مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٩٣) .. مقومات الوعي الجمعي (٣)

جواهر التدبر (٢٩٣)

مقومات الوعي الجمعي (٣)

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– إبراز قيم الوحدة بين مكونات الأمة في نصوص الوحي ومقاصده:
ظلت عشرات الآيات في القرآن الكريم تترى لتؤكد  للمسلمين أنهم كتلة واحدة وكيان واحد، وذلك بمختلف الأساليب والصيغ، ومن ذلك الحديث عن كونهم أمة واحدة، كما ورد في قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: ٩٢]، وكأنه يقول: تذكروا في سائر عباداتكم في محرابي الصلاة والحياة أنكم أمة واحدة ولستم أفرادا متفرقين، وحينما يقول أمة فكأنه يقول إنكم من أمّ واحدة، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات]، واستخدم أسلوب الحصر لكي يقول إنه لا توجد رابطة تربطكم غير رابطة الأخوة الإسلامية، وبقية الأواصر العرقية والجهوية والوطنية والقبلية والطائفية والمذهبية والحزبية، إنما هي أدوات للتعارف وروابط للتعاون على البر والتقوى بعيدا عن العصبيات الجاهلية، مع بقاء الدوران حول فلك الإسلام ديدن الجميع!
وبالمناسبة فقد تكرر مصطلح الأمة بمختلف الاشتقاقات والمعاني في القرآن الكريم ٦٤ مرة!
وإذ يرى الإسلام أن المسلمين جميعا جسد واحد؛ فإنه يؤكد لهم من خلال عرضه لقصة بني إسرائيل ومواثقته لهم بأن من يسفك دم أخيه فإنما يسفك دم جسده هو، ومن يُهجّره من أرضه فكأنما يُهجّر نفسه تماما، فقال عز من قائل: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} [البقرة: ٨٤]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: “وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة والسلام: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر “.
وقس على القتل والتهجير سرقة ماله وانتهاك عرضه والاعتداء على حقوقه وعلى أي من الضروريات والحاجات الخاصة به!

– إبراز التعانق بين حقوق الله وحقوق الإنسان وتقدم الثانية على الأولى في الأهمية:
هناك عشرات الآيات التي تربط ربطا وثيقا بين حقوق الله وحقوق الإنسان، وتتقدم في بعضها حقوق الله لأنها الأساس الذي ستقوم عليه حقوق الإنسان، فمن لم يتسلح بالتقوى بحيث يخشى الله ويخاف اليوم الآخر فلن يؤدي غالبا حقوق الناس ولن يتورع عن حرماتهم، وتتقدم في البعض الآخر حقوق الإنسان على حقوق الله من زاوية أن الله غني عن عبادة العالمين لكن الإنسان لا يستغني عن حقوقه الأساسية خاصة ما يتصل بعموم المجتمع من قيم الحرية والعدالة والوحدة والمساواة والعلم والعمل والتفكير والنظام، ومن هذه الآيات الآية الثانية في سورة  المائدة والتي يفضي تأملها إلى اكتشاف أنها توجب على المسلمين التعاون مع المشركين على ما يحمي حقوق الناس والتي عنونت لها بمصطلح (البِرّ)، وعلى ما يُقدس حرمات الله والتي تعد (التقوى) عنوانا عريضا لها، ونهى المسلمين عن انتهاك هذا الأمر بسبب كرههم للمشركين الذين صدُّوهم عن المسجد الحرام وعملوا من قبل على فتنهم عن دينهم، فقال تعالى: {ولا يَجرمنَّكم شَنَآنُ قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البِرِّ والتَّقْوى…} [المائدة: ٢]، والشاهد في الآية هو تقدم حقوق الناس على حقوق الله، مثل قوله تعالى لمحمد عليه السلام: {فإذا فرغتَ فانصبْ. وإلى ربك فارغب} [الشرح: ٧، ٨]، أي إذا وجدت وقتا غير مملوء بواجب ما من الواجبات العينية المعروفة، فانصبْ في العمل الذي تعتاش منه وتخدم أهلك ومجتمعك من خلاله، واتجه بمناجاتك ودعائك ورجائك إلى ربك، وتقرب منه رغبة في ما عنده في الآخرة، فما في الجنة من النعيم لا يقاربه أي نعيم في الدنيا، وحينما تطلب حسنة الدنيا اجعل نصب عينيك حسنة الآخرة، بحيث لا تنسى نصيبك من الدنيا وتبتغي في ما آتاك الله الدار الآخرة، وهذا هو التعانق الحق بين حق الله وحقوق الناس، مع تقديم حق الناس على حق الله، وخاصة إذا تذكرنا أن العمل المهني هو أوسع الشعب العبادية حركة وأطولها وقتا، حيث يصل في المتوسط إلى ثمان ساعات عمل كل يوم، ولا توجد أي شعبة عبادية تأخذ هذا الحيز من الوقت كل يوم، بما فيها الصلاة التي يصل متوسط وقتها إلى ساعة وربع تقريبا!
وعلى رأي من ذهب من المفسرين إلى أن معنى الآيتين: “فإذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها، فانصب في العبادة”، فإن التعانق ما يزال قائما وتقديم حقوق الناس ثابتا في المعنيين!

لمتابعة هذه السلسلة وغيرها من كتابات وكتب د. فؤاد البنا تابع قناة الكاتب على التليجرام:
https://t.me/ProFB

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى