جواهر التدبر (٢٨٧)
من شمائل الرجال
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– إقامة الصلاة:
من المعلوم أن عشرات الآيات ذات الصلة بالصلاة تأمر المؤمنين دوما بإقامة الصلاة وتصفهم بإقامتها وليس بأدائها، وهذا مطرد في كل المواضع التي ورد ذكرها فيها، ذلك أن الأداء يعتمد على الأركان والشروط المادية، بينما تتطلب الإقامة بجانب ذلك شروطا وأركانا معنوية تتمثل في حضور العقل وخشوع القلب؛ بحيث ينهمر زاد التقوى على القلوب فتزرع مشاعر معية الله التي يشعر بها المؤمن في كل آن، وتنتصب كدولة لله تحكم صاحبها في محراب الحياة، وتتخذ من القلب عاصمة لها!
ومما يؤيد ذلك أن الله بعدما ذكر صلاة الخوف التي تكون أثناء التقاء جيش المسلمين مع جيش العدو في أرض ما، قال سبحانه بعدها: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جُنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء: ١٠٣]، وكأن أمره تعالى بالذكر الكثيف بعد صلاة الخوف هو تكميل لما نقص من مشاعر المعية بسبب حالة الخوف من العدو والحذر من غدره، وبعد الخروج من حالة الخوف وحضور الطمأنينة فإن الله يأمر بالعودة إلى الأصل وهو إقامة الصلاة، وكأنه يقول إن صلاة الخوف التي تنقصها بعض الشروط والأركان المعنوية ليست إقامة وإنما أداء وإسقاط واجب اقتضته ظروف الخوف والحرب!
– المرونة وسعة الأفق:
إن صراط الله الموصوف دوما بالمستقيم، يتسم بسعة المساحة والدأب في الحركة من أجل استيعاب المتغيرات، ولا يكف عن التطور حتى يستفيد من كل جديد في عالم الأفكار والوسائل ولو جاءت من عند غير المسلمين، فإذا ضاق أو تجمد أو تقادم، انتقلت أعداد كبيرة من المحسوبين على الإسلام إلى سبل الجحود والنكران أو الجمود والتطرف، ولا سيما أن هذه السبل زاخرة بكثير من وسائل الإغراء والإغواء.
والآن تأملوا معي قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله..} [الأنعام: ١٥٣]، وركزوا على عبارة (فاتبعوه)، فكيف نتبع طريقا من المفترض أنه ثابت لا يتحرك؟ وبعد أن تأملتم الآية بتأنٍ ألا تجدون ما ذكرته في الأعلى ضمن ظلال هذه الآية؟!
– التحفيز على التسامح:
بالتدبر الأمثل للقرآن يتضح أن الله قد حفّزعباده على التسامح مع خلقه بصور عديدة من التحفيز التي تدفعهم للتسامح مع غيرهم، ومن ذلك ما أخبر الله بأنه عز وجل يجازي بالعفو على العفو وبالصفح على الصفح، كما قال تعالى: {إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء:١٤٩]، وأتبع صفة العفو بصفة القدرة ليزيل من الأذهان كل شك وريب قد ينشأ وليجيب عن كل سؤال قد يطرأ، وبالطبع فإنه لا مقارنة بين عفو وعفو، فقد يعفو الله عن خطيئة كبيرة لواحد من عبيده لأنه، أي عبده، عفا عن خطأ وقع فيه واحد من بني الإنسان، مع التذكير دوما بأن الله يتسامح في حقوقه تعالى خارج نطاق الشرك، ولا يتسامح في حقوق الناس بتاتا.