مقالاتمقالات مختارة

حديث ذو شجون عن لحوم العلماء المسمومة

حديث ذو شجون عن لحوم العلماء المسمومة

بقلم السيد أبو داود

تنسب عبارة: (لحوم العلماء مسمومة) للحافظ ابن عساكر (٤٩٩ – ٥٧١ هـ)، وقالها في حق علماء الحق في عصره، وضد أهل الباطل، فكانت سيفًا مسلطًا عليهم.

هذه العبارة شائعة الاستخدام في كثير من الأوساط السلفية، وأشد ما تكون في الأوساط المدخلية، حيث ينتشر بينهم إحساس زائد بأنهم -دون غيرهم- المرجعية النقية للدين، حيث يحفظونه ويفهمونه ويطبقونه بشكل صحيح، عكس غيرهم من الاتجاهات الإسلامية الأخرى الذين لا يتوفرون على هذا الحفظ والفهم والتطبيق، وبما أنهم المرجعية الصحيحة للدين فإن من حقهم أن يصنفوا الناس ويحكموا على دينهم وعقيدتهم بل ويخوضوا في سيرتهم وسمعتهم وجدارتهم، لكن إذا حدث العكس وطال النقد شيوخهم (بسبب مواقفهم في دعم الباطل .. والتي يراها ويسمعها الناس كل يوم)، سارعوا إلى الاستدلال بعبارة ابن عساكر: (لحوم العلماء مسمومة)، جاعلين إياها حصنًا وسياجًا ضد النقد .. فمن ذا الذي يملك أن ينتقدهم وهم المرجعية الدينية الصحيحة والمبرأة؟

وبالتالي فإن مقصودهم من الاحتماء بهذه العبارة هو إغلاق الأبواب أمام الفهم والاستفسار والتعمق، وأمام النقاش والجدال، وأمام إقامة الحجة وإظهار الحق وإظهار ضعف مواقفهم وعدم صلاحيتها.

وهؤلاء يستهينون بأهل العلم الشرعي من غير منهجهم، وبكل من لديه إسهام يمكن أن يثري النقاش والدراسة والبحث في مسألة ما ويطورها، فإذا ذكرت أمامهم أحدًا من هؤلاء، يفتحون عليه أبواب القدح والذم قائلين: هذا ليس بعالم، أما من ينتسبون إلى منهجهم، فيوزعون عليهم الألقاب.. وإن كانوا لا يستحقون.

عبارة ابن عساكر، لا تتنافى مع النقد البناء والنصيحة الخالصة، والاستدراك على من يتصدر للحديث في الدين والفتوى للناس ويدلي بدلوه فيما يواجهه الناس من مشكلات وقضايا، خاصة في عصرنا هذا الذي تفرعت فيه الأمور تفريعًا شديدًا، ودقت وخفيت دروب الأمور السياسية وتطور المجتمعات والقضايا الاجتماعية.

مشكلة هذه الاتجاهات التي تعتقد أنها هي المرجعية الصحيحة للدين، أنهم أكثر الناس حديثًا في أمور الدين والدنيا، ولا يتركون شاردة ولا واردة إلا تحدثوا وأفتوا فيها، وبالتالي فليس غريبًا أن يناقش الناس آراءهم وأفكارهم ويستدركون عليهم، خاصة وأن معظم حديثهم في القضايا السياسية والاجتماعية وهي قضايا مستحدثة (كما أسلفنا) ومتغيرة ومتطورة، وتحتاج إلى فهم الحكم الشرعي بدقة ثم إلى فهم المسألة السياسية أو الاجتماعية بدقة مماثلة، وغالب هؤلاء ليسوا محيطين بالأمر السياسي أو الاجتماعي بشكل جيد.. إحاطة تغوص في المسألة وتعرف تفاصيلها وتسبر أغوارها.

لكي تخرج الفتوى في دنيا الناس وفي قضاياهم السياسية والاجتماعية سليمة وموفقة، لا بد من الإحاطة بأمرين:

الأول هو الفقة الشرعي الدقيق والعميق لهذه المسألة..

والثاني هو فهم الواقع في المسألة، يعني الإحاطة بالتخصص العلمي أو الخبرة في هذه المسألة.. ثم استحضار منهج أصول الفقه وقواعد ومقاصد الشريعة..

وتطبيق خبرة العلماء والمختصين في منهج وآليات تنزيل النص على الواقع.

وهؤلاء لا تتوفر لديهم الدقة في العلم الشرعي، لأن هناك فارقُا بين الحفظ والإحاطة وبين الفقه الذي هو شدة ودقة الفهم وسبر الأغوار..

ثم يغيب عنهم بشكل كبير علوم الواقع ومناهجه ومشكلاته وقضاياه.. أما منهج تنزيل النص على الواقع واستصحاب مقاصد الشريعة، فالمراجع لغالب فكرهم يلحظ قصورًا كبيرًا في هذا الجانب.

وقد تعلمنا من العلماء الثقات في العصر الحديث أنهم في أحيان كثيرة يتوقفون عن الفتوى في أمر أو مسألة معينة حتى يستشيروا أصحاب الاختصاص العلمي في هذا الأمر أو المسألة، سواء في الطب أو الهندسة أو السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع .. الخ،

فهؤلاء العلماء الثقات لا ينقصهم العلم الشرعي، وإنما أحسوا بنقص في فهم الواقع وعلومه فأرادوا أن يستكملوه.. وما ذلك إلا لأنهم أمناء مع أنفسهم وأمناء مع أمتهم وأمناء للعلم والمنهج العلمي.

تمتلك الأمة كوادر عظيمة في مختلف التخصصات العلمية، كثير منهم ليسوا حافظين للعلم الشرعي كالسلفيين والمداخلة، لكنهم محيطون به ويفهمونه بصورة كلية غير متخصصة، ويستطيعون البحث فيه، ويتفوقون في إدراكهم وإحاطتهم بالسياسة والتاريخ والفكر والثقافة وأمور المجتمع وعلوم الواقع المعاش، وهكذا يتوفر لهم ما لم يتوفر لهؤلاء في فهم وتوجيه القضايا السياسية والاجتماعية الواقعية.

وعليه، فإن من حق هذه الكوادر المتخصصة أن يراجعوا هؤلاء فيما ذهبوا إليه وأن يستدركوا عليهم، فكيف يستهان بهؤلاء العلماء والخبراء وبعطائهم؟ وكيف يطلب منهم الصمت وهم يرون آراءً سطحية وفكرًا ضحلاً في أغلبه؟ كيف يصمتون وهم يرون أن هؤلاء المتحدثين باسم الشرع والمرجعية يتركون قضايا الأمة الكبري ولا يهتمون إلا بالقضايا الفرعية والشكلية، ولا يرون إلا عبادة الحاكم من دون الله ودعمه بالحق والباطل، وهمهم الأساس هو تعبيد الناس لهذا الحاكم أو ذاك ولباطله؟

لا كهنوت في الإسلام، الكهنوت عند النصارى، الذين يحرمون على الناس مناقشة أفكارهم وما يهمهم من أمر دينهم، أما علم الجدل والمناظرة، فهو علم إسلامي مبني على أسس عقلية عميقة لدفع الحجة بالحجة والدليل بالدليل، وفي النهاية لا تصمد الحجة الضعيفة أمام الحجة القوية وينهار الدليل الضعيف أمام الدليل القوي، وكم رأينا من مناظرات عظيمة بين علماء الإسلام بعضهم وبعض.

وإذا كان لا كهنوت في الإسلام، فلا عصمة لعالم كذلك، بمعنى أنه لا يستطيع أحد من العلماء مهما حصّل من العلم أن يدعي أن علمه معصوم لا يرد عليه الخطأ..

ولذلك كانت العبارة الخالدة التي تركها لنا علماؤنا الكبار وأئمة الفقه كأبي حنيفة والشافعي وأمثالهما: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).

لكن من يصفون أنفسهم بأنهم المرجعية الصحيحة للدين لا يرد على خلدهم أن يكونوا على خطأ في قضية من القضايا أو في موقف من المواقف.

المؤكد أن ابن عساكر لم يقصد بعبارته علماء السلاطين وعلماء السوء، الذين سخروا حياتهم لتنفيذ رغبات الحكام والدفاع عن باطلهم، وجل اهتمامهم هو تعبيد الناس للحكام وليس تعبيدهم لرب الحكام ورب العالمين جميعًا، الذين يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ..

إنما العلماء الذين يقصدهم ابن عساكر فهم: العالمون بشرع الله، العاملون بعلمهم، الذين لا يبيعون دينهم وعلمهم بدنياهم ولا بدنيا غيرهم، الذين يعايشون مشكلات مجتمعاتهم ويسعون لخدمة أمتهم، الصادعون بالحق في وجوه الطغاة المستبدين .. وفي وجوه جميع الفاسدين والمفسدين.

لكن من فضل الله أن هناك قطاعًا من السلفيين لم يتورط في دعم الباطل، بل رفض ثقافة ومنهج عبادة الحاكم وتعبيد الناس له، ويسعى لمعرفة الحق، ويهتم بقضايا الأمة الحقيقية والكبرى ..

فلا يكبرون الصغير ولا يصغرون الكبير، وبالتالي فلا يمكن شموله بما أوردناه في هذا المقال .. وأملنا أن تتسع رقعة هذا القطاع وأن يتزايد أنصاره، لكي يعالج أخطاء وخطايا الآخرين.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى