مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٩٢) .. مقومات الوعي الجمعي (٢)

جواهر التدبر (٢٩٢)

مقومات الوعي الجمعي (٢)

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– ارتباط وراثة الأرض بمقومات الصلاح الاجتماعي لا الفردي:
أوضح القرآن الكريم أن وراثة الأرض إنما تتحقق بقيم الصلاح لعمارة الأرض وبالأخلاق الاجتماعية، مثل: الحرية، الوحدة، العلم، العمل، العدل، المساواة، النظام، وهذا ما يشير إليه بوضوح قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: ١٠٥ – ١٠٧]، فهذا الأمر المحوري (الوراثة أو التمكين) ينبثق من عدل الله ورحمته وحكمته وقيوميته وعظمته التي جعلت الدنيا بضآلة ما هو أقل من جناح البعوضة، ولهذا فقد كتب الوراثة على هذه الصورة، إما في اللوح المحفوظ الذي لا تبديل فيه أو في سائر الكتب السماوية التي تنزلت لإبلاغ الناس بمشيئته تعالى، وجعلها أمرا مفروغا منه بصورة قطعية، وهذا من أسرار استخدام عبارة (كتبنا) وليس فرضنا!
ولأن مقومات الصلاح منتصلة بصلب العبادة لله تعالى فقد أكد الله في الآية الثانية على أن هذه الحقيقة هي بلاغ من الله (لقوم عابدين)، على اعتبار أنها أخلاق جمعية وليست فردية، وهذه المقومات باعتبارها قيما حضارية هي في متناول جميع البشر، فإن غير المسلمين لو اعتنقوها أو تحلوا بها فإنهم يصيرون أفضل من المسلمين في مضمار التمكين وسيحصلون على وراثة الأرض على حساب المسلمين الذين فرطوا بهذه القيم والأخلاق رغم أنها من صميم دينهم؛ بسبب إصابتهم بالأمية الفكرية وإهمالهم لتدبر القرآن وقعودهم عن السير في مناكب الطبيعة وتقصيرهم في عمارة الأرض وصناعة الحياة، كما نرى في العصر الحديث منذ أن تبادل المسلمون المقاعد مع الغربيين، حينما أشرقت شمس الثورة الصناعية من الغرب، وما رافقها وتبعها من انبثاق لقيم الحرية والديمقراطية والعدالة والوحدة والعلم والعمل الدائب لعمارة الأرض وصناعة الحياة الكريمة للإنسان الغربي، في مقابل حضور دياجير الظلم والاستبداد والجهل والفساد والبطالة والتقليد في حياة المسلم الحديث!
ومن هنا فإن وراثة الغربيين للأرض منذ بضعة قرون تتسق تماما مع ما أورده القرآن في الآيات أعلاه، ولن يستعيد المسلمون زمام المبادرة ويستأنفوا العروج الحضاري ما لم يمتلكوا مقومات النهوض ومنها الوعي الجمعي.

– تجسيد المقاصد الجمعية في الشعائر التعبدية:
للشعائر التعبدية في الرؤية الإسلامية مقاصد عديدة، ومنها مقاصد اجتماعية تصنع الوعي الوحدوي وتخلق المشاعر الجمعية التي تجعل أمة المسلمين كلها كالجسد الواحد، بحيث يعاني كل فرد فيها من حساسية شديدة تجاه تعرض أي أخ له من ظلم في أي مكان من أي طرف كان، وكأنه هو من تعرض للظلم!
ونقصد بالشعائر التعبدية الصلاة والحج والصيام والزكاة والفكر والذكر، فكلها شعائر ذات أبعاد متعددة، وللبعد الاجتماعي نصيب وافر منها!
فالصلاة التي تمثل عمود الإسلام، الأصل فيها أن تصلى في جماعة حتى تنمي الوعي الجمعي في بعدها العقلي وتنمي الأحاسيس الوحدوية في مستواها القلبي، وحتى في بعدها الجسمي فإن تسوية الصفوف وتكميلها وعدم السماح بوجود فجوات فيها، والحركة الجمعية خلف الإمام، كلها تزرع في الوجدان احترام قيم النظام والانضباط!  وحتى لو أقيمت الصلاة بصورة فردية فإن جميع المصلين من شتى بقاع الأرض يصلون نحو نفس القبلة وبذات الأركان والشروط وأعداد الركعات، وحينما يقرأ كل واحد منهم الفاتحة المفروضة في كل ركعة فإنه يردد مع جماعة الأمة: {إياك نعبد واياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: ٥، ٦]، بصيغة الجمع حتى يستحضر دوما أنه جزء من هذه الأمة التي شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد، وضرب المثال لأفرادها في التآلف والتعاضد بالبنان أو البنيان يشد بعضه بعضا!
ولو تفكرنا في حقيقة صلاة الجماعة التي ينبغي أن تكون وفق نصوص الوحي ومقاصده، لرأينا أنها مدماك أساسي من مداميك وحدة الأمة، فهي: تجسيد مصغر لجماعة المسلمين ووحدتهم، ونموذج بسيط لما ينبغي أن تكون عليه جماعة المسلمين من تجسيد لقيم النظام والانضباط، وتأكيد عملي على لحمة الجسم الإسلامي وتساوي الجميع على صعيد واحد، ثم إنها تربي الفرد الذي سيصبح لبنة مناسبة تماما في جدار الأمة؛ حيث تشذب الزوائد الترابية الكامنة فيه، والتي تمنعه من الائتلاف مع غيره من المسلمين، وتزرع في وعيه أن تعانق الأرواح قبل تعاضد الأجسام، وتواد القلوب قبل تراص الأقدام، وائتلاف الأفئدة قبل التحام الأكتاف!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى