مقالاتمقالات المنتدى

حب الوطن بين السلبية والإجابة

حب الوطن بين السلبية والإجابة

 

بقلم د. سلمان السعودي (خاص بالمنتدى)

من خلال رحلة العمر، والانخراط في شرائح المجتمع، وتزاحم الآراء والمفاهيم في سوق الأفكار الراكدة والوافدة، أصبحت على يقين بأن هناك تفاوت في المفاهيم لكيفية الانتماء وحب الأوطان.
في هذا المبحث وجدت أنه لا بد من الوقوف فيه على ثلاثة محاور وخلاصة،
المحور الأول: تفاوت الأفهام سنة كونية.
المحور الثاني: الفهم السلبي لحب الوطن.
المحور الثالث: الفهم الإيجابي لحب الوطن.
الخلاصة.
المحور الأول: تفاوت الأفهام سنة كونية.
لقد خلق الله تعالى الإنسان ويعلم كينونته، ولقد أخبرنا سبحانه بأن أفهام الناس متفاوتة فقال تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا )النساء ٨٣.
وفي هذه الآية إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل التحقق من صحتها وصدقها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة.
وقال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” كَفَى بالمَرءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سمعِ ” رواه مسلم.
وفي هذا تأنيب لمن يحدث دون تروي وتدبر وفهم، وروى أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” بئسَ مطيَّةُ الرَّجلِ زعموا ” وفي هذا الحديث احتقار لمن يتخذ الثرثرة منهجا لسلوكه في الحياة دون وعي وتحقق من صحة ما يسمع ويقول، وفي المفهوم المخالف هو حث للتدبر والفهم والتحقق، ومن كان فهمه قاصرا فعليه أن يمسك عن الثراثرة والقيل والقال، وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت “.
وفي قوله تعالى: ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) معنى ذلك: لعلم معناه ومقاصده، الذين يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه وأصوله، وأما الثرثارون دون تحقق وفهم وعدم وقوف على المقاصد، فإنهم يتبعون الشيطان في منهجه لنشر الفتن والفساد، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في تفاوت الناس في الفهم في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” نَضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ منَّا شيئًا فبلَّغَهُ كما سمِعَهُ ، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى من سامِعٍ ” حديث حسن صحيح.
وهذا الحديث دليل على تفاوت الفهم والتفقه بين الناس، فمنهم من هو أكثر فقها وفهما من غيره، فعليه أن يتبع سبيل الرشاد في النقل والتبليغ، فنجد كثيرا في مجتمعاتنا ممن يثرثر دون فهم أو وقوف على مقاصد الأمور، أو تجده مضلل ومشبع بأفكار وافدة لا مقصد منها إلا النيل من وحدة المجتمع وتماسكه ليبقى ضعيفا منهارا أمام الغزو الفكري، واخضاعه للسيطرة الاستعمارية التي تحمل استراتيجية تعري المجتمع المسلم من منهجية دينه القويم.
المحور الثاني: الفهم السلبي لحب الاوطان:
وفي هذا المحور نسهب قليلا لأنه الأخطر في المجتمع المسلم.
عاش الوطن العربي حقبة من الزمن ومازال في تخبط في المفاهيم الدالة على حب الأوطان، ويرجع ذلك إلى عدة أمور.
الأمر الاول: تسلط الفئة الحاكمة والمتنفذة في المجتمع.
الأمر الثاني: تفضيل المصالح الخاصة على المصالح العامة.
الأمر الثالث: التغذية الراجعة بالأفكار الوافدة.
الأمر الرابع: البعد عن المنهج الإسلامي الصافي.
أولا:  تسلط الفئة الحاكمة والمتنفذة في المجتمع.
ونخص بالذكر هنا السلطة الحاكمة، المتنفذة في جميع السياسات في الدولة – الأمنية، والتعليمية، والاقتصادية، والوظيفية، وغيرها.
– فنجد في الجانب الأمني .. جميع المؤسسات الأمنية تنتهج منهج التفرد في القرار، وتقدم مصلحة الأسرة الحاكمة وبقاء سيادتها والتمكين من كل مفاصل الدولة، وعلى الجماهير الشعبية السمع والطاعة، وتبرر ذلك بالحرص على الوطن ومقدراته، فأول قانون يفرض على الفئة الفئة الأمنية في جميع هذه المؤسسات قانون ” نفذ أولا ثم تظلم ” وهذا القانون يمثل السمع والطاعة العمياء، يفهمون بها الأفراد أنها من حب الوطن، وإن أول مؤسسة أمنية تهتم بها السلطة الحاكمة هي مؤسسة ” الأمن والحماية ” والتي شغلها الشاغل حماية الحاكم وأعوانه، والضرب بيد من حديد على كل من يخالف أو يعترض على سياسة الدولة، منزلين الحاكم منزلة الإله، أو النبي المعصوم، ضاربين بمنهاج الإسلام عرض الحائط، وهذه السياسة نابعه من منهجية الخوف الذي زرعه الاستعمار في عقول هذه الفئات الحاكمة، وعليه لا بد من فصل الدين عن الدولة.
فلو استرجعنا سياسة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين في سياسة الدولة والمجتمع، لوجدناهم حكموا بحب وقبول وتفاني من أفراد المجتمع لأنهم لم يميزوا أو يؤثروا أنفسهم عن أفراد المجتمع.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم في الأمن والحرب والسلم نجده يستشير أصحابه من أجل تقديم المصلحة العامة على الخاصة إلا فيما يوحى إليه من الله تعالى، كما نجده صلى الله عليه وسلم ينزل عند رأي امرأة حين وجد أن في رأيها إنقاذا للأمة من الفتنة وذلك في صلح الحديبية عندما أشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها حين رفض الصحابة التحلل من إحرام العمرة، فقالت له: ” افعل يفعلون ” فتحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذبح ففعل الصحابة ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم دون تردد.
والخلفاء الراشدون عندما تولوا الخلافة فكان قولهم: ” وليت عليكم ولست بخيركم، فأطيعوني ما أطعت الله فيكم “.
– أما سياستهم في التعليم .. نجد تركيزهم على الحضارة الغربية في تطورها وتفوقها، والنظريات الفلسفية الهدامة للمنهج الإسلامي تحت مبرر الحريات، والمساواة، والفن رسالة سامية في بناء حضارة المجتمع ورقيه، والانفتاح على العالم، ومحاربة الإرهاب المتمثل بالخطاب الديني بصفته خطاب الكراهية للمجتمعات الأخرى، وإنتاج علماء يشوهون الإسلام لوجود مبرر للطعن فيه ومحاربته، ووصف التشريع الإسلامي بأنه قاصر، وغير عادل.
– أما من الناحية الاقتصادية والوظيفية .. فقد أفشوا بأن سياسة الفقر من حب الوطن، يجب على الشعب أن يضحي بكل ما يملك، وأن يرضى بما يلقى إليه من فتات، وإلا أصبح خائنا للوطن، عدوا للحاكم والمتنفذ، في حين مدخرات الدولة، وأملاكها، بواح للحاكم واعوانه، لأن الحاكم وحاشيته أولى بها، أليسوا هم رأس الدولة وحماة الوطن وسادته، والشعب عابر سبيل على هذا الوطن، أو مرتزقة بأجرة توفر له كسرة خبز وشربة ماء.
ثانيا: تفضيل المصالح الخاصة على المصالح العامة.
وهذه المنهجية نجدها متفشية في العالم العربي والإسلامي خاصة في القرون الأخيرة، وتجلت بوضوح في وقتنا الحاضر، وتتركز هذه المنهجية في رجال المال والأعمال، حيث حب الوطن عندهم في كم العائد المادي إلى خزينتهم، ورواج تجارتهم، واتساع سيطرتهم الاقتصادية ونفوذهم المالي، طبعا إلا من رحم الله فنجدهم لا يسألون كيف يكسبون، ومع من يتعاملون ويتاجرون، فسبل الحرام حلال عندهم ما دام فيه كسب، وعدو الدين صديق ما دام منه مربح، والحاكم معصوم وطاعته واجب شرعي ما دام يحمي مصالحهم، ولهذا نجد رأس مال الوطن مكدس في خزائن فئة قليلة من المجتمع تتمثل في الحاشية الحاكمة، وأصحاب رؤوس المال والأعمال.
فحب الوطن عندهم بناء مشاريع اقتصادية على كل مستوى، مع احتكار هذه المشاريع – مشاريع اقتصادية، زراعية، صناعية، تجارية، معمارية، تعليمية – ويبقى الفتات لأهل الفتات، علموا الشعب أن الفقر من حب الوطن، والتطلع لخزينة الدولة أو خزينة رجال المال والأعمال خيانة.
علموا الشعب أن الحضارة في بناء فنادق تقدم فيها المسكرات، وتقام فيها الحفلات الماجنة.
علموا الشعب منهج الخوف من العقوبة، فلا يجوز له أن يعترض على الوزير، والنائب، ورجل المال والاعمال، لأنهم عصب الدولة، والاعتراض عليهم خيانة للوطن.
علموا الشعب أن المجتمع أسياد وعبيد، أسياد يمثلون الوطن من حاشية حاكمة، ورجال مال واعمال، وعبيد يجب عليهم السمع والطاعة محبة للوطن المتمثل في فئة الأسياد.
ثالثا: التغذية الراجعة بالأفكار الوافدة:
وهذا هو أخطر سلاح استخدمه الغرب الكافر ضد المجتمع الإسلامي، حيث سلح به فئات مثقفة وآكاديمية من أبناء المجتمع ليكونوا معول هدم من داخل الذات، لقد دخل الغرب بهذه الأفكار تحت شعارات براقة والتي منها – التنوير، الحرية، العدل، المساواة – وانبهر الكثيرون ممن فازوا بالبعثات التعليمية في تلك البلاد ببعض مظاهر الحضارة وشعارات التحرر، والانسلاخ من عباءة التدين.
فلقد استطاع الغرب أن يجند جيشا كبيرا من المثقفين والآكاديميين، وأصحاب الشهادات العليا، ليكونوا معول هدم للمجتمع الإسلامي بما نسميه الحرب الناعمة.
كما استطاع الغرب أن يسطر على رأس هرم الدولة ومفاصلها،
لذلك ليس غريبا أن نجد ونسمع ونقرأ عن هؤلاء وهم يبثون في الأمة أفكار التثبيط والخذلان والهزيمة النفسية تحت شعارات الخوف من ضياع البشرية ومقدراتها على يد ما يسمونهم بالعابثين بالوطن ومقدراته بافكارهم الرجعية المتمثلة في التشدد الديني والإرهاب .
ويجب علينا أن لا نغفل عن أهداف الغزو الفكري للأمة العربية والإسلامية والتي منه.
– التشكيك في المصادر الإسلامية من قرآن وسنة وتاريخ إسلامي.
– تشويه عقائد الإسلام وشرائعه وأعلامه ورموزه.
– إثارة النعرات  القومية والعرقية٠
– بث الفرقة من خلال نشر الفتن والنعرات الذهبية والطائفية.
– بث الشبهات حول المسلمات الإسلامية مثل المواريث، ووضع المرأة في الإسلام، والديمقراطية الزائفة، والحريات المطلقة٠
– ضرب التعليم بتغيير المناهج التعليمية وخلوها من كل  ما يثير الكراهية للاحتلال وما يحث على الجهاد في سبيل الله تعالى.
– السيطرة على الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، ووسائل التواصل الاجتماعي، وبث السموم وافكار الانحراف عبرها.
كل هذا أدى إلى وجود فئة في المجتمع تتبنى حب الوطن بسلبية، ويظنون انهم على الحق المبين، ويحافظون على الوطن ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ).
رابعا: البعد عن المنهج الإسلامي الصافي:
لقد مر الوطن العربي بحقبة زمنية من أسوأ ما تكون، وذلك حيث تولى أمر السيادة فيه من ليسوا بأهل ولا كفاءة، بل أسقطوا على كراسي السيادة إسقاطا، فكانوا شرطة أمن للغرب ينفذون ما يملى عليهم مقابل بقائهم على عروشهم وفي مناصبهم. وكان أسوأ ما أمروا بتنفيذه في أوطانهم التي يسودونها ضرب التعليم في المدارس، حيث جعلوا منهج التربية الإسلامية مادة ثانوية لا تحتسب في مجموع الدرجات، ووكلوا أمر تدريسها لغير متخصصين، بل تعبئة ما تبقى من حصص فراغ للمدرسين، فخرجت أجيال بعد أجيال لا تفقه شيء من الفقه الإسلامي، أو الحديث النبوي، أو السيرة، والمصيبة الأكبر أن معظمهم لا يحسنون تلاوة القرآن الكريم لأن المدرس اصلا لا يحسنها.
وبهذا أقصوا أجيالا عن المنهج الإسلامي، حتى في التاريخ فرغوا منهجه من كل ما يدل على كرامة الأمة وعزتها من حروب إسلامية مشرفة، تمثل الحق المبين، وغذوا أفكار الطلاب بحرب الفتنة التي قامت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وما تلاها من مصائب، وهذا كان بتصور ماكر من كتاب التاريخ من أجل إسقاط الثقة بالصحابة الكرام، ورفض كل موروث عنهم، حتى تجرأ البعض بإنكار الأحاديث التي جائت من طريقهم لأنهم عندهم ليسوا بثقة.
وهذا ما نعانيه من الكثيرين ممن ينتمون للثقافة والعلم، خاصة الذين تلقوا علومهم الشرعية عن المستشرقين، أو علماء السلاطين الذين لا يرون في الإسلام إلا وجوب طاعة ولي الأمر على كل حالاته، وكذلك الناس العوام الذين ينقلون معلوماتهم عن وسائل التواصل الاجتماعي.
المحور الثالث: الحب الإيجابي للاوطان:
لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مثل في الحب الإيجابي للوطن، فلقد عانى ما عاناه من كفار قريش ولكنه صلى الله عليه وسلم بقي صابرا محتسبا لم يترك مكة لينجوا  بنفسه، ولم تغريه عروضات قريش له من مال وجاه ونساء وملك كما جاء في السيرة النبوية من أن عتبة بن ربيعة ساوم النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: ” يابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا “ولكنه صلى الله عليه وسلم رفض كل هذه المغريات.
وعندما أمر الله تعالى نبيه بالهجرة، ترك الوطن طاعة لأمر الله تعالى، ولكن نجده صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات العصيبة يعطينا درسا في حب الوطن، فينظر إلى مكة قائلا مقولته الشهيرة: ”  واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ ولولا أن أَهْلَكِ أخرَجوني منكِ ما خَرجتُ ” وفي رواية أخرى انه قال: ” اللهم إنك تعلم  أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك ” وفي الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمَكَّةَ: ” مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ ” رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
فحب الوطن يعني التضحية من أجله، والعمل على بنائه، والحفاظ على مقدراته، وحمايته من أعدائه، حب الوطن يعني الدفاع عنه والاستبسال في سبيله وعدم التفريط به، حب الوطن يعني الجهاد في سبيله بالنفس والمال، لأن الدفاع عن الوطن جهاد في سبيل الله تعالى، والقتيل في ذلك شهيد عند الله كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ . ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ . ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ ” رواه الترمذي ابو داود والنسائي وصححه الألباني.
ومن قتل من المسلمين  وهو يدفع عن وطنه المعتدى عليه فإنه يدافع عن جميع هذه الأمور فهو شهيد.
فهذا هو الحب الحقيقي للوطن، الحب الرابع من الدين، فكيف إن كان هذا الوطن مقدس، مبارك من عند الله تعالى، كيف إن كان فيه المسجد الاقصى، أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، كيف وهذا الوطن فيه البرلمان الذي استلم فيه نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم قيادة الأمة، كيف وهذا الوطن فيه البقعة المباركة الوحيدة التي جمع فيها الأنبياء ليصلي بهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم إماما، كيف وهذا الوطن هو أرض المحشر والمنشر، كيف وهذا الوطن محط رحلة الإسراء وبوابة المعراج إلى السماء.
إن كان حب الوطن من الدين، كان حبا إيجابيا، وإن كان من الدنيا، كان حبا سلبيا، لأن الإنسان الدنيوي يبحث عن العطاء في الدنيا وزخرف الحياة وحب البقاء، أما الآخرون إذا خوفهم الناس واغروهم بالشهوات لم يزدهم ذلك إلا إيمانا وتمسكا كما قال تعالى: ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )
الخلاصة:
إن من أثمن الأشياء عند أهل الفطرة السليمة حب الوطن الذي ولدوا فيه، وعاشوا على ثراه، وأكلوا من خيراته، لأن حب الوطن من الدين، وأصحاب الفطرة السليمة لا يقدمون على الدين شيئا، وهذه الحقيقة قد أقرتها الشريعة الإسلاميةوأحاطتها بحقوق وواجبات، وذلك تطبيقا لقاعدة المصلحة المرسلة، وفي ذلك مصلحة الدين والدنيا معا، فحب الوطن عند الإنسان اقترن بحب النفس، وقد ذكر القرآن ذلك قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) النساء ٦٦، ففي الحفاظ على الأوطان تقتحم الأغوار، وترتكب الاخطار، وتركب البحار، وتعلل الأخطار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمره الله تعالى بالهجرة إلى المدينة المنورة، وعلم انه سيقيم فيها قال: ” اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ ” رواه البخاري.
فالاستقرار في الوطن، والأمن فيه، من أعظم أنعم الله تعالى على الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: ”  مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا ” رواه الترمذي وسنده حسن.
– وإن من مقتضيات حب الوطن الدفاع عنه وبذل النفس والمال في سبيله، قال تعالى: ( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) البقرة ٢٤٦.
– ومن مقتضيات حب الوطن الحرص على كف الأذى والضرر عنه وعن أهله، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ.” صحيح مسلم
والدفاع عن الوطن والذود عنه ودحر عدوه من أعظم الأذى الذي يماط عنه.
– ومن مقتضيات حب الوطن الحرص على مقدراته وعدم الخيانة والغدر، قال صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ الدُّنيا خَضِرةٌ حُلوةٌ وإنَّ رجالًا يَتخوَّضونَ في مالِ اللَّهِ ورسولِهِ بغَيرِ حقٍّ لَهُمُ النَّارُ يومَ القيامة” رواه البخاري.
ومن شدة حب النبي صلى الله عليه وسلم لمكة مقر ولادته ومنشأه، طمأنه الله تعالى برده إليها فقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ  ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: ” إلى مكة ” رواه البخاري.
ولقد بينت آي القرآن الحث على قتال المعتدين على الوطن والحفاظ على مفهوم الوطنية والانتماء للوطن قال تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ  ) الحج ٣٩ – ٤٠.
وقال تعالى: ( أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ  ) التوبة ١٣.
سليم الفطرة مهما فتحت الدنيا زينتها عليه في غربته عن وطنه يبقى يتقلب في مرارة الشوق، قال الإمام الشافعي في حب غزة موطنه الذي ولد فيه:
وإني لمشتاق إلى أرض غزة …… وإن خانني بعد التفرق كتماني،
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها… كحلت به من شدة الشوق أجفاني.
فهذا الحب للأوطان لا يعرفه المتشدقون والثرثارون الذين لا يعرفون من حب الأوطان إلا الانتفاع والكسب، فهؤلاء حبهم سلبي لا يتذكرون من الوطن والوطنية إلا الأناشيد والأغاني في المواسم الوطنة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى