعيش حصاراً مركباً، مع رؤية إيران في مجمل مشروعها الإقليمي.

وفي الوقت ذاته، لا أجدني متقبلاً لمبدأ أن حركة كحماس تقبل دعماً من إيران فقط بسبب غياب قوى داعمة أخرى، تستطيع أن تقدم ما تقدمه إيران، أو كما يشبهه البعض بـ”رخصة أكل الميتة”، وهو مبدأ قاصر وغير عملي ولا يصلح في الخيارات السياسية وخاصة في حالة كحالة حماس. إن المبدأ الأدوم والأنفع يفترض أن يقوم على أساس قناعة أن طبيعة الصراع بين إيران والكيان الصهيوني توفر حالة إقليمية، يمكن البناء عليها وتوسيعها لتصبح حالة ضاغطة على الكيان وعلى مجمل مشروع فرض الهيمنة الصهيونية في المنطقة، ومن الأجدر أن تتطور الشراكة لتصبح عاملاً مساعداً على وقف النزيف في المنطقة، الذي بات واضحاً أنه يخدم الكيان الصهيوني فقط.

وفي البعد الأخلاقي والقيمي، وهو عامل مهم، شئنا أم أبينا، في التأثير على سلوك الحركات السياسية، كونها تتشكل من مجموعة من أفراد لديهم منظوماتهم القيمية والأخلاقية؛ فإن النقاش يتشعب ويتداخل مع البعد السياسي حتى يكاد يصعب إعادة التفصيل. ونظراً لكونها “Subjective”، فإنه من الممكن رسم خارطة قيمية واسعة ومتعددة وجهات النظر، ويصعب ضبطها، فمجابهة نظام عنصري ومجرم ومحتل كالكيان الصهيوني قد يعد قيمة أخلاقية عليا تحظى بالأولوية عند البعض، كما هو الحال برفض سلوك كل الأنظمة المستبدة التي تستبيح دماء الأبرياء.

إن الخطورة هنا تكمن عند وقوف السياسي (الفاعل) أمام الأسئلة الأخلاقية، والغرق فيها، وهو ما سيجعل منه عرضة لكل أنواع “المشاريع الأخرى”، والتي هي في مجمل سلوكها “لا أخلاقية”. وإذا أردنا إسقاط ذلك على حماس وموقفها من الأزمة السورية، فإن الحركة تأتي في المرتبة الثانية بعد الشعب السوري في دفع الثمن جراء موقفها، الذي برره البعض بالبعد الأخلاقي (وهذا يحتاج لنقاش أيضاً).

والحقيقة الأهم للفاعلين السياسيين أو للقوى الساعية لبلورة فهم أو دور إقليمي، أن إيران حقيقة صارخة في المنطقة، وتتمتع بمؤهلات للعب دور إقليمي مستقل أكثر من غيرها، ومن ثم فإن النظر إليها والتعامل معها يجب أن يكون شاملاً ولا تغلفه العاطفة فقط؛ وهذا يشمل من يرى في إيران وموقفها من القضية الفلسطينية فرصة لمواجهة الكيان الصهيوني.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى