مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٩١) .. مقومات الوعي الجمعي (١)

جواهر التدبر (٢٩١)

مقومات الوعي الجمعي (١)

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– العناية بالفرائض الكفائية المتعدية أكثر من العبادات العينية اللازمة:
من المعلوم أن الفرائض التي أوجب الله على المسلمين القيام بها تنقسم إلى قسمين:
الأول: يضم ما يخص العلاقة بين الإنسان وخالقه، وتسمى بالعبادات العينية أو اللازمة؛ لأنها علاقة خاصة بين الإنسان وربه ومطلوبة من كل شخص بعينه ما دام يحمل شروط الأهلية والتكليف، كالصلاة والصيام والحج والفكر والذكر والدعاء.
الثاني: يضم ما يخص العلاقة بين الإنسان وسائر المخلوقات، وتسمى بالعبادات المتعدية أو الكفائية، ذلك أنها تتعدى الشخص إلى غيره من الكائنات والجمادات، وهذه العبادات التي تبقى أجورها تنهمر على الإنسان بعد موته، ما دام هناك من يستفيد منها، وهي المشار إليها بقوله عز وجل: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم…} [يس: ١٢]، لكن العبادات اللازمة ليست لها آثار ولذلك فإن أجورها تنقطع فور موت الإنسان!
وتمثل الفرائض الكفائية تجسيدا مثاليا للتنوع الذي تتطلبه عمارة الحياة، بحيث يدخل كل إنسان إلى مرضاة الله من زاوية التخصص الذي يناسب استعداداته والمهنة التي يتقنها: {ولكلٍ درجات مما عملوا} [الأنعام: ١٣٠]، مما يؤدي إلى تكامل الأدوار وصناعة الحياة بصورة مثلى، ومن الآيات التي تؤصل للفرائض الكفائية قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}، وقوله عز وجل: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }، والآيتان وإن كانتا تؤصلان لطلب علوم الشريعة والتفرغ لقضية الدعوة إلى الله من قبل مجموعة من المسلمين، فإن سائر التخصصات الحياتية تقاس عليهما؛ لأن شريعة الإسلام جاءت من أجل جلب المصالح ودرء المفاسد في المعاش والمعاد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، مع العلم أن بعض المفسرين ومنهم ابن جرير الطبري قد ذهبوا إلى القول بأن المقصود بأصحاب النفرة في الآية الأولى هم المجاهدون، لكن أغلبية المفسرين ترى أن المقصود بها الذين يتفرغون لطلب علوم الشريعة، ولا غرابة في ذلك فإن طلب العلم صورة من صور الجهاد، ولا سيما إذا تطلب هجرة وتغرباً.
ويبدو لي أن الله اختار مصطلح (طائفة) في الآية الأولى لكي يقول بأن واجبها ينبغي أن يجعلها تطوف لتعليم المسلمين جميعا، ومن ثم فإن العدد ينبغي أن يلبي حاجات كل فرقة تسكن منطقة ما من الأرض، بحيث يصل البلاغ الضروري إلى الجميع، واختار مصطلح (أمة) في الآية الثانية للإشارة إلى أن الطائفة التي نذرت نفسها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن تكون كافية للقيام بهذا الأمر على مستوى الأمة، وتقاس على هذين الأمرين سائر الواجبات الكفائية، من تفكير وتنظير إلى تربية وتأديب، ومن تطبيب وهندسة إلى تصنيع وبناء، ومن تجارة وزراعة إلى مهن حرفية وأعمال يدوية، وهكذا سائر المهن الداخلة في جلب المنافع ودرء المضار ضمن عملية خلافة الله في الأرض وعمارتها وفق منهج السماء!
ونختم هذه الفقرة بالتنويه بأن الإمام النووي نقل عن السلف الاتفاق على عدم إعطاء شيء من الزكاة لمن انهمك في نوافل الشعائر التعبدية بينما ينبغي إعطاء من تفرغ لطلب العلم من أموال الزكاة حتى لا يشغله طلب الرزق عن طلب العلم، وعلل ذلك بأن الأول منهمك في عبادة لازمة لن يستفيد منها سواه، بينما طالب العلم منهمك في عبادة متعدية وفريضة كفائية سيستفيد منها المجتمع بالجملة!

– إدراك أن الخلاص الفردي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الخلاص الجماعي:
من المعلوم أن الله أطلق مسمى الأمة على مجموع المسلمين، ذلك أنهم بحسب وصف النبي صلى الله عليه وسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولهذا خاطب الله المؤمنين جميعا، فقال: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}[الأنفال: ٢٥]، فإن الظلم يستنزل العذاب سواء كان ماديا أو معنويا، والعذاب مثل الوباء المعدي إذا نزل بساحة قوم فإنه يصيبهم جميعا، مع الاختلاف النسبي بحسب قوة المناعة الفردية، لكن جهاز المناعة الاجتماعية هو الحاسم في منع العذاب من النزول على الأمة، كما قال تعالى: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} [هود: ١١٧]، فإن الإصلاح والدعوة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقويات لجهاز المناعة الاجتماعي، ومن هنا فإن على كل مسلم أن يسهم في تحقيق الخلاص الجماعي من خلال أفعاله قبل أقواله، بل ومن خلال مشاعره ودعائه، إذ أن الصلاة تلزمه بأن يدعو الله في كل ركعة بالخلاص الجماعي حينما يقول: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: ٦] بصيغة الجماعة، وحتى لو قضى المرء سنوات يقيم صلواته بمفرده في مكان نائي من الأرض، فلا ينبغي له أن ينسى الدعاء لمجموع الأمة بالخلاص الجماعي، ولو قال: اهدني الصراط المستقيم لبطلت صلاته!

لمتابعة هذه السلسلة وغيرها من كتابات وكتب د. فؤاد البنا تابع قناة الكاتب على التليجرام:
https://t.me/ProFB

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى