بقلم محمد إلهامي – اسلام أون لاين.
ونعني به حق الحيوان في الطعام والشراب والراحة، وهي أمور أوجبها الإسلام على صاحب الحيوان، وتوعد من لم يفعلها بالعذاب في الآخرة، ووردت في هذا نصوص عديدة؛ منها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال: “عُذِّبَت امرأة في هِرَّةٍ حبستها حتى ماتت جوعا، فدخلت فيها النار، قال: فقال: والله أعلم، لا أنتِ أطعمتِها ولا سقيتِها حين حبستيها، ولا أنت أرسلتِها فأكلت من خشاش[1] الأرض”[2]. وحين صلى النبي صلاة الكسوف ذات مرة قال: “دَنَتْ مني النار حتى قلتُ أي ربَّ، وأنا معهم، فإذا امرأة –حسبت أنه قال:- تخدشها خرة، قال: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعا”[3].
واستنبط العلماء من الحديث وجوب نفقة الحيوان على مالكه[4]، والجمهور على أن للقاضي إجبار صاحب الحيوان على النفقة عليه فاعتبروا الحيوان طرفا في القضاء ويُقضَى له، وخالف في هذا الأحناف لاعتبارات “إجرائية”[5].
والهرة مثال على الحيوان الذي يدخل في حكم الإنسان، ولهذا فهذا الحكم ينسحب على ما كان في معناها من الدواب[6]، ويزداد التشديد في حالة الحيوانات النافعة إذ هي “مملوكة محبوسة مشغولة بمصالح المالك”[7]، حتى مالك النحل يجب عليه “أن يُبقي له شيئًا من العسل في الكوارة (أي: خلية النحل) بقدر حاجته إن لم يَكْفِه غيره”[8].
وهذا التشديد في الحيوانات النافعة المملوكة يبدو واضحا في حديث آخر، إذ مرَّ النبي ببعير “قد لَحِق ظهره ببطنه” من شدة الهزال، فقال صلى الله عليه وسلم : “اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة… فاركبوها صالحة وكلوها صالحة”[9].
قال المناوي: “يعني: تعهَّدوها بالعلف؛ لتتهيَّأ لما تُريدونه منها، فإن أردتم ركوبها وهي صالحة للركوب قوية على المشي بالراكب فاركبوها، وإلا فلا تُحَمِّلُوها ما لا تطيقه… وإن أردتم أن تنحروها وتأكلوها فكلوها حال كونها سمينة صالحة للأكل، وخصَّ الركوب والأكل لأنهما من أعظم المقاصد”[10]، وليس حصرا عليهما.
ودليل ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى في حديث آخر بالإبل حال السفر فقال: “إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير، وإذا عرَّسْتُم بالليل فاجتنبوا الطريق فإنها مأوى الهوامّ بالليل”[11].
ومعنى الحديث أن المسافر إذا كان في زمن الخصب أو في أرض خصبة فعليه أن يبطئ ويراعي أخذ الإبل حقها من الأكل، وإذا كان في زمن الجدب أو في أرض مجدبة فليسرع السير بها كي يجنب إبله مشقة السفر مع قلة المرعى[12]، وإذا جاء وقت الراحة والنزول فليكن هذا في جنبات الطريق، وذلك أن الليل تنشط فيه كثير من الكائنات من السباع وحتى الحشرات فهي تسلك الطرق المطروقة لسهولتها بالليل وتتغذى على ما يخلفه المسافرون من الطعام ونحوه، فيتحقق بهذه الوصية منفعتان؛ الأولى: اجتناب البشر لما يؤذي من هذه الكائنات التي تنشط بالليل[13]،
والثانية: اجتناب إيذاء هذه الكائنات في أرزاقها وأقواتها التي تتغذى عليها ليلا[14]. وللحديث رواية أخرى فيها زيادةٌ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تَعْدوا المَنَازل”[15]، أي لا تتجاوزا محطات السفر التي يكون فيها الراحة سعيا للإسراع في السفر، وذلك “لأن فيه إتعاب الأنفس والبهائم”[16].
وبهذا جمع الحديث بين الرفق بالبشر، والرفق بالإبل، والرفق بالكائنات البرية، وهذا من جوامع كلمه عليه أفضل الصلاة والسلام.
فإذا لم ينفق صاحب الحيوان عليه بما يصلح شأنه فالجمهور –ومعهم أبو يوسف ومن وافقه من الأحناف- على أن للقاضي إجباره على النفقة[17]، فإن لم يفعل امتناعا أو عجزا عن النفقة، قال المالكية: يقُضِي بإخراج الحيوان من ملكه ببيع أو صدقة أو ذبح إنْ كان مما يُذبح[18]، وأضاف الشافعية حلا آخر وهو تأجير الحيوان، وإذا لم يمكن التأجير فعل الحاكم ما رآه مناسبًا، فإنْ تعذَّر أُنْفِق عليها من بيت المال، فإن تعذَّر أنفق عليها المسلمون[19]، وأضاف الحنابلة حلا آخر؛ وهو أن يُنفق الحاكم على الحيوان بقرض على صاحب الدابَّة[20].
وهكذا أبدع الفقهاء في ابتكار الحلول التي تحفظ حق الحيوان في العناية به، وجعلوها –في حال العجز- مسؤولية الدولة، فإن عجزت فهي مسؤولية عموم المسلمين، فإن “هذه المسألة تجري فيها دعوى الحسبة”[21].
ومما نجده داخلا في هذه المسألة أن الإسلام قضى بطهارة سُؤر الحيوان، وهو ما بقي في الإناء بعد شرابه منه، ويشمل ذلك: سائر ما يؤكل لحمه، والهرة والبغال والحمير والسباع والطيور الجارحة، واستثني من هذا: الكلب والخنزير فسؤرهما نجس، ويُغسل ما ولغا فيه بالماء والتراب[22].
ومآل هذا الحكم –وهو موضع الشاهد- ألا يتحرج المسلم من إطعام وسقي أي حيوان مر به ولو لم يكن من أملاكه، كما وقع بين كبشة بنت كعب بن مالك رضي الله عنها -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أن أبا قتادة دخل فسكبت له وَضُوءًا فجاءت هرَّة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله قال: “إنها ليست بِنَجَسٍ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوَّافات”[23]. أي كالخدم[24].
وهذا التوجيه يفتح مسألة العناية بالحيوان غير المملوك، وقد سأل سراقة بن جعشم النبيَّ في مثل هذا، قال: سألت رسول الله عن ضالَّة الإبل تغشى حياضي، قد لُطْتُهَا[25] لإبلي، فهل لي من أجر إن سقيتها؟ قال: “نعم، في كل ذات كبدٍ حرَّى[26] أجر”[27].
فالحال هنا أن الصحابي أصلح البئر في ملكه لكي يسقي إبله، فجاءت إبل تشرب منه ليس واجبًا عليه سقيها إذ ليس هو مالكها، فوجَّهه النبي إلى الأجر الكائن في سقيها وسقي كل كائن حيٍّ.
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن سقي الحيوان المحتاج يغفر الذنوب ويُدخل الجنة، فهو بهذا من عظائم الأعمال عند المسلم، قال : “بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي. فملأ خَفَّه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له”، قالوا: يارسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: “في كل كبدٍ رطبة أجر”[28].
وبهذه الإضافة الأخيرة يكون الأجر عاما في كل حيوان وفي كل نوع إحسان، “فيحصل الثواب بسقيه والإحسان إليه -أيضًا- بإطعامه وغيره؛ سواء كان مملوكًا أو مباحًا، وسواء كان مملوكًا له أو لغيره”[29].
———————————————
[1] هوام الأرض وحشراتها، وقيل: نبات الأرض. النووي: شرح مسلم 14/240.
[2] البخاري (2236)، ومسلم (2242).
[3] البخاري (2235).
[4] النووي: شرح مسلم 14/241.
[5] لم يخالف الأحناف في وجوب الإنفاق على الحيوان ديانة وأن تاركه آثم، ولكنهم خالفوا في اعتبار الحيوان مؤهلا ليكون طرفا في التقاضي، وقالوا: في الإجبار نوع قضاء والقضاء يعتمد المقضي له ويعتمد أهلية الاستحقاق في المقضي له، وما ليس فليس؛ لكنه يؤمر به ديانة فيما بينه وبين الله تعالى، ويكون آثمًا معاقبًا.
السيواسي: شرح فتح القدير 4/427، 428.
[6] ابن حجر: فتح الباري 6/358.
[7] الشوكاني: نيل الأوطار 7/91.
[8] الخطيب الشربيني: الإقناع 2/483.
[9] أحمد (17662)، وأبو داود (2548)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط.
[10] المناوي: فيض القدير 1/164.
[11] مسلم (1926).
[12] العظيم آبادي: عون المعبود 7/170، 171.
[13] النووي: شرح مسلم 13/69.
[14] المناوي: شرح الجامع الصغير 1/205.
[15] أبو داود (2570)، وصححه الألباني.
[16] العظيم آبادي: عون المعبود 7/171.
[17] السيواسي: شرح فتح القدير 4/428.
[18] الدسوقي: حاشية الدسوقي 2/522.
[19] الخطيب الشربيني: مغني المحتاج 3/463، والإقناع 2/482، وزكريا الأنصاري: أسنى المطالب 3/455.
[20] عبد الرحمن العاصمي: حاشية الروض المربع 7/147، والبهوتي: كشاف القناع 5/494، والرحيباني: مطالب أولي النهى 5/662، والحجاوي: الإقناع 2/142.
[21] الموسوعة الفقهية الكويتية 5/119، 120.
[22] سيد سابق: فقه السنة 1/20 وما بعدها.
[23] أحمد (22633)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وابن ماجه (367)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط.
[24] ابن منظور: لسان العرب 9/225.
[25] معناه: أصلحت حياضي لشرب إبلي. السيوطي: شرح سنن ابن ماجه ص262.
[26] كبد حرى: أي كبد ظمآنة، وقيل: أراد به حياة صاحبها؛ لأنه إنما تكون كبده حرَّى إذا كان فيه حياة. السيوطي: شرح سنن ابن ماجه ص262.
[27] أحمد (7075)، وابن ماجه (3686)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط.
[28] البخاري: كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء (2234)، ومسلم: كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244).
[29] النووي: شرح مسلم 14/241.