مقالاتمقالات مختارة

حقائق حول علم الأخلاق عند المسلمين

بقلم أ. د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي

بدأ الاهتمام بالأخلاق في الإسلام في مظاهرَ شتى، ومن زوايا عديدة، إلى حد جعلها دِينًا؛ إذ فسَّر بعض المفسرين: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]؛ إنك على دين عظيم[1].

ومِن مُنطلق الأخلاق ضرورة اجتماعية، وضرورة حضارية، كان اهتمام الإسلام في مصدريَّة الكتاب والسُّنة بربط الأخلاق بالعقيدة، وفي رسمِ الصورة المُثْلى للشخصية الخلقية، وبيان حقيقة الإلزام والالتزام، وكان في هذه المبادئ ما يرد على أولئك الذين حاولوا أن يجرِّدوا القرآن والسنَّةَ من عطائهما الفكري والعقدي في آنٍ معًا، وفي الرد من خلال الآيات والأحاديث دحضٌ لكثير من الأفكار التي نثرها الاستشراق، فأصاب منها بعض أصحاب الدراسات المعاصرة.

وإذا كان هذا الاهتمام يثير سؤالًا مُؤدَّاه: هل أوجد هذا الاهتمامُ فكرًا أخلاقيًّا له منهجه وخصائصه؟

فإن الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن تضع نصب عينيها الحقائق التالية:

أولًا: كان النص الإسلامي في الأخلاق كافيًا في المرحلة الأولى (عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم)؛ حيث فهِم المسلمون منه قواعد السلوك، ومعاييرَه تبعًا لفهمهم الدَّقيق للفظ النصِّ الإسلامي، ووَعْيهم بأحكامه ومعانيه، لكنهم لم يكونوا بحاجةٍ إلى جلسات دراسة حول القيمة أو المعيار أو ما يشبهها من مصطلحات.

لكن ذلك لم يكن مانعًا لهم مِن التفكُّر حول المسائل الأخلاقية وقواعدها حين يقتضي الأمر ذلك، فحين جدَّت على ساحة المسلمين أحاديثُ حول الإيمان والعمل، والحكم في مرتكب الكبيرة، والجبر والاختيار، وغيرها من القضايا التي قد تبدو قضايا عقدية، وهي في حقيقتها قضايا أخلاقية، حين ذلك وُجِد عند المسلمين الفكرُ الأخلاقي في مرحلة مبكرة، أي: قبل نهاية القرن الأول الهجري، وحسبنا أن نذكر رسالةً للحسن البصري ت110 هـ، تُسمَّى (فرائض الإسلام)، تعتبر أقدم ما وصلنا مِن عمل اليوم والليلة في الفكر الأخلاقي، وتبِعها في مجالها أعمال مماثلة ومشابهة؛ مثل الزهد لابن مبارك، والزهد للإمام أحمد حنبل، والأدب المفرد للبخاري، ويلحق بها ما جاء في بابها مِن اتجاه المحدِّثين في رصد النصوص والتذكير بها خطوة على طريق التذكير وإعادة الناس إلى مستوى أمثل.

ثانيًا: هذا الفكر مرَّ بمراحل تُمثِّل نموَّه وحركته، فقد بدأ باهتمام المحدِّثين بمكارم الأخلاق وعمل اليوم والليلة[2]، ثم اتَّسَعت الدائرة فشمِلت موضوعات أخرى لدى الفقهاء والمتكلمين؛ كالحسبة ونظامها، وكالجبر والاختيار، واستمرَّ هذا التطور حتى كان الاحتكاك الثقافي بين المسلمين وثقافات أخرى، فتحدَّدت بتأثيرٍ من هذا الاحتكاك مواقف بعض المسلمين قَبولًا أو رفضًا، أو اختيارًا لمنهج معيَّن.

ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ؛ بل تطوَّر التأليف في الأخلاق تطورًا تخصصيًّا؛ حيث أفردت بعض الموضوعات بكتب مستقلَّة[3]، وهذه مرحلة من الاهتمام متقدمة ومتخصصة.

ثالثًا: مِن الحقائق الهامَّة في هذا الصدد أن الموقف من الفكر اليوناني لم يكن واحدًا لدى علماء المسلمين، ولذلك فإن بعضَهم قبِله وحاول التوفيق بينه وبين الإسلام، وبعضهم كان بعيدًا عنه تمامًا، الأمر الذي جعلنا نقول: إن موجة التعميم في إيضاح الأثر اليوناني في فكر المسلمين الأخلاقي يُعْوِزُها الدقةُ في الحكم والاستيعاب التاريخي.

وللإنصاف نقول: قد نجد في فكر بعض فلاسفة الإسلام أثرًا واضحًا للفلسفة الخُلقية اليونانية، كما جاء في حديث الفارابي، وابن سينا، والرازي الطبيب، ومسكويه، لكن ذلك لا يعني أنهم كانوا ينطلقون في بحوثهم الأخلاقية مِن رغبة في سيادة الفكر اليوناني، بل حاولوا التوفيقَ بين عقيدتِهم وهذا الفكر، وكان عدم توفيقهم متوقعًا، لكن ذلك في دائرة الاجتهاد الذي يُخطئ صاحبه فيصيب أجرًا وإن كان هدفه الأجرين.

على أن إسهام المعتزلة ببحوثهم في الحسن والقبيح، وحرية الإرادة، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي بمنحاها العقلي والديني في آنٍ معًا بعيدةٌ كل البعد عن الأثر اليوناني.

فإذا أضفنا إلى ذلك آراء السلف في العقائد، وتجرِبة ابن حزم مثلًا في كتابه (الأخلاق والسير)، كان لنا أن نقول: إن كثيرًا من الفكر الأخلاقي لدى المسلمين منبثق من مصادرهم الأصلية روحًا ومنهجًا، ولا يقدح في ذلك وجود بعض الآثار لدى غير هؤلاء من الفلاسفة أو غيرهم.

ولعل تنوع المناهج لدى علماء المسلمين دليل على صحة ما نشير إليه.

رابعًا: هذا الفكر لم يكن وقفًا على طائفة من المسلمين دون أخرى، بل أسهمت أكثر من طائفة في بناء هذا الفكر، فتنوَّعتْ زوايا النظر – وربما المناهج أيضًا – بتنوع ثقافة الكاتبين فيه دون أن يكون ذلك عاملًا من عوامل الاختلاف.

فإلى جانب المحدِّثين أسهم الفقهاء بما عالجوه من موضوعات الحسبة والآداب العامة، والحرمات والحريات، وغيرها[4]، كما أسهم الصوفية بما كتبوه في باب الآداب والأخلاق النظرية والعملية[5]، الأمر الذي جعل كثيرًا من مؤرِّخي الفكر يضعونهم بين مصافِّ الأخلاقيين المسلمين، كذلك أسهَم المتكلِّمون بما أثاروه من قضايا أخلاقية نظرية كما أشرنا[6].

أما الفلاسفة المسلمون، فقد كان حديثهم عن السعادة، والفضائل الفردية، والمجتمع الفاضل، وبحوثهم في النفس، إسهامًا واضحًا في هذا العلم[7].

ولم يقف الشمول عند المهتمِّين بالدراسات الإسلامية، بل شمل كذلك أصحاب الدراسات اللُّغوية، وما أمر الراغب الأصفهاني والماوردي ببعيد[8].

فإذا أضفنا إلى ذلك تجارِب البعض في هذا المجال؛ كتجرِبة ابن حزم، كان لنا أن نقول: إن الفكر الأخلاقي لدى المسلمين قد نبع من اهتمامهم بهذا الجانب باعتباره أمرًا دينيًّا بالدرجة الأولى، وإن هذا الفكر كان موضع اهتمام من كل أصحاب الاهتمامات العلمية تقريبًا.

خامسًا: ونظرًا لتنوع إسهامات العلماء في بناءِ الفكر الأخلاقي، فقد تمايزت مناهجهم – كما سيتَّضِح بعد قليل – ذلك أن الذين حاولوا التوفيقَ بين فكرٍ غير إسلامي وبين القِيم الإسلامية، كان لهم نهج اختلف عن أولئك الذين رفضوا هذا الفكر غير الإسلامي تمامًا؛ كالفقهاء والمحدِّثين، كما اختلف عن السابقين منهج أولئك الذين قبِلوا شكل التقسيم اليوناني للفضائل، لكنهم رفضوا المضمون، بل جعلوا مضامينهم قرآنية وحديثية، كذلك فإن جماعة الصوفية رغم أن أبرز ما اشتَهَروا به كان الأخلاق، فإنهم نحوا منحًى مختلفًا عن معظم مَن أشرنا إليهم؛ ذلك أنهم قلَّلوا من الاهتمام بالنظر والدراسة، وركزوا على الجانب العملي في السلوك دون أن يغفلوا النظر تمامًا، وكان لهم بذلك منهجهم الذي تميَّزوا به كما تميز المتكلمون بمنهجهم؛ وهذا كله جاء صدًى لموقفِهم من الفكر الوافد عليهم أو الوافدين عليه، مما كان له أثرٌ في اختيار الأسلوب وأدوات البحث بعامة.


[1] ابن تيمية/ الفتاوى، 10/ 127، طبعة دار الإفتاء بالرياض.

[2] نذكر من هذا: فرائض الإسلام للحسن البصري، ومكارم الأخلاق للطبراني، وعمل اليوم ولليلة للنسائي، وغير هذا.

[3] نذكر في هذا الصدد/ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر، مناهج المستشرقين، 2/ 249.

[4] مناهج المستشرقين 2/ 249.

[5] نذكر بمؤلفات المحاسبي، والحكيم الترمذي مثلًا.

[6] د. محمد الجليند، مشكلة الخير والشر في الفكر الإسلامي، 125.

[7] نذكر بـ: تهذيب الأخلاق لمسكويه، الطب الروحاني للرازي الطبيب، وإسهامات الفارابي وابن سينا وأتباعهما في هذا الباب.

[8] انظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني، وأدب الدنيا والدين للماوردي.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى