مقالاتمقالات مختارة

حسابات “إسرائيلية” خاطئة تجاه المسجد الأقصى

حسابات “إسرائيلية” خاطئة تجاه المسجد الأقصى

بقلم د. عدنان أبو عامر

بعد مرور خمسة أشهر على اندلاع العدوان “الإسرائيلي” الأخير على قطاع غزة، وأطلقت عليه المقاومة اسم “معركة سيف القدس”، لأن المواجهة انطلقت بالأساس للدفاع عن القدس والمسجد والأقصى وحي الشيخ جراح، ما زالت هذه العناوين قائمة وماثلة حتى يومنا هذا، بل إنها تزداد اشتعالا مع مرور الوقت، وكأنها تعبد الطريق نحو مواجهة أخرى، قد تأخذ أشكالاً مختلفة عن سابقتها.

يواصل الاحتلال “الإسرائيلي” وقطعان مستوطنيه استفزاز مشاعر الفلسطينيين والعرب والمسلمين في الاقتحامات المتواصلة للمسجد الأقصى، في ظل حماية واضحة لقوات الاحتلال وأجهزته الأمنية، ويمكن القول بلغة الأرقام والإحصاءات أن هذه الاقتحامات زادت كماً ونوعاً خلال الشهور الخمسة الماضية، منذ أن وضعت الحرب “الإسرائيلية” أوزارها على غزة.

لا شك أن هذا التجرؤ “الإسرائيلي” على أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين يحمل دلالات سياسية وأمنية ودينية لا تخطئها العين، ولا يبدو أن هناك في الأفق ما يشير إلى أن هذه الدلالات قد تتراجع، بل إنها في طريقها إلى مزيد من التوسع والتمدد، بصورة تزيد من الضغط على الفلسطينيين، ويجعل ظهورهم للحائط، مما قد ينذر باشتعال المنطقة من جديد، دون معرفة طبيعة هذا الاشتعال، وأشكاله، وعمقه الجغرافي والمشاركين فيه.

تتعلق الدلالة الأولى بما يشهده المسجد الأقصى في الأسابيع والأشهر الأخيرة بالمسألة السياسية التي تتعلق أساسا بالواقع السياسي والحزبي الناشئ في دولة الاحتلال منذ يونيو الماضي، حين تشكلت حكومة جديدة يقودها اليميني المستوطن نفتالي بينيت خلفاً لمعلمه السابق بنيامين نتنياهو.

يقود بينيت ائتلافاً حكومياً يجمع “الإسرائيليون” قبل سواهم على وصفه بـ”الهش”، الذي لا يقوى على الصمود أمام هزات داخلية وخارجية تعترض طريقه، فهو يجمع خليطاً غير متجانس البتة من أقصى اليمين إلى أقصى ما تبقى من اليسار، ولذلك فهو يسعى إلى إمداد هذا الائتلاف بكل أسباب الحياة، حتى لو كان ثمن ذلك الاقتراب من حافة الهاوية، من خلال التسبب بإشعال حرب دينية مع الفلسطينيين، في وقت لا تحتمل فيه المنطقة مثل هذا الحريق الذي يحمل عنوان الأقصى والقدس.

يخشى بينيت أنه في حال أوقف مسيرات المستوطنين باتجاه الأقصى، وسلسلة اقتحاماتهم له، أن يتهمه معسكر اليمين الذي يعارضه، بشقيه اليمين الديني والقومي، أنه ينزاح أكثر نحو اليسار، ولا سيما في ظل تحالفه مع قوى سياسية من بواقي اليسار الذين يتناقضون مع اليمين في تطلعاته السياسية والدينية، ولذلك يغض بينيت الطرف عن تلك الاقتحامات، رغبة منه بتقديم “براءة ذمة” لحلفائه السابقين في تيار اليمين.

صحيح أن هناك ضغوطاً أمريكية تمارس على الحكومة “الإسرائيلية” الحالية لكبح جماح المستوطنين المتدينين من مغبة العبث بالأمر القائم في القدس والأقصى، على اعتبار أن الإدارة الأمريكية الحالية بزعامة جو بايدن تختلف عن سابقتها في إدارة دونالد ترمب بأنها تسعى لتسكين التوترات القائمة في المنطقة، تفرغاً منها لملفات أكثر حرجاً وأهمية وخطورة، ولا سيما مع إيران والصين وروسيا، ورغم ذلك فإنها لم تنجح في ممارسة مزيد من الضغط على “تل أبيب” لوقف اقتحامات المستوطنين الجارية للأقصى.

عند الحديث عن الدلالة الأمنية، فإن الاحتلال “الإسرائيلي” يدرس التبعات التي تركتها الحرب الأخيرة على غزة، وما رافقها من هبة شعبية واسعة النطاق شملت كل أرجاء فلسطين المحتلة، سواء قطاع غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة، وصولاً إلى فلسطين المحتلة عام 1948م.

لقد ترك العدوان “الإسرائيلي” على غزة واقعاً سياسياً واقتصادياً صعباً، وصعباً جداً، رغم ما قدمته المقاومة من أداء عز نظيره ضد قوات الاحتلال، وكشفت عن هشاشة جبهته الداخلية، وتعالت الأصوات التي تنتقد أداء الجيش وإخفاقاته أمامها، في الوقت الذي أكدت فيه المقاومة على أنها عند كلمتها ووفائها للقدس والأقصى، مما دفع الاحتلال وحلفاءه في المنطقة والعالم الى السعي حثيثا لتفريغ انتصار المقاومة من مضمونه، والعمل على جباية أثمان باهظة من حاضنتها الشعبية من خلال الضغط الاقتصادي والخنق المعيشي، الأمر الذي تسبب في دخول قطاع غزة في أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تعيد إلى الأذهان السنوات الأولى من الحصار “الإسرائيلي” عليه في 2006.

يعتقد الفلسطينيون أن أداء مقاومتهم الإبداعي ضد الاحتلال، وفشله في مواجهتها، جعلته يتجه إلى الضغط عليهم اقتصادياً ومعيشياً، مما يجعل المقاومة، الحريصة على شعبها، المتنبهة إلى احتياجاتهم، تنطلق في قراراتها من اعتبارات واقعية وعملية، تتروى في إطلاق أي مواجهة عسكرية ضارية ضد الاحتلال لكبح جماحه عن الاستمرار في تحدي المشاعر الدينية للفلسطينيين والعرب والمسلمين داخل باحات قبلتهم الأولى.

في الوقت ذاته، يدرك الاحتلال هذه الاعتبارات لدى المقاومة، مما يجعله ممعناً أكثر مع مرور الوقت في زيادة ضغوطه الاقتصادية على الفلسطينيين في غزة من جهة، ومنح المستوطنين مزيدا من الضوء الأخضر لتنفيذ اقتحاماتهم في الأقصى من جهة أخرى، لكن التجارب الماضية تؤكد أن القراءات “الإسرائيلية” لم تكن أبدا دقيقة أو صادقة، بل إن التغذية الراجعة في علاقة المقاومة بالاحتلال تؤكد أنه كثيرا ما أخطأ الحسابات، وأخفق في التقديرات، الأمر الذي يحمل إشارات مفادها أننا قد نكون عشية مواجهة جديدة مع الاحتلال عنوانها الأقصى مجددا، ولكن ليس بالضرورة أن تكون بذات الاتساع الجغرافي والأدوات العسكرية.

الدلالة الثالثة من استمرار اقتحامات الأقصى من قبل المستوطنين تحمل بعداً دينياً، يتعلق بالكشف عن توجهاتهم العقائدية الخاصة بنظرتهم التوراتية التلمودية نحو الأقصى، وعدم التردد في الإعلان أن هذه الاقتحامات للأقصى إنما تشكل الخطوات الأولى لإعادة بناء الهيكل على أنقاضه، من خلال إعادة استخراج نصوص دينية قديمة تدور حولها شكوك كبيرة، ومنحها مشروعية مزيفة للادعاء بحق مزعوم لهم في المسجد الأقصى.

هذه الدلالة لم تعد موجودة على هامش الحياة السياسية والحزبية في دولة الاحتلال، على العكس من ذلك، فإن عددا من كبار قادة الحلبة السياسية، لاسيما في الشق الحاخامي منها يتبنون هذه الآراء، ولا يترددون في الكشف عنها، الأمر الذي يزيد من حالة الاستقطاب الديني بين الفلسطينيين واليهود في باحات الأقصى، ولا سيما من خلال إصدار المحكمة “الإسرائيلية” قرارها الأخير بالسماح للمستوطنين بأداء “الصلاة الصامتة” في المسجد الأقصى، وبعد الضجة التي ثارت حول القرار اضطرت المحكمة للتراجع عنه.

هذا يعني أننا أمام تواطؤ واضح بين المؤسسة الرسمية “الإسرائيلية” ممثلة بالأمن والقضاء والمؤسسة الحاخامية الدينية، ويتمحور حول مزيد من الانتهاك لحرمة المسجد الأقصى تحت دواعي سياسية وأمنية ودينية، دون رادع من أحد، وسط اكتفاء الدول العربية والإسلامية ودول العالم بالإدانات الشكلية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

إن الواقع الصعب الذي يمر به المسجد الأقصى في الشهور الأخيرة، يعبر عن رغبة “إسرائيلية” لافتة لاختصار سنوات طويلة، وإجراء سباق مع الزمن، للتسريع بفرض مزيد من الحقائق التاريخية، بحيث يبدو الأمر صعبا جدا على الفلسطينيين أن يغيروا من تلك الحقائق، لكن ذلك لا يعني أن الطريق بات معبداً أمام “الإسرائيليين” المحتلين لانتهاك شرعية المسجد الأقصى طالما أن أصحاب الحق الأصليين يعلنون صباح مساء عن رفضهم لهذا السلوك، وفي الوقت ذاته فإن المقاومة التي طالما فاجأت الاحتلال وأعوانه لن تتردد في ردع هذا الاحتلال عن المضي قدماً في غيه تجاه الأقصى والقدس.

المصدر: مجلة المجتمع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى