حرب تستخدم فيها دول القارة العجوز وسائل تتعارض مع شعارات حرية التعبير عن الرأي والتجمع التي تزعم دساتيرها تقديسها وحمايتها، وتتناقض مع أبجديات الدبلوماسية ومبادئ الوقوف على الحياد فيما يخص شؤون دول الجوار الداخلية في سبيل إجهاض مساعي أردوغان وحزبه تعديل دستور أتاتورك الذي صاغته الدول الغربية بعناية منذ حوالي قرن من الزمان لضمان استمرار تبعية تركيا لها.
آخر ملامح هذه الحرب المعلنة تمثل اليوم في رفض الحكومة الهولندية السماح بهبوط طائرة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في أراضيها، والتي كان من المقرر أن يزور خلالها مدينة “روتردام” لإلقاء كلمة في مقر القنصلية العامة التركية، بعد أن ألغت السلطات الهولندية فعاليات سابقة للوزير على أراضيها.
السبب الواهي الذي تمترست وراءه السلطات الهولندية لإخفاء حنقها وغيظها الشديد من خطوة تعديل دستور أتاتورك هو: دواعي “الأمن والنظام العام”، والذي لا يختلف كثيرا في فضفاضيته وعدم مصداقيته عن الحجة التي تذرعت بها السلطات الألمانية والسويسرية والنمساوية لمنع لقاءات الساسة الأتراك مع جاليتهم في أوروبا، فقد تذرعت ألمانيا لمنع تلك اللقاءات بما هو أدعى للسخرية والاستهزاء، فقد ألغت سلطاتها في مدينة “غاغناو” ترخيصاً كانت منحته لـ “اتحاد الديمقراطيين الأتراك الأوروبيين” لعقد اجتماع في المدينة، بدعوى: “وجود نقص في المرافق الخدمية” اللازمة لاستقبال عدد كبير من الزوار متوقع أن يتوافد على مكان الاجتماع!!
الرد والتصعيد التركي على تصرف هولندا كان قوياً، فبالإضافة لاستدعاء القائم بالأعمال الهولندي في العاصمة أنقرة، اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ساسة (هولندا) بأنهم لا يتقنون السياسة ولا الدبلوماسية، واصفاً إياهم بأنهم : فاشيون وبقايا النازية”.
كما هدد أردوغان في كلمة له بمدينة إسطنبول هولندا قائلا : “لنرى كيف ستهبط طائراتكم بعد اليوم في تركيا، أنا أتحدث عن الدبلوماسية وليس سفر المواطنين، ونحن سنتخذ إجراءاتنا على هذا الأساس” , ليكون ذلك بمثابة بداية تنفيذ ما توعد به الوزير “أوغلو” من قبل هولندا , إذ هدد بفرض عقوبات سياسية واقتصادية على هولندا إذا لم تسمح سلطات أمستردام بالمشاركة في لقاء انتخابي مع الجالية التركية هناك .
الافت في الأمر هو تواتر عرقلة عواصم دول القارة العجوز لتجمعات الجالية التركية المؤيدة للتعديلات الدستورية مع المسؤولين الأتراك , والذي يشير بوضوح إلى أنها ليست مجرد قرارات بلدية أو محلية أو حتى وزارية , بل هي سياسة أوروبية ممنهجة ضد الداعمين للتعديلات في دستور أتاتورك العلماني .
ولعل ما يؤكد هذا التوجه الغربي المعادي لتمرير تعديلات أردغان وحزبه لدستور اتاتورك هو : انحياز دول القارة العجوز للأحزاب التركية المعارضة لهذه التعديلات , ففي مقابل منع لقاء وزراء ومسؤولي الدولة التركية بمؤيدي التعديلات الدستورية في عواصمهم , سمحت سلطات تلك الدول بتنظيم حملات كبيرة مناهضة للتعديلات، والتي يقودها حزبا “الشعب الجمهوري” و”الشعوب الديمقراطي” المعارضان في تركيا .
بل ظهر لاحقا أن نفس القاعات التي ألغت السلطات الألمانية ترخيص استضافتها للمسؤولين الأتراك وللمؤيدين للتعديلات الدستورية , كانت قد احتضنت في وقت سابق حملة لأنصار حزب “الشعوب الديمقراطي” المعارض تدعو لرفض تلك التعديلات .
كما احتضنت العاصمة الألمانية في 24 شباط/فبراير الماضي فعالية مشتركة نظمتها أحزاب “الشعوب الديمقراطي” و”الشعب الجمهوري” و”الحرية والتضامن”، تحت عنوان “برلين تقول لا للتعديلات الدستورية” ….. ما يؤكد أن هناك ازدواجية غربية في التعامل مع حدث التعديلات الدستورية التركية .
حرب عواصم القارة العجوز ضد التعديلات الدستورية الأردغانية – إن صح التعبير – بدأت تستعر وتشتد منذ إعلان رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم نية الرئيس رجب طيب أردوغان زيارة دول أوروبية في إطار حملته من أجل الاستفتاء , حيث توالت إلغاء لقاءات وتجمعات المؤيدين للتعديلات في كل من ألمانيا والنمسا وسويسرا , حتى وصل الأمر إلى حد منع طائرة مسؤول تركي بمستوى “وزير خارجية” من الهبوط بمطار أمستردام بهولندا اليوم .
والحقيقة أن هذه الممارسات لا تؤكد فحسب حجم الحنق والغضب الغربي من عودة تركيا إلى هويتها الإسلامية الأصيلة فحسب , وانعتاقها من أهم وأخطر ما يعيق هذه العودة الرشيدة “دستور أتاتورك العلماني الذي كان بداية محاولة طمس جميع معالم هوية تركيا الإسلامية”، بل يشير بوضوح إلى أن سمة التطرف لا تنطبق على ما يسمى “الأحزاب اليمينية الأوروبية” فحسب، بل تعم الجميع في القارة العجوز حين يتعلق الأمر بالعنصرية والحقد الغربي تجاه الإسلام والمسلمين .