مقالاتمقالات مختارة

حفظ الحريات أساس مقاصد الشريعة

حفظ الحريات أساس مقاصد الشريعة

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

حينما اعتبرَ الحريةَ أساسا تقوم عليه مقاصد الشريعة الإسلامية لم يبعد عن الحقيقة العلامةُ محمد الطاهر بن عاشور، الذي يعد ـ فيما أعلم ـ أول من جعل الحرية من مقاصد الشريعة الإسلامية وأصَّل لها، لا سيما في كتابه: “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام”.

ولا أقصد بالحرية هنا ما يتبادر إلى الذهن في مباحث علم العقيدة حيث الجبر والاختيار، إنما المقصود بها أن يتمكن الفرد من التصرف دون معارض في نفسه وماله وسائر شئونه في ضوء أحكام الشرع.

ويستمد الحديث عن الحرية من الأوضاع المتردية في عالمنا ومن حولنا أهمية كبرى، لا سيما في هذا العصر؛ الذي تُقَيَّد فيه الحريات الشخصية والمالية، وكل ما يكرس ذلك في مجتمع من المجتمعات مما انتشر انتشارا واسعا، ليس في مصر فحسب لكن في المنطقة العربية، بل في العالم كله.

وهذا من المنكرات التي يجب أن يركز عليها العلماء في أحاديثهم، ويسلط الدعاة عليها الضوءَ في خطبهم ومحاضراتهم، لأنها لا تقل ـ إن لم تزد ـ عن الكبائر والموبقات التي صرح بها الإسلام من عقوق للوالدين وشهادة الزور وقتل النفس وأكل مال اليتيم، وغير ذلك.

ولقد أحسن فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حينما طالب علماء الإسلام أن يعطوا كلمة (الحرام) حقها، وقال: إن كبت الحريات، والتعدي على حرمات الناس، واعتقالهم، ومحاكمة المدنيين محاكمات عسكرية، وتزوير الانتخابات، ونهب الأموال العامة… كلها محرمات ينبغي أن يعلن عنها العلماء، كما يبالغون في الإعلان عن المحرمات الأخرى المعروفة.

استقراء الأحكام

ومن المعلوم أن تعيين المقصد الشرعي سواء كان كلياً أو جزئياً ـ كما قرر علماء المقاصد ـ لا يكون إلا بعد استقراء أحكام الشريعة، واقتفاء آثار الفقهاء وأقوالهم في المسألة التي يراد البحث فيها خاصة في المسائل التي وردت فيها نصوص شرعية ثابتة.

ومن سُمُوّ الشريعة الإسلامية ودلائل عظمتها أنها تشرع أحكاما تعمل على إيجاد هذا المقصد وتحصيله، وتشرع أحكاما أخرى تعمل على بقائه واستمراره.

ففي المال مثلا شرع ما يضمن إيجاده وتحصيله، فحث على السعي لكسب الرزق وتحصيل المعاش، وأباح المعاملات العادلة التي لا ظلم فيها ولا اعتداء على حقوق الآخرين، كما شرع ما يضمن بقاءه واستمراره، فضبط التصرف في المال بحدود المصلحة العامة، ومنع إنفاق المال في الوجوه غير المشروعة، وحث على إنفاقه في سبل الخير، وسن التشريعات الكفيلة بحفظ الأموال وبقائها، وهكذا فعل الشرع مع الدين والنفس والعقل، وغيرها من مقاصد.

وفي حفظ الحريات خلق الله الناس أحرارا، ونحن نذكر كلمة عمر بن الخطاب التي خاطب بها عمرو بن العاص يوما، فقال له: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.

ويقول العلامة الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة: “ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: (الشارع متشوف للحرية) واستقراء ذلك واضح من تصرفات الشريعة التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية، لكن دأب الشريعة في رعي المصالح المشتركة وحفظ النظام وقف بها عن إبطال العبودية بوجه عام وتعويضها بالحرية”.

ثم يبرر موقف الشريعة من إبطال العبودية بوجه عام مراعاة للمصالح المشتركة وحفظ النظام بسبب قيام المجتمعات في ذلك الوقت على نظام الرق، وعندما كان مقصد الإسلام نشر الحرية وحفظ النظام العام سلط عوامل الحرية على عوامل العبودية مقاومة لها بتقليلها، وعلاجاً للباقي منها، وذلك بإبطال أسباب كثيرة من أسباب الاسترقاق.

ثم يقول مستنتجا: “فمن استقراء هذه التصرفات ونحوها حصل لنا العلم بأن الشريعة قاصدة بث الحرية بالمعنى الأول ـ يعني إبطال العبودية ـ وأما المعنى الثاني الذي هو تمكن الفرد في التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض، فله مظاهر كثيرة هي من مقاصد الإسلام تتعلق بأصول الناس في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم، ويجمعها أن يكون الداخلون تحت حكم الحكومة الإسلامية متصرفين في أحوالهم التي يخولهم الشرع التصرف فيها، غير وجلين ولا خائفين أحداً”.

حرية غير مطلقة

ومن أجل بقاء حريات الناس محفوظة ومستمرة حرم الشارع الحكيم الإكراه بكل صوره، إلا إذا كان إكراها بحق، وجعل للمكره أحكاما خاصة مراعاة لهذا المعنى.

كما حرم تقييد حريات الناس، ظلما وعدوانا، وجعل الظلم هو الشيء الوحيد الذي حرمه على نفسه: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا”.

وبالطبع فإن لكل ذلك قوانين وحدودا حددتها الشريعة، حيث لا يستطيع أحد أن يحملهم على غيرها، مثل حرية الاعتقاد وحرية الرأي وحرية العلم والتعلم، كما يقسمها ابن عاشور إلى “حرية اعتقاد -يقول عنها إنها أوسع الحريات دائرة- وحرية التفكير، وحرية القول، وحرية الفعل”.

ويضيف ابن عاشور أمثلة تشريعية تصب كلها في حفظ الحريات بقاء واستمرارا فيذكر منها: “الحجر على الإنسان إذا ما تبين أن عمله ليس سديداً، وأنه لا يحسن التصرّف ولا يفرق بين ما هو ضار ونافع، فيحجر عليه لسفهه صوناً لأمواله من التلف، وحفاظًا عليه من أن يتحيّل عليه، فكان السفيه محجوراً عليه لمصلحته، ومثله الصبي الذي لا يميز حتى يبلغ سن الرشد، كما تحجر الشريعة الإسلامية على الإنسان، إذا ما كان عمله مضرّا بالآخرين، بحيث تتعارض مصالحه مع مصالح المجموعة الاجتماعية، وحاطت الشريعة الإسلامية في كثير من تصاريفها حرية العمل بحائط سد ذرائع خرم تلك الحرية”.

والحرية في الإسلام ليست كما يدعو إليها الغربيون؛ حيث يصبح كل شيء مشاعا لأي أحد، بل إن الشرع يقيدها بقيود ليحفظ للغير نصيبه من الحرية وقدره من الحركة، وهذا مما شرعه الله تعالى حفاظا واستمرارا للحرية كذلك.

يقول ابن عاشور في هذا المعنى: “ولما كان أفراد البشر سواء في هذا الإذن التكويني، كلٌّ على حسب استطاعته، كان إذا توارد عدد من الناس على عمل يبتغونه ولم يضايق عمل أحدهم مراد غيره بقيت حرية كل واحد خالصة سالمة عن المعارض فاستوفى ما يريد، كالذي يقيم منفردا في مكان، ولكن إذا تساكن الناس وتعاشروا وتعاملوا طرأ بينهم تزاحم الرغبات، فلم يكن لأحدهم بد من أن يقصر في استعمال حريته رعيا لمقتضيات حرية الغير إما بدواعي الإنصاف من نفسه، وإما بتقدم غيره إليه -برغبة أو رهبة- بأن يكف من بعض عمل يريده، لا جرم نشأ في المجتمع البشري شعور بدواعي التقصير من الحرية، ومن شأن ذلك الشعور أن يَحْدُث في تطبيقه ـ حق التطبيق ـ تنازع وتغالب وتهارج “.

والضابط في ذلك هو تحقيق المصلحة العامة بين بني البشر، ودفع الضرر عنهم بما يوازن بين حرية الإسلام ومصلحة المجتمع، يقول ابن عاشور: “هذه الحرية الفسيحة لا يقيدها إلا بما يقيد بقية الحريات الأخرى، وهو قيد المصلحة العامة، فما لم تسبب مضرّة للناس ولا للأفراد، وما لم تضر بالآداب، وقواعد السلوك، والأعراف التي تصالح الناس عليها، فهي مباحة، وإلا قيدتها الشريعة بما يحقق التوازن بين أفراد المجتمع، ويحقق أمنه وسلامته”.

على أن هذه القيود في الحقيقة ليست تقييدا له بل هي في مصلحة الإنسان ـ مطلق الإنسان ـ في نهاية الأمر؛ لأننا لو أطلقنا الأمور للناس لطغى بعضهم على بعض وظلم بعضهم بعضا، فبهذه القيود _التي ضبط بها الشرع العظيم أمور الحلال والحرام_ يأخذ كل إنسان حظه من الحرية ويتمتع بنصيبه الذي فرضه الله له دون طغيان على حق أحد، بما يحفظ في النهاية العدالة في قسمة الحرية لكل بني البشر؛ ولهذا كان الإسلام عظيما حينما عمل بالمبدأ القائل: “حريتي تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين”.

ولعل الفقهاء لم يجعلوا الحرية مقصداً شرعياً مستقلاً بذاته مع الكليات الخمسة في الضروريات؛ لأنها داخلة في ضمنها من حيث كونها أساسا لها، ومهادا لحقوق الإنسان؛ ولأن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية من حفظ للدين والنفس والعقل والمال والنسل، والحرية فطرة بشرية لا تتحقق هذه المقاصد الضرورية الخمس لحياة الإنسان إلا بها.

فحفظ الدين أساسه عدم الإكراه في الإيمان به؛ إذ لا إكراه في الدين، ولا يتحقق إلا بحرية الاعتقاد، وهي الجزء الأساسي من حرية الإنسان، وحفظ النفس لا يتحقق إلا بحريتها في التصرف في جميع شئون الحياة بعيداً عن الإكراه والاستعباد، فلا معنى لحياة إنسان مقيد في تصرفاته أو أسير رغبات سيده، وحفظ العقل لا يتحقق إلا بحرية الاختيار، فهو مناط التكليف وشرط صحة لجميع التصرفات، ولا خلاف بين الفقهاء أن التكليف يسقط عن المكره وفاقد العقل، وحفظ المال لا يتحقق إلا بحق الإنسان في التملك وحرية التصرف في أمواله وأملاكه بما يراه الشرع والقانون، وحفظ النسل لا يتحقق إلا بحرية الإنسان في اختيار الشريك الذي يحقق النسب الشريف.

وهكذا فإن حفظ الحريات أساس تنبني عليه كل المقاصد الشرعية، ومهاد تنشأ فيه حقوق الإنسان، ولهذا لم يكن عجيبا أن يُقدِّم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظ الحريات ويجعل لها الأولوية على تطبيق الشريعة في حلقة من برنامجه الشهير: “الشريعة والحياة” والتي أثارت جدلا وقتها؛ ذلك أنه بدون الحريات لن يصح تطبيق شعيرة واحدة من شعائر الإسلام، فضلا عن حرية الرأي وحرية التعليم، وحرية التحرك وممارسة الحياة بشكل طبيعي.

فماذا عن إهدار الحريات؟

وإذا كان إهدار مقصد شرعي واحد من هذه المقاصد المذكورة يعتبره الشارع كبيرة من الكبائر، ويرتب على ارتكابه حدا من الحدود المعروفة؛ حيث جعل للمرتد الذي أهدر حفظ الدين حدا، وجعل للقاتلين الذين يهدرون حفظ النفس حدا، وجعل للسكارى الذين يهدرون حفظ العقل حدا، وجعل للسارقين الذين يهدرون حفظ المال حدا، وجعل للزناة الذين يهدرون حفظ النسل حدا، ومن الثابت أنه لا يكون الحد إلا مع كبيرة من الكبائر.

أقول إن كان هذا هو حكم من يهدر مقصدا واحدا من هذه المقاصد، فماذا يكون حكم من يهدر هذه المقاصد جميعا، بل يعطل أصل هذه المقاصد وأساسها الذي تقوم به وتنبني عليه؟؟!

لا شك أن الذين يهدرون حريات الناس ويضيقون عليهم بغير حق بما يسنونه من قوانين، ويضعونه من تشريعات يبوءون بإثم كبير، ويقترفون ذنبا عظيما، هو أكبر عند الله من الكبائر؛ لأنهم يهدرون بإهداره ما تشوَّفَهُ الشرع الحنيف من مقاصد، ويعطلون ما تقوم عليه حقوق الإنسان مطلق الإنسان، والله أعلى وأعلم.

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى