حقيقة الدين وترشيد التدين
بقلم أ. أسامة شحادة
لأن من طبيعة البشر الملل والقصور والنقص والخطأ والهوى فإن تدين الناس يصيبه الخلل مع طول المدة، ومن مظاهر خلل التدين تخلف مقتضيات الإيمان عن سلوك المؤمنين إما بالتقصير بالقيام بالواجبات الإيمانية كأركان الإسلام مثلاً، أو بتأدية هذه الأركان وغيرها من شعائر الدين بشكل غير سليم كالحجاب المتبرج لدى كثير من المسْلمات، أو الخلل في فهم عقيدة التوحيد التي هي جوهر الإسلام، فلذلك نجد مَن يقلد الجاهلية بالاستغاثة بالأموات والطواف بالقبور، أو تجد أنه يتقبل أفكارا تصادم صريح القرآن الكريم كمن يعرض عن آيات القرآن الكثيرة في خلق الله عز وجل لجنس الإنسان من طين “وبدأ خلق الإنسان من طين” (السجدة: 7) ليقبل مزاعم الدجل بتطور الإنسان من حيوان! أو يغلو ويتشدد بخلاف وسطية الإسلام ورحمته فيكفّر المسلمين ظلماً، أو ينتهك الأموال والدماء المعصومة للمسلمين والمسالمين من غير المسلمين بغياً وعدواناً.
ومن هنا جاء تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الإيمان بضرورة تجديد التدين “إن الإيمان لَيَخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى: أن يجدد الإيمان في قلوبكم” رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني، ويَخلق أي يبلى ويهترئ كالثوب القديم، وقال صلى الله عليه وسلم في وصف تبدل حالة الإيمان في قلب المؤمن بقوله: “ما من القلوب قلبٌ إلا وله سحابةٌ كسحابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابةٌ، فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء” رواه أبو نعيم وصححه الألباني.
وعليه فإن المؤمن يحتاج دوماً لمراقبة إيمانه وتدينه وتعديل مساره، ومن هنا كان حرص القرآن الكريم على أهمية تذكير المؤمنين وتكرار التذكير دوماً “وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” (الذاريات: 55).
لذلك فإن الدعوات لترشيد التدين والتي تخرج كل مدة هي دعوات سليمة في حد ذاتها، لأن هناك حاجة لتجديد وتعديل التدين عند الناس، ولكن تختلف هذه الدعوات في مقاصدها وغاياتها من جهة وفي أدواتها وأساليبها من جهة أخرى.
فبعض خصوم الإسلام وأعدائه من الداخل والخارج يتخذون من شعار تصحيح التدين ستاراً لهدم الإسلام نفسه وتحريفه وتبديله بالكليّة باسم التنوير والتجديد، كما يفعل غلاة العلمانية والمادية في كتبهم ومحاضراتهم وبرامجهم الإعلامية، وفي مقابل هؤلاء تأتي دعوات العلماء الربانيين والمصلحين المخلصين لترشيد تدين المسلمين بعيداً عن الإفراط والتفريط والتحريف والتبديل.
وتصحيح التدين وترشيد مساره يكون بالتزام الدين الصحيح نفسه وتجنب الإضافات المناقضة له سواء كانت إضافات قديمة أو حديثة، وقد جلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الدين في حديث جبريل الطويل المشهور، حيث جاء جبريل عليه الصلاة والسلام على شكل رجل سائل متعلم للنبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان، وعقّب النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية بقوله: “فإنه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم” رواه مسلم.
فالدين هو أركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، والإحسان وهو عبادة الله عز وجل كأنك تراه ومنه الإحسان للخلق جميعاً، وبالطبع أركان الإيمان والإسلام والإحسان تقتضى شمول المعاملات المالية والاجتماعية والتزام كافة أوامر ونواهى الوحي الرباني في القرآن الكريم والسنة النبوية.
فالدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق والتام “اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً” (المائدة: 3)، وقد طُبق الدين بشكل صحيح وتام من قبل الصحابة الكرام الذين أصبحوا المعيار والميزان الذي توزن به صحة التدين عبر الزمن “فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنما هم في شقاق” (البقرة: 137).
فما يحتاجه المسلم والمسلمة لتجديد وتعديل التدين هو تعلم هذه الأصول بشكل سليم وعلى يد علماء ودعاة ثقات، وهذا أصبح ميسرا في هذا الزمن مع توفر الدروس والكتب والمقاطع بمختلف اللغات ومختلف الأساليب في شبكة الإنترنت، ولم تعد مقصورة على حلقات العلم في المساجد وكليات الشريعة، وإن كانت هي الأصل والأفضل، لكن يمكن لكل مسلم ومسلمة اليوم مراجعة وتعديل وزيادة معرفتهم ووعيهم بهذه الأصول في كل وقت وفي كل مكان.
وبعد تعلم ومراجعة هذه الأصول يلزم المسلم والمسلمة العمل بمقتضى هذه المعرفة والعلم ودوام الدعاء بالثبات على طريق الاستقامة، والتواصي بالحق والصبر على القيام به، ومن هنا تنبع أهمية الصحبة الصالحة وخطورة رفقة السوء، وبهذا يتجلى حرص الإسلام على الجماعية في عباداته “واركعوا مع الراكعين” (البقرة: 43).
إن الدين ثابت “إن الدين عند الله الإسلام” (آل عمران: 19) والتدين البشري هو المتغير وهو الذي يحتاج إلى ترشيد وتصويب كل فترة، ومن ترشيد التدين ضبط عملية الاجتهاد في النوازل والمستجدات، فلا يقوم بالاجتهاد إلا من حصل أدوات الاجتهاد الشرعي الصحيحة والتزم بالضوابط المنهجية والعلمية للاجتهاد الشرعي، وكما أبدع وأحسن علماء الأمة الإسلامية بدأ من الأئمة الأربعة وطبقتهم في ترشيد التدين بالاجتهاد ضمن ضوابط الشرع وقدموا للبشرية حضارة إسلامية سامقة، فإن البشرية لا تزال تنتظر من مجتهدى الإسلام مزيداً من الإبداع والإتقان في معالجة أزمات البشرية العصرية ضمن ضوابط الشرع والدين.
وختاماً يجب على المسلم والمسلمة اليوم الحذر واليقظة من سياسة دعاة الضلال والباطل الداعين لترشيد التدين مع قيامهم بغلق منافذ ترشيد التدين الصحيح، فكثير من القنوات الفضائية الجيدة أُغلقت، والكثير من العلماء والدعاة يتم منعهم من النشاط العلني، وهناك تضييق على كثير من الهيئات الثقافية والدعوية الإسلامية الرشيدة، ويقابل هذا حالة من السيولة في فتح المنابر والمناشط لأعداء الدين والإسلام في تقديم خرافاتهم حول الدين والتدين، فالحذر الحذر من الوقوع ضحية لمكر أعداء الدين!
إن الزعم بأن ترشيد التدين يكون بتغيير العقيدة الإسلامية وتبديل الأحكام الشرعية واتخاذ سلوك مخالف لمكارم الأخلاق والعفة والفضيلة هو الصراط المعوج الذي يناقض الصراط المستقيم الذي نسأل الله عز وجل الهداية إليه كل يوم على الأقل 17 مرة.
(المصدر: موقع أ. أسامة شحادة)